آخر تحديث: 6 / 12 / 2024م - 1:54 م

المثقف العربي والعلاقة بين التاريخ والجغرافيا

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في أحاديث سابقة منذ قرابة عقد من الزمن، تناولنا أزمة الفكر العربي في الأبعاد السياسية والاقتصادية والفلسفية والاجتماعية. والموضوع جله يُختزل في التناقض الذي يعيشه المجتمع العربي، ومن ضمنه النخب الفكرية والثقافية، وبين ما نتوق إليه من تحولات تجعلنا في القلب من التحولات الكونية التي تجري من حولنا.

فالمثقف العربي في الأغلب يعيش ازدواجية بين فكره وممارسته؛ بين توسله الحداثة كوسيلة لا مناص منها للانتقال بالمجتمع العربي، وبين راهنه «المتجلبب» في عصر غيره. إن ذلك يعني ضرورة تحقيق التماهي بين راهنية الفكر وراهنية الممارسة، بما يفرضه ذلك من انتقال ليس فقط في مجال الفكر؛ بل في البنى الاجتماعية، لكي يكون ممكناً تحقيق التماهي بين الفكر والممارسة.

الفكر العربي المعاصر في جذوره، هو نتاج عصر اليقظة العربية الذي قارع الاستبداد العثماني منذ منتصف القرن التاسع عشر، الذي بشر بالتنوير وبالقيم السياسية الغربية. وقد واجه هذا الفكر تعقيدات كثيرة بعد أن أودى بالحلم العربي، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

إن قراءة أزمة المثقف العربي الراهنة، ستظل مبتسرة وناقصة إن لم يتم ربطها بسياق تاريخي ظل محكوماً حتى هذه اللحظة بخطوط ثلاثة: خط التقليد الرافض بقوة للتفاعل والتلاقح مع روح هذا العصر والقبول بقوانينه، وخط القطع الكامل مع الماضي، واعتبار الحاضر منطلق البداية والنهاية، وخط زاوج بين التقليد والمعاصرة، وكان لهذا الخط الحضور الأقوى منذ بدء عصر اليقظة العربية.

لقد تصدر خط المزاوجة بين التقليد والمعاصرة، معارك الكفاح الوطني ضد الاحتلال الأجنبي. وفي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تصاعدت معارك الاستقلال، وتحررت الأقطار العربية، لكن ذلك لم يغيّر كثيراً من الواقع السياسي والاجتماعي العربيين، فقد استمرت أزمات ما قبل الاستقلال.

لقد عجزت النخب العربية الجديدة عن إحداث تغيرات جذرية، تنقل من حال العجز إلى حال النهوض والتقدم.

والخلل هذا في أساسه، هو نتاج أزمة تاريخية تمثلت في رسوخ البنيات القديمة، وعدم القدرة على اللحاق بقيم الدولة العصرية. وفي مجال الفكر ظل المثقف العربي معتصماً بثقافته التقليدية على الرغم من حديثه الصاخب عن الحداثة. وكان ذلك في حقيقته انعكاساً لهشاشة الهياكل الاجتماعية التي استند عليها المثقف العربي، وغياب المشروع النهضوي القادر على تحقيق التجانس بين المعنى والمضمون. يضاف إلى ذلك كله، تبعية المثقف في الثقافة والسياسة والتربية لماضٍ سحيق، وغربة في الجغرافيا، وعجز عن الوصول إلى نقطة التقاطع بين الزمان والمكان، حيث مكامن التاريخ والجغرافيا.

وأزمة المثقف العربي لا تنتهي عند هذا الحد، فهناك استنساخ مشوّه لأفكار الحداثة، من غير توطين أو خلق أو إبداع، وخلط بين الحداثة وما بعدها. وهناك عجز شبه كامل عن صياغة فلسفة عربية جديدة قادرة على الإجابة عن الأسئلة الملحة المطروحة، بما يتطلبه هذا المنعطف من التاريخ، واستحضار فلسفة البرهان في موروثنا العربي والبناء عليها، وليس العودة إلى ما قبلها بعهود سحيقة.

وفي مجال السياسة لم يتنبه المثقف العربي، إلى أهمية اقتناص الفرص التاريخية التي أتيحت لنا، لبناء أمة قوية قادرة على أن تشارك بفاعلية في مسيرة الإنسانية الصاعدة؛ بل إننا وللأسف «نحن العرب، نخباً ثقافية وفكرية» عميان عن منجزاتنا التنموية والاقتصادية وانتصاراتنا الوطنية والقومية، واعتبرناها حلقة معتمة وعدمية في التاريخ العربي ينبغي تجاوزها، مع أنها كانت الأجمل والأثمن في كل تاريخنا منذ وطأ المغول أرضنا العربية.

وحين تعجز الأمم عن مواجهة أقدارها، ويغيب الوعي التاريخي لديها، تلجأ إلى الحيل الدفاعية تارة بترويج لغة اللذة، وتارة أخرى بالترويج للعنف. لقد لجأت الشعوب العربية في العقود الأخيرة وبتحريض من النخب الثقافية إلى ماضيها في أكثر حلقاته تكلساً وتأخراً، كملاذ تستند عليه، فكان استحضار لغة التطرف والإرهاب بديلاً عن الحلم اللذيذ في الوحدة والتنمية والانعتاق. فكان المروق مصادرة الكيانات الوطنية، واستخدام مهرجان «الربيع» الذي تكشف عن خريف أجرد.

ويبدو أنه لاطوق نجاة لهذه الأمة، سوى تبديل ثقافة بثقافة والالتقاء في بوتقة واحدة، لأمة تجمعها لغة وجغرافيا وتاريخ، ولن يكون ذلك ممكناً إلا بتحقيق التجانس بين المشروع وأدواته، وبين المعنى ومضمونه.

الفكر العربي المعاصر نتاج عصر اليقظة العربية، الذي قارع الاستبداد العثماني منذ منتصف القرن ال.19