آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

قراءة في كتاب مقالة في التسامح

جهات الإخبارية الدكتور عبداللَّه بوسلهام*

الكتاب: مقالة في التسامح.. كيف نعطي التسامح قوة التخلق؟
الكاتب: زكي الميلاد.
الناشر: نادي القصيم الأدبي - بريدة.
الصفحات: 164 صفحة.
سنة النشر: الطبعة الأولى 1440 هـ  - 2019م.

مدخل

يكاد يجمع الدارسون لتاريخ مفهوم التسامح عند الغرب، على ردِّ نشأته إلى ما عرفته أوروبا من صراعات ونزاعات دينية وسياسية وحاجتها لتجاوزها، فقصته هي في أغلبها قصة المعركة ضد التعصُّب والاضطهاد.

إذ مع بداية القرن السادس عشر ظهرت أدبيات وخطابات سعت إلى إبراز حقيقة التسامح، ولفت الانتباه إلى أهميته في إيجاد الحلول للخلافات المشعلة للفتن الدينية والسياسية والاجتماعية. ثم ما لبث أن تطور المفهوم ليصير أحد أهم الأسس الفكرية والفلسفية التي استندت إليها الذهنية الغربية لإحداث تغييرات وإصلاحات في كل مجالات الحياة، بل غدا من المفاهيم المؤسسة لمذاهب فكرية حديثة كالليبرالية، ومن أهم المفاهيم التي قامت عليها فلسفة حقوق الإنسان.

كما استطاع هذا المفهوم تخليص العقل الغربي من الفكر الوثوقي، ومن رواسب اللاهوتية والأخلاقيات السلبية التي سادت أوروبا عصر الظلمات، ليكون من أهم المقالات التي حققت لأوروبا نهضتها وتنويرها فحداثتها. وذلك بعد أن تمكن المنظرون له من تحريره من الحمولة الدينية التي نشأ في حضنها، وترعرع سياقًا ونصًّا لتحتضنه الفلسفة، وما تفرّع عنها من علوم إنسانية سعت إلى إعادة بناء تصوره على أسس عقلانية كالشكوكية والحرية والاستقلالية والضمير...

ويأتي كتاب «مقالة في التسامح» لصاحبه الأستاذ زكي الميلاد، في سياق يعرف فيه العالم العربي والاسلامي ظروفًا مشابهة لما عاشته أوروبا قبيل النهضة حيث الفتن الدينية والسياسية والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية.

سياق أملى على الأستاذ زكي استدعاء أهم مفهوم استند إليه مصلحو أوروبا وأنوارها لتجاوز عصر الظلمات، ولتحقيق النهضة والريادة الحضارية، وهو مفهوم التسامح. وذلك قصد لفت انتباه منظري الإصلاح والتغيير إلى أهم مفهوم تم تغافله في الفكر الإسلامي المعاصر رغم قيمته وأهميته السالفة الذكر. وكذا للتأكيد على ضرورة تحويل طريقة النظر إليه من كونه يتحدد في نطاق المختلفين، إلى نطاق المتفقين من جهة الدين، وترجيح أولويته في النطاق الداخلي على النطاق الخارجي.

ومن أجل بلوغ تلك الغاية سعى الأستاذ زكي الميلاد في هذا الكتاب؛ متوسلًا منهجًا جمع فيه بين الفحص والتحليل، النظر والتطبيق، الوصف والنقد؛ إلى جانب التذكير بأهم ما جاء في المجالين الأوروبي والإسلامي العربي حول مفهوم التسامح، لاستجلائه وإعطائه قوة المعنى على مستوى النظر، وقوة التخلُّق على مستوى العمل، مراعيًا في ذلك تطور المفهوم في الأزمنة الحديثة.

وقد استوقفت الباحث أثناء بحثه عن مفهوم التسامح عند مفكري العرب، أربع مفارقات إشكالية صرح بها في مقدمة الكتاب، وجاء متنه لمعالجتها؛ وهي:

1 - رغم تعرفنا على «السماحة» باعتبارها صفة مثبة للشريعة وللعالم بها، فإننا لم نتعرف على مفهوم «التسامح» وهو مفهوم في حقيقته فعل متولد عنها ومقترن بها.

2 - استقبلنا القرن العشرين بمعركة فكرية في مجالنا العربي حول مفهوم التسامح في الإسلام والمسيحية، جسدتها المناظرة التي جمعت فرح أنطون بالشيخ محمد عبده، كان من المفترض أن تؤدي إلى إدراك مبكر لهذا المفهوم، وتضعه في دائرة الاهتمام، لكنها لم تترك أثرًا حقيقيًّا، بل إن المحاولات التالية لها في الموضوع، لم تأتِ على ذكرها.

3 - تكوَّن انطباع عند بعض المفكرين العرب يعتبر مفهوم التسامح مفهومًا غربي النشأة والابتكار والتطور، في حين أنه مفهوم إسلامي ثابت وأصيل.

4 - ظهور أصوات تدعو إلى التخلي عن مفهوم التسامح واستبداله بمفاهيم أخرى، لكونه في نظرها يتَّسم بالتعالي، وأنه يأتي من باب الإحسان والامتنان، ويستبطن نوعًا من التراتبية واللامساواة، وأن فيه ميلًا إلى الضعف والتراخي في زمن تسوده القوة، في حين أنه مفهوم خلَّاق ونبيل، تتجلَّى فيه نوازع الخير، وجمالية الروح، وعظمة الضمير.

