آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

الراهبة الحسينية.. أم البنين (ع)

زكريا أبو سرير

”الراهبة“ تعني في المفهوم العبادي هي المرأة الذي عهدت على نفسها بأن تكرس حياتها من أجل دينها وإصلاح غيرها، وهي الزاهدة عن الحياة طواعية وتفرغها للعبادة والتأمل والتبتل والتفكر في خالقها ومخلوقاته، وهذا المفهوم كذلك ينطبق على الرجل الراهب، وهو مفهوم انتزع من الديانة المسيحية، باعتبار أن سيدنا عيسى انقطع إلى ربه بالعبادة والتفكر والتبتل وزهد عن الدنيا وملذاتها، وعندها أخذ بعض اتباعه يتبعون نهجه العبادي باعتباره كان نبي تلك الأمة «أي نبيهم»، وإيمانًا منهم أن أقرب الطرق المؤدية الله وطاعته والبعد عن معصيته، وبهذا المفهوم الديني المسيحي العبادي يعتبر هو الضامن للوصول إلى رضا الرب، والبعد عن غضبه، فالرهبانية بمفهومها العبادي العام والمختصر هي العبادة المنقطعة لله.

”أم البنين“ هو لقب اشتهرت وتميزت به بين عشيرتها وقبيلتها وبين بني هاشم ومن يتولاهم من الموالين لأمير المؤمنين ، وإذا أردنا أن نتعرف على بطاقتها الشخصية، فهي فاطمة بنت حزام الكلابية، وكنيتها أم البنين.

تاريخ ولادتها وإن اُختلف عليه بين المؤرخين ولكن ما ذهب إليه غالبهم وهو الأرجح للمعقولية كما عبر عنه سماحة العلامة والخطيب والباحث الشيخ فوزي آل سيف، في محاضرة بعنوان ”شيء من سيرة أم البنين الكلابية“ أن كان ميلادها المبارك في السنة الخامسة للهجرة، ويكون زواجها من أمير المؤمنين في السنة الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين للهجرة، ويكون عمرها الشريف حينئذ تقريبًا عند زواجها من أمير المؤمنين في حدود التسعة عشر عامًا، يعني يقرب لعمر مولاتنا السيدة زينب بنت أمير المؤمنين باعتبار أن ولادتها في العام نفسه.

ولدت مولاتنا أم البنين في أحضان قبيلة ذاع صيتها بشجاعة رجالها وفروستهم، ولها مكانة مرموقة بين قومها وعشيرتها، وهي ذات فضل ومكانة عالية ومتميزة، وهي صاحبة العفة والصيانة والورع والديانة، كريمة قومها وعقيلة أسرتها فهي تنتمي لأشرف القبائل العربية شرفًا بل هي من سادات العرب.

وعندما طلب أمير المؤمنين الإمام علي من أخيه عقيل «رضوان الله عليه» قال: ”اخطب لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلامًا فارسًا ناصرًا لولدي الحسين“، فقال له تزوج بأم البنين الكلابية، فإنه ليس في العرب أشجع من أبنائها، ويعد عقيل بن أبي طالب نسابة خبيرًا وعالمًا بأنساب العرب وأخبارهم.

بعد وفاة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء ، تزوج أمير المؤمنين بأم البنين ورزق منها أربعة أبناء، وهم في الحقيقة أقمار أي يتمتعون بجمال فائق جدًّا وخاصة أبي الفضل العباس، وهذه الميزة الجمالية الخلقية تميز بها بنو هاشم وعرفوا بها، حسب ما تذكر لنا السير التاريخية. كان أكبرهم سنًّا وأكثرهم علمًا وأشجعهم وأفضلهم قدرًا ومكانة هو أبو الفضل العباس الذي كان قائد معسكر قوات الإمام الحسين في معركة كربلاء، الذي عُدَّ إليها.

كان نافذ البصيرة كما عبر عنه الأئمة أي أنه كان فقيهًا وعالمًا وواعيًا لحاضره ومستقبله، ولقب كذلك بالساقي حين فرق جيش بني أمية في السابع من شهر محرم إلى نصفين لكي يملأ القربة ماء من نهر الفرات ليوصله بعد ذلك إلى أطفال الإمام الحسين ، حين حرمهم الجيش من القرب إلى النهر والشرب الماء منه بعد عطش دام أكثر من ثلاثة أيام في صحراء قاحلة وحرارة شديدة.

وهذا خلاف ما عاملهم عليه الإمام الحسين عند المواجهة الأولى مع الحر بن يزيد الرياحي، حين كان غالب جيشه يكاد يموتون عطشًا، والحر يعد قائدًا عسكريًّا شجاعًا ومقدامًا، وهو من زعزع ببنات الرسالة، ولكنه ندم وتاب فيما بعد وانضم لمعسكر الإمام الحسين ، إذ أمر الإمام الحسين أنصاره في لحظتها بسقيهم واحدًا تلو الآخر، بل قام هو بنفسه «سلام الله عليه» بسقيهم بل وأمر كذلك بتشريف الخيول ترشيفًا.

هذا هو الفارق الكبير في التعامل الإنساني بين أخلاقيات بيت الرسالة والنبوة مع أشد أعدائهم بالرغم من أنهم في ساحة حرب، والله يعلم أين يضع رسالته، والحرب عبارة عن فرص وخداع ومكر دون أي اعتبار لأي مفاهيم أخلاقية أو إنسانية حسب مفاهيم أعداء الإنسانية والديانات السماوية، إلا أن هذه المفاهيم تسقط عند بيت الرسالة والنبوة وغير مقبولة بل مرفوضة بتاتًا، وإن للحرب عندهم أخلاقيات وقوانين إنسانية ورحيمة وعطوفة، أي أنهم لا يقاتلون لأجل أنفسهم بل لأجل الله سبحانه وتعالى.

