آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

السجادة الحمراء

عبد الله الناصر

خلال فترة دراستي في الكلية، نشأت بيننا صداقة عجيبة استمرت طوال سنوات الدراسة، وأضفنا عليها حباً أخوياً زاد صداقتنا قوة. كان «محمد» رفيق سكني، اعتدت مزحاته وأحاديثه وشقاوته، وحتى طقوسه وعاداته.

وإحدى عاداته أنهُ دائم الصلاة على سجادته الحمراء القديمة التي بدأت ألوانها بالذبول، يضعها في حقيبة ظهره أينما ذهب، مما لفت انتباهي ….

كنت مع محمد في طريقنا ذات يوم للسوق، وعلى مضض واستحياء سألتهُ عن سبب عدم ترك حقيبة ظهره بالمنزل والسير في خفة بهذا الجو المشمس الحار، فأجابني إن وقت الصلاة سيكون قريبا وسيحتاج سجادته، شدني الفضول وسألته عن سر هذه السجادة التي لا تفارقه؟؟

فقال لي: كنت طفلا أملك ذاكرة خالية فجاءت هي ووضعت فيها مكانا خاصا بها فزرعت من الحب ما أزهر قلبي سعادةً، هي أكثر النساء حناناً كانت الجدار الذي أستند عليه، إلا أن أخذها الموت منذ 9 سنوات ومضى، ولم يترك لي بديلا غير سجادتها هذه التي تأخذني إليها كلما أردت رغم بعد المسافات بيننا.

عندما أصلي على سجادتها أتذكر ملامحها الجميلة وأعود لدفء حضنها ومع الاشتياق صرت أجد في سجادتها بداية هادئة ليومي مع صلاة الصبح ومسكنا للراحة بعد يوم مثقل بالتعب في صلاة العشاء، أتذكر صوتها العذب بدعواتها الخاشعة فأبعث لها دعائي وأقرأ لها ما تيسر من الآيات،

سجادتها هي قبلتي التي توجهني لله وتذكرني للصواب، وتجعلني أبرها أكثر بعد رحيلها، تلك السجادة هي أغلى أرث أملكه من أمي، داهمته دمعة من عينيه فأوقفت هذا البوح.

كان خافت الصوت تخرج الكلمات بنغم الاشتياق ويترك لها صدى لا ينسى، كم تبعثر قلبي عندما أدركت أنهُ طوال تلك السنوات كان يحمل أمه على ظهره بهيئة سجادة صلاة، لتفتخر به وتشاركه حياته. ويثبت أن العاطفة لا تنتهي مادامت جذورها متأصلة في صلب الإنسان.

كيف لعاطفة حوّلت شخصا غريبا لصديق قريب مني كمحمد؟؟ كيف لعاطفة أن تجعلنا نتمسك بالأمور بقوة حتى بعد رحيلها كوالدة محمد؟ وكيف لعاطفة أن تحدد قراراتنا وترسم أهدافنا؟؟ كيف نبنيها ومن المسؤول عن هذه العاطفة التي تبقى بداخلنا؟

تقاطعت هذه الذكريات والأسئلة بداخلي وأنا استمع لمحاضرة الشيخ حسن الصفار «فلسفة العاطفة الدينية» التي ابتدأ فيها أول الليالي المنيرة لموسم عاشوراء لهذا العام، وكان طرح الشيخ ممزوجا بين التاريخ وعلم النفس والدين خليط متكامل جعلني أضع إجابات لكل ما دار بنفسي من أسئلة.

يؤكد علماء النفس أن الاستعداد في الإنسان منشق إلى قسمين:

استعداد عقلي «متمثل في مصدر التفكير والتعلم والذاكرة» واستعداد نفسي «متمثل في الغرائز والميول والعاطفة»

ومن هنا بدأ الشيخ الصفار بتوضيح أن كل إنسان يمتلك بداخله العاطفة التي اكتسبها من الحياة التي أحاطت به فهو لم يولد بها.

ويسير معنا الشيخ بعد ذلك لمعرفة أول عاطفة ممكن أن يكتسبها الإنسان ألا وهي «عاطفة حب الأم» يولد الطفل فيلقى الحضن الدافئ، الرضاعة والاهتمام، الخوف والرعاية منذ اللحظة الأولى لميلاده، فتتولد لديه أقوى العواطف الإنسانية إتجاه والدته فيرى العالم بعيونها يفرح لبسمتها ويحزن لدمعتها.