تلك الإشكاليات تفرَّعت عنها أسئلة مركزية ذكرها الباحث زكي الميلاد في مقدمة الكتاب، وجعل بعضها عناوين لمحاوره.

هل التسامح مفهوم غربي؟

مفارقة هذا السؤال في نظر الباحث، أنه أتى من كتاب عرب معاصرين ولم يأتِ من الغربيين، وقد وقف عند ثلاثة مواقف تميل إلى اعتبار مفهوم التسامح غربي النشأة والتطور، وأنه مفهوم وافد على الثقافة العربية:

أولها: يرى البعض أن التسامح منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي بات يمثل سمة عامة في الفكر الغربي، وفي المقابل يعد غائبًا عن اللغة العربية، ومن ثَمَّ فهو غائب بالتبع عن انماط التفكير كافة التي تعمل عبر هذه اللغة.

وأبرز من مثل هذا الموقف رجل الدين المسيحي اللبناني سمير الخليل، وشرحه في مقالته «التسامح في اللغة العربية» المنشورة في كتاب مشترك مع كتَّاب بريطانيين حمل عنوان: «التسامح بين شرق وغرب.. دراسات في التعايش وقبول الآخر»، وآخر ما انتهى إليه صاحب هذا الرأي تأكيدًا لموقفه، أن كلمة التسامح في المجال العربي ليست واحدة من تلك الكلمات التي تَمَّ النضال بشأنها خلال القرن التاسع عشر أو حتى في القرن العشرين، فهي كلمة تم تجاهلها كليًّا وبات النظر إليها من نافل القول، لأنها لم تجد هناك من يفكر بها أو ينطق باسمها.

سجل الباحث الميلاد على هذا الموقف ملاحظات أهمها:

1 - أنه يتناغم مع رأي فرح أنطون الذي اعتبر فيه أن المسيحية أكثر تسامحًا من الإسلام في العلاقة مع العلم والفلسفة، والفرق بينهما أن الخليل لم يجد من يحاججه ويواجهه كما فعل محمد عبده مع فرح أنطون في بداية القرن العشرين، بل إن الخليل صار مرجعًا يستشهد به من طرف كتَّاب وباحثين معاصرين.

2 - أنه يتصف بثلاثة أمور هي: التحيُّز والجزم والحصرية، فمن جهة التحيُّز فقط اصطفَّ إلى جانب الموقف الغربي معلنًا تفوُّقه، واعتبره العمود الفقري لليبرالية التي هي فلسفة عامة للبشرية في نظره. ومن جهة الجزم فهو يعتبره موقفًا جازمًا ثابتًا غير قابل للتعديل والتخطئة بالرغم من وجود أقوال تعارضه وتفارقه. أما من جهة الحصرية فقد حاول الخليل حصر مفهوم التسامح بالمجال الغربي مما يستوجب في نظره البحث عن أصوله التاريخية في ذلك المجال.

3 - انتقد الميلاد ما ذهب إليه الخليل من نقصان كلمة التسامح وهشاشتها في اللغة العربية بما أورده الدكتور جابر عصفور في كتابه «هوامش على دفتر التنوير»، حيث وجد للكلمة ثراء دلاليًّا تجاري به القيم الحديثة، إذ تدل على السياسة التي يتجمل بها الفرد في التعامل مع كل ما لا يوافق عليه ويصبر عليه، ويجادل فيه بالتي هي أحسن، ويتقبل حضوره بوصفه حقًّا من حقوق المخالفة، ولازمة من لوازم الحرية التي يقوم عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة.

4 - يرى الميلاد أن الخليل لم يستحضر مناظرة فرح أنطون ومحمد عبده، حيث توفق الشيخ عبده في نقض مقولة أنطون، وكشف أصالة مفهوم التسامح وعمقه في الإسلام.

ثانيها: يرى البعض أن التسامح إنما يعبّر عن ثقافة مسيحية غربية مشبعة بالاستسلام، وتقديم الخدين معًا للصفع كعربون لمقام الصفح، ونادت بهذا المفهوم المسيحية زمن الاضطهاد لتجد مبررًا للتعايش، وتعطي القوة المتغطرسة مجالًا واسعًا للطغيان والاستبداد، وكان من نتائج هذه التسامحية الغربية الدينية حلول عصر الظلام الغربي.

ذهب إلى هذا الرأي الباحث الجزائري الدكتور عبد القادر بوعرفة في تصديره لكتاب: «التسامح الفعل والمعنى» ودعا فيه إلى الانتقال من خطاب التسامح إلى خطاب العفو، باعتبار أن الأول في نظره غربي مسيحي، والثاني إسلامي قرآني ينزع نحو القوة والرفعة.

هذا الرأي في نظر الميلاد ظهر عليه امتزاج الحس النفسي بالحس السياسي الغاضب والحس الأيديولوجي؛ فقد وجد في نفسه أن مفهوم التسامح يعكس الضعف، ويزداد خطابه انتشارًا وتداولًا سياسيًّا في العالم يخفي معه خبثًا حيث يعرضه الكبار كسلعة إلى عالم الصغار ويدعونهم لممارسته دون أن يمارسوه هم. أما أيديولوجيًّا فهو يرى أن مصطلح التسامح لم يدخل إلى الثقافة العربية إلَّا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن طريق الكتاب المسيحيين العرب.