والأبناء الآخرون لأم البنين من أمير المؤمنين ، هم جعفر وعثمان وعبدالله، وكلهم كانوا يعدون لكي يكونوا مشاريع شهادة في سبيل الله بين يدي إمامهم وسبط نبيهم المصطفى ﷺ لعام 60 للهجرة. كما أن وفاة السيدة الجليلة أم العباس وأم البنين في عام 64 للهجرة.

أم البنين عندما تشرفت بالزواج بأمير المؤمنين كانت تحيط علمًا ومعرفة بمكانة زوجها عند الله ورسوله، وكذلك بين أسرته من بني هاشم، فهي عارفة بمنزلتهم المخصوصة عند الله وعند رسوله ﷺ، بل مؤمنة ومعتقدة اعتقادًا راسخًا بولايتها لأمير المؤمنين ، وأنها سوف تعيش في وسط أئمة معصومين يفترض عليها طاعتهم والانقياد تحت أوامرهم ووولائهم، وهم بذلك أولياء الله وخلفاؤه المفترضو الطاعة من قبل الله «سبحانه وتعالى»، والمخالف لهم مخالف لله ورسوله ﷺ، ذلك أن الله أوجب مودتهم ومحبتهم وطاعتهم على عباده حتى قيام الساعة. وبالرغم من مكانتها الرفيعة في عشيرتها وقومها إذ كانت وطواعية منها «سلام الله عليها» بينهم خادمة لهم بما تعني هذه الكلمة من معنى، بل ربت أبناءها على هذا الإيمان والعقيدة على طاعة وخدمة أبناء الزهراء .

بل كانت تعلم علم اليقين أن أبناءها «سلام الله عليهم» كانوا يعدون لمشاريع دفاعية وقتالية عن إمامهم وسيدهم وأخيهم ابن الزهراء أبي عبدالله الحسين ، ويقتلون شر قتلة. وأبناء أم البنين لم يكونوا أبناء عاديين بل كانوا أقمارًا كما نبأنا التاريخ، وخاصة أبي الفضل العباس لشدة جماله وهيبته لقب بقمر بني هاشم، إذًا، فكيف يكون لأم حباها الله بأبناء بهذه الصفات والسمات الخلقية والخُلقية وتعلم أنهم سوف يقتلون شر قتلة وهم شباب في عمر الزهور قد لا يتجاوز أكبرهم الثلاثين عامًا، وأصعب ما على الوالدين مواجهته في حياتهم عندما تفقد أحد أبنائهم بين أيديهم.

ومولاتنا أم البنين تفقد كل أبنائها والوحيدين دفعة واحدة ما على الأرض مثيل لهم، ولا نستطيع تفسير حالة أم البنين، غير أنها كانت تمتلك إيمانًا عقديًّا راسخًا لا تزحزحه الجبال الرواسي في الله ورسوله وأهل بيته الأطهار «صلوات الله عليهم أجمعين»، ولو كان عندها ألف ابن مثل أبي الفضل فسوف تقدمهم دفعة واحدة فداء لابن الزهراء . وعندما قدم بشر بن حذلم إلى المدينة المنورة ينعى فيه الإمام الحسين ، التقى بأم البنين وهو يريد ينعيها في أبنائها ويخبرها عنهم واحدًا تلو الآخر: قُتل جعفر، قُتل عثمان، قُتل عبدالله، وكلما ذكر لها أحدهم، تقول له سألتك عن ولدي الحسين، حتى وصل ذكره إلى خبر مقتل أبي الفضل العباس، وهي مازالت تكرر عليه وتقول له ما سألتك عن أحد من أبنائي، بل سألتك عن ولدي الحسين ، قد قطعت أنياط قلبي، فأخبرها بمقتل الإمام الحسين، عندها وفي تلك للحظة المؤلمة الذي سمعت فيها نبأ شهادة أبي عبدالله الحسين، صاحت ولطمت على رأسها وصرخت: وا ولداه وا إماماه وا سيداه وا حسيناه، ومن هول الفاجعة والمصيبة أغشي عليها ونست أبناءها جميعهم حتى أبا الفضل العباس .

فكيف لو رأت أحقاد القوم ماذا صنعوا في جسد ولدها الإمام الحسين ؟! فقد قطعوا جسده إربًا إربًا يا أم البنين، ساعد الله قلبك يا مولاتنا زينب. فأية راهبة أنتِ يا أم البنين، وأية عابدة وأية صابرة، وأي إيمان تحملينه في قلبك يا مولاتنا يا أم البنين، لقد ظهر دورك البطولي الذي لم يحيد عن آبائك وعشيرتك، بل هو أعظم منهم وأشرف منهم؛ لأنه مقترن بالحسين، لذا سوف تظلين الطود الحسيني والرمز العلوي والبطولي الشامخ الذي يهتز له عروش الظالمين والحاقدين.

لقد كنتِ يا مولاتي يا أم البنين القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي يُحتذى به، وكنتِ بالفعل عنوانًا للثبات والإخلاص والبسالة والتضحية والشرف والعزة والكرامة في سبيل الإسلام والحق والعدالة، وقد شرفك الله يا سيدتي في الدنيا بأن جعلكِ بابًا من أبوابه تطلب من الحاجات فتستجاب، وشافعة لمن تحبين في يوم المحشر، فتقبل شفاعتك لمن تشائين بإذن ربك، نسأل الله قضاء حوائجنا وحوائجكم بحق مولاتنا أم البنين .