ومن هنا يطرح الشيخ الصفار الجانب الاجتماعي المرتبط بعاطفة الطفل نحو والدته ويدعو الوالدين بعدم العبث بعواطف الأطفال واستغلالها، وخاصة في مسألة الحضانة عند الطلاق فيجب أن نراعي عاطفة الطفل وضرورة بقائه بالقرب من والدته في السنوات الأولى من عمره. ومع زيادة محيط الطفل تبدأ عواطف أخرى بالظهور والتكوين كعاطفته نحو إخوته وأصدقائه والناس.

ينيرنا الشيخ بعد ذلك إلى أنواع العواطف المتكونة في الإنسان:

- عواطف جاذبة: تجذب الناس نحوها كالحب والاحترام وتتكون لدينا من المواقف السارة.

- عواطف منفرة: تبعدنا عن الناس كالكراهية والاحتقار وتتكون لدينا من المواقف المؤذية.

- عواطف مادية: تتكون بإتجاه أماكن معينة أو لشخصيات مجتمعية أو أشياء وممتلكات مادية.

- عواطف معنوية: تتكون بصورة صفات كحب الخير والصدق والكرم والعطاء والتسامح.

ثم أضاف الشيخ أن كل إنسان لديه كل أنواع العواطف السابقة ولكن تبرز لكل منا عاطفة معينة تكون هي السائدة بينهم وتكون الأقوى والمسيطرة. وعلماء النفس يحذرون من سيطرة العواطف المنحرفة «كحب الشر» والعواطف المنفلتة «كالغش» على سلوك الفرد.

هل العاطفة لها مقدار ثابت؟ وهل هي قدر بحياتنا لا يتحكم به؟

ولإن العاطفة مكتسبة فمن الممكن تغييرها والتحكم بها وهذا ما سيتطرق له الشيخ بتوسع بالمحاضرات القادمة، فالبيئة والثقافة تغير العاطفة وتنافس أحيانا العقل لذا على الإنسان أن يُهذّبها ويوجهها للصواب.

ينتقل الشيخ بعد ذلك للربط بين العاطفة والدين وبيان عمق العاطفة الدينية ودورها بحياتنا، فنحن كبشر كائن ديني نملك من الداخل حبا لديننا ولرموزه حتى يقوى ويصبح هوية ومنهجا.

قد نتفاوت كمتدينين في درجات عاطفتنا للدين فهناك الكثير من المقدسات والديانات ولكن محبة الله هي الأشد حبا وعاطفة بين الجميع. وكرر الشيخ أهمية احترام باقي الديانات وعدم استحقارها «فإذا أردنا أن يحترموا ديننا فعلينا أن نحترم دينهم» ولا يخفى أن منبر الشيخ لا يخلو من التذكير بمبادئ التسامح والاحترام بين الناس دائما.

الدين يتشكل بداخلنا بثلاث قوى «عقلية - سلوكية - عاطفية» ويجب التركيز على جانب العاطفة في الدين المتركز بحب الله ونبي الأمة محمد ﷺ وأهل بيته والتركيز على الدعاء الذي يزيد حبنا للخالق ويقوي علاقتنا وايماننا به.

ويختم الشيخ محاضرته بأهم عاطفة دينية نحن نعيش على أعتابها هذه الأيام في موسم عاشوراء حيث تتفجر العواطف، وتتأثر بما قدمه أهل بيت النبوة من تضحية وثبات.

لابد أن نجمع بين العاطفة والعقل لأن هذا الدمج هو ضمان يجعل قضية الحسين لا تموت، علينا أن نوجه عاطفتنا لتخدم أهداف مسيرة أهل البيت فيأتي عاشوراء كل عام ليملأ بيوتنا بالدروس والحكم وتعلو شعارات الحسين مجالسنا وينير شيوخ الدين منابرنا لنرتقي بفكر وأخلاق الحسين ولتسكب الدموع لثاراته فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام، وهنيئا لمن نال ذلك.

قلبك مساحة كبيرة صالحة لكل خير بذورها عاطفتك نحو ربك ودينك تسقيها بعاطفتك لنبيك وأهل بيته تنبت لك شجرة قوية ثمارها عاطفة نحو والديك وأولادك وإخواتك وجيرانك ووطنك ومبادئك ومجتمعك وإنسانيتك. ومهما مرّت من صعاب تكسر هذه الشجرة ستنبت من جديد لأن أساسها حبك القوي لخالقك.

لتكن سجادتنا الحمراء هي أرث ثقافة الحسين، لنحمل على ظهورنا، وعلى صدورنا وفي راياتنا وسلوكنا ثقافة الحسين ليرى العالم أن الحسين تاريخ والتاريخ لا يموت.