جاء تعقيب الميلاد على ذلك من جهة متفقًا مع هذا الرأي لأنه فتح أفق العلاقة بين مفهومي التسامح والعفو، ومن جهة أخرى اختلف معه لأن النظر فيه لمفهوم التسامح كان متجهًا إلى الخارج ولم يلتفت إلى تطبيقات التسامح في نطاق الداخل الإسلامي، ولأنه يقترن بالقوة عكس الحقل الدلالي للتسامح في اللغة العربية.

ثالثها: يرى أصحاب الموقف الثالث أن التسامح كان موجودًا في التراث العربي الإسلامي، لكنه لم يكن بذلك الوضوح الذي تجلى به في الفكر الأوروبي. ذهب إلى هذا الرأي الباحث الأردني محمد أحمد عواد وأبان عنه في مقالة بعنوان: «منطلقات التسامح عند الفلاسفة المسلمين» نشرها في مجلة التسامح شتاء 2003م.

هذا الموقف في رأي الميلاد ينطلق من حالة الوضوح في جانب علاقة الفكر الأوروبي بمفهوم التسامح لوجود كتابات معروفة في هذا الشأن، ومن حالة عدم وضوح بالقدر الكافي في جانب علاقة الفكر العربي والإسلامي بمفهوم التسامح لقلة الدراية بالكتابات في هذا الشأن، حيث تم تغافل أهم المحاولات المعاصرة التي تناولت المفهوم من قبيل محاولة الشيخ محمد عبده في كتابه الذي جمعه تلميذه محمد رشيد رضا ووضع له عنوان: «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، ومحاولة الشيخ محمد الغزالي في كتابه: «التعصب والتسامح بين المسيحية والاسلام»، ومحاولة الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابيه: «مقاصد الشريعة الإسلامية» و«أصول النظام الاجتماعي في الإسلام» في الأول تطرق الشيخ ابن عاشور لمفهوم السماحة باعتباره أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها، وفي الثاني اعتبر الشيخ ابن عاشور أن التسامح من خصائص دين الإسلام ومن أشهر مميزاته وأدل حجة على رحمة الرسالة الاسلامية.

خرج الميلاد بعد مناقشته تلك المواقف بخلاصة حاصلها أن التسامح ليس مفهومًا غربيًّا، وإنما هو مفهوم إسلامي ثابت وأصيل عرفت به الشريعة الإسلامية، ووصفت بالشريعة السمحة، وظلت متلازمة بهذا الوصف البديع، ومن شدة هذه المتلازمة وعمق هذه الصلة بين الشريعة والتسامح صار عالم الدين يطلق عليه صاحب السماحة.

وفي مقابل ذلك أبرز الميلاد أن مفهوم التسامح لم يعرف في المجال الأوروبي إلَّا حديثًا، وشهد تطورًا ومتابعة منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، وبقي متجددًا ومتراكمًا وتحددت له وجهة غير الوجهة التي تحددت له في ساحة الفكر العربي والإسلامي، ولإثبات ذلك توقف الميلاد عند أهم من ألَّف في التسامح في الفكر الغربي الحديث.

جون لوك ورسالة التسامح

هذه الرسالة جاءت جوابًا من لوك لسؤال من صديقه فيليب فان لمبروش، يطلب فيه رأيه حول التسامح المتبادل بين المسيحيين، وتحددت أطروحتها بصورة رئيسة في ضرورة الفصل التام بين مؤسسة السلطة الدنيوية ومؤسسة الكنيسة الدينية، والكشف عن حدود سلطة الحاكم المدني من جهة، وحدود سلطان الكنيسة من جهة أخرى.

فالدولة في نظر لوك تكونت لغرض وحيد هو المحافظة على خيرات الناس المدنية وتنميتها، ولا ينبغي أن تمتد إلى نجاة النفوس وتمس أي شيء يتعلق بالحياة الآخرة. أما الكنيسة في نظره فهي جماعة حرة مؤلفة من أناس اجتمعوا بإرادتهم لعبادة الله علنًا على النحو الذي يرونه مقبولًا عنده، ويكون كفيلًا بتحصيلهم للنجاة، ولا يمكنهم فعل أي شيء يتعلق بامتلاك خيرات مدنية، ولا يجوز لهم استخدام القوة لكونها من اختصاص الحاكم المدني. فالدولة والكنيسة في نظر لوك جماعتين مختلفتين كل الاختلاف في الأصل والغاية والجوهر، لذلك الحدود الفاصلة بينهما ثابتة ولا يمكن الخلط بينهما.

حدَّد الميلاد عناصر أهمية رسالة لوك في الأمور الآتية:

أولًا: أنها لفتت الانتباه إلى مفهوم التسامح وحملت اسمه وجعلته في دائرة الاهتمام، وشكّلت له وجودًا ممتدًا فسدَّت فراغًا حيويًّا في موضوعه، فصارت بذلك نصًّا مرجعيًّا يستند اليه وينطلق منه؛ حيث أنتج نصها في عصر كان فيه التسامح مطلبًا ملحًّا وحاجة ضرورية، سواء للمنتمين إلى العلم الديني أو المنتمين للعلم المدني.

