آل غريب باحثا في هوية الشعر الحسيني
قصائد الحزن الكربلائي بلا عد، فهي تضرب عميقا في الثقافة الشيعية بالدرجة الأولى، والثقافة الإسلامية بنحو أعم، حيث الشعر يتمثل كخزان كبير للعواطف والأفكار، والحوادث والتواريخ التي تتصل بهذه الحادثة المأساوية، منذ كانت بيانا سياسيا وحتى أصبحت مهرجانا وطقسا احتفاليا، وفي إصداره الأخير ”تجليات الهوية في الشعر الحسيني الحديث“ الصادر عن دار دراية يحاول الشاعر ياسر آل غريب أن يفتش في النصوص عن أحوال الهوية وأفعالها، منطلقا من الإحساس بالتباين والاختلاف بين النصوص الحديثة التي استدمجت كربلاء لجهة توظيفاتها لهذه الحادثة، وتماهيها مع مفردات المشهد الكربلائي وصوره ورموزه، ما بين تجارب منغلقة على هواجسها الطائفية والدينية، وأخرى منحازة لخياراتها الإنسانية والذاتية.
ينشغل الإصدار في فصوله الأولى بتأسيس مفاهمات أولية حول مفهوم الهوية ومكوناتها، قبل أن يفحص انعكاساتها على النص الشعري، سيبحث عن تلك الأشياء التي تترك بصمتها على لغة الشاعر وفكره، ابتداء من جذوره الضاربة في المكان وانتهاء بالبنى الثقافية التي سترفده بما يشبه كاتالوج الحياة. هنا تتبدى الطفولة بمثابة الرافد الأول الذي تتقوم به الهوية، أو ما يسميه المؤلف بعتبة الهوية الأولى، حيث تتسلل كربلاء من خلال ذكرياتها إلى نصوص جملة من الشعراء البارزين الذين عرفوا الطريق إلى الحسين أول ما عرفوه في طفولتهم، هذه الرابطة العاطفية التي ستترك آثارها على النصوص، قبل أن تدخل هوية الشاعر وهوية الشعر معا في لحظة النمو لتهبنا نصوصا مفعمة بالقلق المعرفي، هذا القلق الذي سيتجلى في صورة تحفظ نقدي عند محمد العلي على سبيل المثال، وهو يجهد في صياغة سؤال كبير كما يصف المؤلف عن هوية الطف، أو صورة الانفتاح والاتساع في الرؤية كما في تجربة السيد مصطفى جمال الدين، وصورة المراجعة التاريخية والمسحة الصوفية على غرار ما تعكسه نصوص السيد محمد حسين فضل الله.
في هذا الإصدار يتتبع آل غريب إشارات الهوية من ثقوب النصوص، فتثيره إطلالة المكان من نافذة النص الكربلائي، كحضور علامات الوطن في نص أحمد بخيت، وعلامات المدينة في نص على الشيخ، والدلالات الدينية في نص جورج شكور، ومثلها الطائفية في نص عايض القرني. وبالمثل يقارب التوظيف السياسي والرمزي لموضوعة كربلاء في الشعر الحديث، كما في شعر عبدالعزيز المقالح، وأحمد مطر، وبدر شاكر السياب، مختتما الإصدار بمناقشة التجارب التي سعت لتشكيل هوية جديدة للشعر الحسيني، بالخروج عن نمطيته وتقليديته، وبالانحياز إلى الحداثة الشعرية وأدواتها، كما في تجربة جواد جميل وبحثه عن لغة ثانية، والذهاب باتجاه بلاغة قصيدة النثر والرهان على الإيقاع الداخلي للنص في تجربة علي الفرج، وأسلوب الومضات النثرية كمساحة لتكثيف الرؤية في مثالي علي الخباز وعلي الشيخ.
تجلت روح الشاعر والباحث في هذا الإصدار، وإن رجحت كفة الشاعر وهو يتذوق ويختار، ويضيف ويمحو، لهذا الإصدار اللافت في عنوانه، والذي لا يخلو من شجاعة في مقاربة موضوعته، فالهوية بذاتها عنوان إشكالي، منفتح على خيارات الباحث وتحديداته، والحديث في الكتاب انصب في أغلبه حول هوية الشعراء، أكثر من هوية الشعر، وكان يمكن أن يختبر الهوية الإنسانية للشعر الحسيني وتحولاتها، ضمن مقاربة لتحولات الخطاب عبر المحطات التاريخية التي مر بها، ومر بها كتاب هذه النصوص، فهي نصوص تكشف بمثل ما تخفي، وتستدعي بمثل ما تطرد من مشهد الحادثة، بحسب أسئلة الهوية التي تفرضها كل مرحلة، هوية الإنسان، وهوية الشاعر، وهوية القصيدة.