ثانيًا: في هذه الرسالة قدّم لوك رؤية معتدلة ومتوازنة وبعيدة عن التحيُّز الديني والسياسي، لتحرّرها من فكرة المصلحة لا من جهة مؤسسة السلطة ولا من جهة مؤسسة الكنيسة، هذا الاعتدال والتوازن في الرؤية كان من عوامل رواجها الواسع في عصرها وما بعده.

ثالثًا: ظهر لوك في الرسالة ملتزمًا بالإيمان الديني، ومدافعًا عن التجربة الدينية، ومتمسكًا بالتعاليم الأخلاقية، ومن تجليات ذلك موقفه من عدم التسامح مع الملحدين الذي جرَّ عليه ملاحظات انتقادية.

رابعًا: أن أطروحته في الفصل بين المؤسستين الدينية والمدنية تحققت في العالم الأوروبي، وأسهمت في إنقاذ الدول الأوروبية الحديثة من الفتن والحروب الدينية، وفي إنقاذ مؤسسة الكنيسة أيضًا، كما أعادت التوازن الديني والسياسي في العلاقة بين السلطة والكنيسة، فقد اتخذت من التسامح حكمة وفضيلة، مبدأ وأساسًا وجهة ومسارًا، بقصد تعطيل ومنع استعمال القوة والإكراه في فرض الآراء، وفي العلاقات بين الجماعات، ودعت في مقابل ذلك لإضافة قاعدة العدالة، والعمل بالإحسان والمحبة في التعامل مع الآخرين المختلفين.

خامسًا: حصر لوك خطاب التسامح في المجال الديني، وتحديدًا في نطاق التسامح الديني المسيحي، مما جعل البعض ينتقصون من أهميته أمثال الدكتور كمال عبد اللطيف في كتابه الوجيز: «العرب والحداثة السياسية»، حيث وصفها بالمحدودية وأنها قد تم جاوزها لاحقًا في أدبيات فلسفة الأنوار.

تساءل الميلاد عن سبب هذا الحصر وعده غير مفهوم، لأن لوك لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد للأقسام الأخرى للتسامح، ولأن لوك ينتمي إلى زمرة الفلاسفة الكبار، فلو كان من رجال الدين لأصبح مفهوما لماذا الحصر والتركيز على التسامح الديني.

سادسًا: رغم انتماء رسالة لوك إلى مجال التسامح الديني، إلَّا أنها لم تكشف عن رؤية لوك تجاه عالم الإسلام؛ فقط وردت بعض الإشارات العابرة والمحدودة الخالية من الكلام والبيان.

فولتير وقول في التسامح

في مطلع ستينات القرن الثامن عشر الميلادي نشر الفيلسوف الفرنسي فولتير «1694-1778م» كتابًا حول التسامح عرف حسب الترجمة العربية التي أنجزها الباحث المغربي سعيد بن كراد بعنوان: «قول في التسامح»، وهو يضم مجموعة من المقالات القصيرة المثيرة بتساؤلاتها ونقدياتها وسردياتها ووقائعها ومناقشاتها.

أراد فولتير من هذا الكتاب أن يقدم حسب قوله سردًا مختصرًا وصادقًا لما سمّاه الحماقات التي ارتكبت وجرت فيها دماء كثيرة أما على المقصلة، وإما في المعارك ابتداء من القرن الرابع الميلادي، خصوصًا تلك الحروب والفضاعات التي أثارتها الصراعات حول الإصلاح بقصد فتح أعين بعض الناس برجاء أن تتسلل الرحمة إلى القلوب الطيبة.

انطلق فولتير في كتابه من قضية جان كالاس؛ قضية العائلة التي اتهمت بقتل ابنها المنتحر، لأنه كان ينوي في اليوم التالي الانتقال من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، نفذ الحكم في حق الأسرة بقتل الأب، وسجن الابن الثاني وإرغامه على تغيير مذهبه، وانتزاع البنات من أمهن ووضعهن في دير وسلب مالهن.

هذه الكارثة أثّرت في فولتير وجدانيًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا، ودفعه ذلك للتحري عنها، وخصص لها في كتابه ثلاث مقالات، الأمر الذي جعل من خطابه التسامحي في نظر الباحث الميلاد مرجعًا في بابه لأنه لم يأتِ من فراغ، ولم يكن تجريديًّا، وإنما هو خطاب واقعي مستند إلى وقائع تاريخية هزت الضمير الفرنسي.

أمام هذا القول الفولتيري في التسامح، سجّل الباحث الميلاد الملاحظات الاتية:

أولًا: إن التسامح الذي ناقشه فولتير ضبطًا وتحديدًا هو التسامح الذي يتصل بالمجال الديني المسيحي، المتوجّه بصورة رئيسة إلى الوسط المسيحي الفرنسي الكاثوليكي الذي عاش حروبًا وفتنًا وصراعات بين المذاهب المسيحية، نتجت عنها فظاعات واضطهادات وآلام، انحصار الحديث عند فولتير عن مفهوم التسامح الديني سجل عليه ملاحظة إغفاله وإهماله للحديث عن التسامح في المجالات الأخرى.

ثانيًا: من أحد الوجوه يمكن اعتبار كتاب فولتير منتميًا إلى حقل النقد الديني وتحديدًا إلى حقل النقد الديني المسيحي، فقد انتقده بشفافية وعنف فكرة وتجربة، معتبرًا أنه طغت عليه وبشدة نزعات التعصب، وقادته إلى تاريخ من الحروب والصراعات الفظيعة والدامية. مع ذلك فإن هذا الموقف النقدي العنيف لم يدفع فولتير إلى الانقلاب على الدين، ولا إلى التجافي عنه، أو عدم الاكتراث به، ولا اتخاذ موقف سلبي منه، بل ظهر مدافعًا عنه متمسكًا به، وأظهر حسًّا إيمانيًّا واضحًا من تجلياته ما ظهر في مقالته: «صلاة لله»، كما أنه فضل للإنسان أن يكون على خرافات من أن يكون ملحدًا.

ثالثًا: صور فولتير في وقته أن التعصب هو مشكلة المسيحيين في أووربا دون باقي المجتمعات غير الأوروبية التي كانت تنعم بالتسامح.

رابعًا: ظل فولتير ينبه باستمرار إلى ضرورة اختيار مسلك العقل للشفاء من داء التعصب، وتحصيل التسامح معتبرًا أن التعصب عدو العقل وطارد له، مؤكدًا الحاجة إلى العقل بوصفه منبعًا للتسامح وسياجًا حاميًا له.

خامسًا: رغم كون الكتاب في التسامح الديني، إلَّا أن الحديث فيه عن الإسلام كان بحكم الغائب.

سادسًا: فيما يتعلق بأهمية وقيمة خطاب فولتير التسامحي، نظر الميلاد إلى المجالين الأوروبي والإسلامي، فرأى أن رسالة فولتير في المجال الأول حققت نجاحًا باهرًا على الصعيد الداخلي، حيث أسهمت في تجاوز حالات التعصب والعنف التي كانت بين المذاهب والجماعات الدينية، لتنتقل أوروبا إلى حالة التعايش والسلم، أما على الصعيد الخارجي فقد أخفقت أوروبا لكونها نقلت تاريخ الاضطهاد من الداخل إلى الخارج، حيث تعاملت مع الأمم والمجتمعات الأخرى بسياسات وصفت بالإمبريالية، كان من أكبر تجلياتها ظاهرة الاستعمار التي قبحت صورة أوروبا.

وتأسف الباحث الميلاد لمساندة ووقوف الجماعات الدينية وراء تلك السياسات، بخلاف ما دعا إليه فولتير في رسالته حيث أرادها أن تنشر ما أسماه بالتسامح الكوني.

أما في المجال العربي والإسلامي يرى الميلاد أنه حان ميعاد اللحظة الثانية للرسالة عندنا في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وقد نبَّه لها مترجم الكتاب الباحث سعيد بن كراد الذي رأى أنها تشكّل مرافعة رائعة من أجل التسامح والتآخي ونبذ العنف والتعصب، ويرى أن كل ما في الكتاب تصوير لحالتنا فيكفي أن نغيّر أسماء الفرق وأسماء الأعلام، وأنه قد نكون نحن في عالمنا الإسلامي أول وآخر من يلتقط تلك النبتة التي أعطتها بذرة فولتير للتسامح، تكون معها حضارتنا قادرة على احتضان كل أبنائها باختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم.

كارل بوبر ومفهوم التسامح

أودع بوبر ما توصَّل إليه من رؤى وأفكار ومبادئ وأخلاقيات حول مفهوم التسامح في محاضرة ألقاها أول مرة في جامعة توبنجن الألمانية سنة 1981م حملت عنوان: «التسامح والمسؤولية الفكرية»، وأعاد تقديمها في فيينا سنة 1982م، ونشرها لاحقًا في كتابه: «بحثًا عن عالم أفضل» الصادر سنة 1989م. وهي محاضرة بات يؤرّخ لها عند البحث عن سياقات تطور مفهوم التسامح في ساحة الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.

انطلق بوبر من تثمين وتصديق ما جاء عند فولتير عن التسامح، وتطابق معه تمامًا، واتخذ منه إطارًا ودربًا وحكمة لما يريد طرحه من قول في التسامح، قول توقف فيه أمام العلاقة بين الخطأ والتسامح، وتمم هذا الأمر بعلاقة أخرى مدارها الحقيقة والتعصب.

وبحسب الوجه الأول من العلاقة، يرى بوبر أن وجود الخطأ ينبغي أن يقودنا إلى الاعتراف بأخطائنا، ومن ثم بجهلنا وأننا لسنا معصومين من الخطأ، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى التسامح المتبادل بين البشر. الحال الذي لا يمكن في نظر بوبر أن يتبدل أو يتغير في عالم البشر مهما بلغت المعرفة ما بلغت، ومهما أوتي العلم من القوة فلن يعصم الناس من الخطأ، ومن ثم لم تتوقف حاجة الناس إلى التسامح.

وبحسب الوجه الثاني من العلاقة، يرى بوبر متوافقًا مع فولتير كذلك أن ما يقابل التسامح هو التعصب، وإذا كان مدار التسامح هو الاعتراف بالخطأ فإن مدار التعصب هو الإقرار بامتلاك الحقيقة التي لا تعرف الخطأ، مؤكدًا أنه مع التسامح لكن ليس التسامح في التعصب وفي العنف أو في القسوة.

وهكذا فمدخل بوبر للنظر في مفهوم التسامح يتحدد في نطاق البحث عن مفهومي الخطأ والحقيقة في علاقتهما بالتسامح والتعصب، وهذه في نظره قضية تتصل بالمعرفة العلمية، إلا أن لها ارتباط بالمبادئ الأخلاقية، وقد توصل إلى وضع ثلاث منها تشكل الأساس لكل جدل عقلي يجري بحثا عن الحقيقة هي:

أولًا: مبدأ اللاعصمة.

ثانيًا: مبدأ الجدل العقلي ويعني به: عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني قد نصل إلى تصحيح أخطائنا.

ثالثًا: مبدأ الاقتراب من الحقيقة.

تلك المبادئ تؤكد في نظر بوبر أن البحث عن الحقيقة والدنو منها إنما يتم عبر النقد المتبادل، والذي لا يكون ممكنًا من دون وجود درجة كبيرة من التسامح المتبادل. كما تعبر تلك المبادئ عن معتقده الأخلاقي الذي أفصح عنه سنة 1945م في كتابه: «المجتمع المفتوح وخصومه»، وعبر عنه بالقول: «قد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب، ببذل الجهد قد نقترب اكثر من الحقيقة».

سعى بوبر من خلال هذا المعتقد إلى استبعاد إمكان التأويل الدوجماطيقي للعقلانية النقدية، وإلى الاعتراف بالإيمان؛ الإيمان بالسلام والإنسانية والتسامح والتواضع، الإيمان بمحاولة أن يتعلم المرء من اخطائه وبإمكانات المناقشة النقدية.

بعد تبصّر ونظر في هذه الرؤية سجل عليها الباحث الميلاد الملاحظات الاتية:

أولًا: لم يلتفت بوبر لفكرة اللحظة التاريخية لا من جهة الفعل ولا من جهة المعنى، حين تناول مفهوم التسامح. لقد كان يفترض به أن يحدد لحظته التاريخية الفارقة والمفارقة عن سابقاتها حتى يتبيّن جانب الاتصال فيها من جهة، وجانب الانفصال عنها من جهة أخرى، ومن ثم يتبيّن ما الذي اختلف وتغيّر واستدعى منه تجديد الحديث عن التسامح في عصره.

ثانيًا: في خطاب بوبر حضر فولتير وغاب جون لوك، وغياب لوك يعني غياب لحظة تاريخية تأسيسية لمفهوم التسامح في الفكر الأوروبي الحديث، ويفهم من ذلك أن بوبر كان يقدم فولتير وخطابه التسامحي ويوليه أهمية على لوك وخطابه التسامحي.

ثالثًا: من الملاحظات كذلك أن خطاب بوبر في التسامح جاء متصلًا مع خطاب فولتير التسامحي ومتواصلًا معه ومتناغمًا، ويمكن القول: إنه مثّل امتدادًا له من جهة، وتجديدًا له وتحديثًا وتعميقًا من جهة اخرى.

رابعًا: أسهم بوبر في نقل مفهوم التسامح من المجال الديني إلى المجال الفكري بعد ما كان منحصرًا فيه. وهذه هي سمة اللحظة التاريخية التي تسجل لبوبر وتذكر له. وبهذه الملاحظة يمكن تفسير لماذا اقترب بوبر من فولتير وابتعد عن لوك، كون خطاب الأول يتيح هامشًا ممكنًا من الاقتراب إلى المجال الفكري أوسع وأوضح من خطاب لوك.

واللفتة المهمة التي أضافها بوبر في هذا النطاق، أنه اعتبر التسامح الفكري والمعرفي إنما يتحقق من خلال مبادئ أخلاقية. أما ما لم يفصح عنه بوبر هو أنه وجد على ما يبدو أن الحديث عن التسامح يمثّل مدخلًا لتأكيد علاقته بالفلسفة الأخلاقية، ولرد الاتهام الموجه له باعتبار أن خطابه الفكري جاء خال من أية مظاهر وقسمات لها علاقة بالفلسفة الأخلاقية.

التسامح في المجال العربي الإسلامي

بعد هذا الموجز السريع عن تاريخ مفهوم التسامح والدراسة النقدية لأهم مقالاته في المجال الأوروبي، انتقل الباحث الميلاد لدراسة وتحليل ونقد أبرز خطابات التسامح في المجال العربي الاسلامي. بدأها بمن يعد في نظره أول مؤصل لمفهوم التسامح في الفكر العربي الإسلامي قديمًا وحديثًا الشيخ محمد عبده في مناظرته مع فرح أنطون التي تعد في رأي الميلاد معركة تأسيسية للتسامح في المجال الإسلامي.

معركة التسامح بين أنطون وعبده

حصلت مطلع القرن العشرين مناظرة فكرية جمعت كل من فرح أنطون والشيخ محمد عبده، نشرت أطوارها على صفحات مجلتين؛ مجلة «الجامعة» التي أسسها فرح أنطون وعرفت بنزعتها العلمانية وارتباطها المرجعي بالثقافة الأوروبية، ومجلة «المنار» التي أسسها الشيخ محمد رشيد رضا وعرفت بنزعتها الدينية وارتباطها المرجعي بالثقافة الإسلامية.

انطلقت هذه المناظرة عندما نشر فرح أنطون على حلقات دراسة موسعة حول فلسفة ابن رشد، جمعها لاحقًا في كتاب حمل عنوان: «ابن رشد وفلسفته»، ومما تطرق إليه في هذه الدراسة علاقة المسيحية والإسلام بفكرة التسامح، وتوصل إلى أن المسيحية كانت أكثر تسامحًا من الإسلام، وأن العلم والفلسفة قد تمكنَّا إلى الآن من التغلّب على الاضطهاد المسيحي، ولكنهما لم يتمكنا من التغلّب على الاضطهاد الإسلامي، وفي ذلك دليل على أن النصرانية كانت أكثر تسامحًا.

حين نظر الشيخ عبده في هذا الموقف، وجد أن أنطون أثار أربعة أمور مرتبة كالآتي:

أولًا: أن المسلمين قد تسامحوا مع أهل النظر منهم، ولم يتسامحوا مع أمثالهم من أرباب الأديان الأخرى.

ثانيًا: أن من الطوائف الإسلامية طوائف قد اقتتلت بسبب الاعتقادات الدينية.

ثالثًا: أن طبيعة الدين الإسلامي تأبى التسامح مع العلم، وطبيعة الدين المسيحي تيسر لأهله التسامح مع العلم.

رابعًا: أن إيناع ثمرة المدنية الحديثة إنما تمتع به الأوروبيون في بركة التسامح الديني المسيحي.

هذه الأمور الأربعة حاججها الشيخ عبده بطريقتين:

الطريقة الأولى: استند فيها إلى التاريخ، وذكر وقائع تنقض ما طرحه أنطون وتبرهن على خلاف ما ذهب إليه، وذلك بالتركيز على أمرين هما: نفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد، وتساهل المسلمين مع أهل العلم والنظر من كل ملة.

الطريقة الثانية: استند فيها إلى الكلام والمنهج الكلامي ليقارن ما بين طبيعة الدين المسيحي وأصوله، وطبيعة الدين الإسلامي مع العلم بمقتضى أصوله. ووقف الشيخ عبده عند المفارقات الكلامية بينهما انطلاقًا من كون بيان طبيعة كل دين هي التي تكشف عن مدى تقبل التسامح.

عبده وأصول التسامح في الإسلام

عند الحديث عن طبيعة الإسلام مع العلم بمقتضى أصوله، حدّد الشيخ عبده ثمانية أصول هي:

الأصل الأول: النظر العقلي لتحصيل الإيمان.

الأصل الثاني: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.

الأصل الثالث: البعد عن التكفير.

الأصل الرابع: الاعتبار بسنن الله في الخلق.

الأصل الخامس: قلب السلطة الدينية ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوَّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما لأعلاهم يتناول بها من أدناهم.

الأصل السادس: حماية الدعوة لمنع الفتنة ليس القتل في طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة، والقتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يؤمن شرهم وتضمن السلامة من غوائلهم، ولم يكن ذلك للإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه.

الأصل السابع: مودة المخالفين في العقيدة.

الأصل الثامن: الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.

معركة التسامح.. الأفق والأبعاد

رأى الباحث الميلاد أن تلك المناظرة خلقت من جهة مواقف اصطفافية لكلا الطرفين: فمن الذين اصطفوا إلى جانب فرح أنطون الكاتب المصري سلامة موسى، والكاتب المغربي الدكتور كمال عبد اللطيف. أما من الذين اصطفوا إلى جانب الشيخ عبده نجد في مقدمتهم تلميذه محمد رشيد رضا، والدكتور محمد عمارة.

وقد كشفت هذه المناظرة عن آفاق وأبعاد مهمة حددها الميلاد في النقاط الآتية:

أولًا: حركت هذه المناظرة جوًّا حيويًّا من النقاش الفكري والنقدي، وتحوَّلت إلى حدث فكري بات يؤرّخ له في المجال العربي الحديث والمعاصر، صرنا نفتقده اليوم لتخصيب الفكر وتنوير الذهن وتقدير حق الاختلاف وتعميق النقاش وتجنب التجهيل والتبديع والخصومات والتفرقة.

ثانيًا: تعدّ هذه أول مناظرة حول فكرة التسامح في المجال العربي الحديث، وصارت مرجعًا يستند إليه في الحديث عن هذه الفكرة.

ثالثًا: في هذه المناظرة قدّم الشيخ عبده جهدًا تأسيسيًّا وتأصيليًّا مهمًّا ولامعًا لفكرة التسامح في الإسلام، أثبت من خلاله وبرهن على أن فكرة التسامح ليست غائبة أو طارئة أو بعيدة أو هامشية في الإسلام وإنما هي من صميمه، وتتصل بطبيعته وأصوله، وتسري في روحه، لكن قل من يلتفت إلى هذا الجهد.

رابعًا: إن قضية التسامح وبعد ما يزيد على قرن من الزمان ما زالت هي قضية القرن الحادي والعشرين، وتتأكد الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى.

ابن عاشور ومفهوم التسامح

تنبَّه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور لمفهوم التسامح، وتطرّق له في كتابين يعدان من أهم مؤلفاته التجديدية والإصلاحية هما: كتاب: «مقاصد الشريعة الإسلامية»، وكتاب: «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».

في الكتاب الأول تحدّث الشيخ ابن عاشور عن السماحة وعدّها أول صفات الشريعة وأكبر مقاصدها، ولم يستعمل كلمة التسامح لكونه قاصدًا البحث عن صفات الشريعة الإسلامية ومقاصدها. أما في الثاني فقد تحدّث عن الحالتين السماحة والتسامح لكنه فصل الحديث عنهما من جهتي السياق والموضوع. فتحدث عن السماحة في أول الكتاب وتحدّث عن التسامح في خاتمته، معتبرًا أن السماحة هي من أحوال الدين وصفاته، والتسامح هو من أحوال نظام الدين الاجتماعية وصفاته، فكأنه يرى أن السماحة ناظرة إلى جانب النظر والتسامح ناظر إلى جانب العمل.

في نظر الميلاد فقد ظهر ابن عاشور في هذا الكتاب بوصفه صاحب رؤية مهمة حول مفهوم التسامح بأبعادها النقلية والعقلية والتاريخية، وهي رؤية لا بد من الرجوع لها والاستناد إليها، والعناية بها، عند الحديث عن تاريخ تطور هذا المفهوم في ساحة الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر.

ولتكوين المعرفة بهذه الرؤية ضبطًا وتحديدًا، بناءً وتركيبًا أشار الباحث الميلاد إلى العناصر الآتية:

أولًا: من ناحية اللغة؛ يرى ابن عاشور أن التسامح في اللغة مصدر سامحه إذا أبدى له سماحة، لأن صيغة التفاعل هنا ليس فيها جانبان، فيتعيّن أن يكون المراد بها المبالغة في الفعل، وأصل السماحة السهولة في المخالطة والمعاشرة، وهي لين في الطبع في مظان تكثر في أمثالها الشدة.

ثانيًا: من ناحية المعنى والاستعمال؛ المراد عند ابن عاشور بالتسامح هو إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين من جهة الدين، وهو لفظ اصطلح عليه العلماء الباحثون عن الأديان من المتأخرين في أواخر القرن الهجري الماضي، أخذًا بالحديث «بعثت بالحنفية السمحة».

ثالثًا: من ناحية المنطلق، انطلق الشيخ ابن عاشور في بحثه ونظره من إشكالية تحدّدت عنده في أمرين:

أحدهما: عدم تصور سماحة الإسلام حق تصوّرها، واعتقاد بعض العلماء أنها غير موجودة في الاسلام.

الآخر: إثبات بعض معتقدي سماحة الإسلام أحوالًا لها تزيد في حقيقتها أو تنقصها عمَّا هي عليه.

ومن أجل تجاوز حالتي سوء تقدير معنى التسامح يدعو ابن عاشور إلى مزيد من العناية بالمفهوم والكشف عن مواقعه، والإكثار من شواهده وشواهد أضداده حتى يتجلى بيّنًا لا يقبل تحريفًا لمعناه.

رابعًا: من ناحية المنزلة والأسس؛ التسامح في نظر الشيخ ابن عاشور من خصائص دين الإسلام، ومن أشهر مميزاته، وأدلّ حجّةً على رحمة الرسالة الإسلامية، وأن الإسلام قد وضع أسسًا راسخةً له، وعقد له مواثيق متينةً وفصولًا بيّنةً، وقاعدة تلك الأسس في تصوره هي القاعدة الفكرية النفسية التي تقرر أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر، وأنه من الطبع اختلاف المدارك وتفاوت العقول في الاستقامة، وبقية أسس التسامح في تقديره حاصلة بوصايا الإسلام بحسن معاملة المخالفين في الدين.

خامسًا: من ناحية التخلّق والاكتساب؛ يعتقد ابن عاشور أن التسامح في الإسلام هو وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي.

سادسًا: من ناحية الفعل والفاعلية؛ يرى الشيخ ابن عاشور أن التسامح يظهر مفعوله في المواقع التي هي مظنة ظهور ضده، ويعني به التعصب، وحسب تقديره فإن التعصب في الدين له مظهران: أحدهما وأقواهما يظهر في المعاملات الدينية التي تعرض عند الانفعالات الناشئة عن المخالف الديني. وثانيهما يظهر في المعاملات الدنيوية التي تعرض بين فريقين مختلفين في الدين متجاورين في المكان، وبحسب ابن عاشور فان تسامح الإسلام هو تسامح كامل واضح في كلا المظهرين.

بعد فحص متبصّر وضبط لرؤية الشيخ ابن عاشور لمفهوم التسامح، أشار الباحث الميلاد إلى الملاحظات الاتية:

أولًا: إن هذه الرؤية على أهميتها وجديتها وحيويتها لم يلتفت إليها مبكرًا، وظلّت لفترة من الزمن بعيدة عن المجال التداولي، ولم يتغيّر الحال معها كثيرًا، فما زال الحديث عنها يحصل متقطعًا وعلى نطاق محدود. ومن أسباب ذلك في نظر الميلاد أن التراث الفكري للشيخ ابن عاشور لم يعرف بالقدر الكافي ولم يتابع خاصة في منطقة المشرق العربي.

ثانيًا: لم يأتِ ابن عاشور على ذكر أحد من الذين سبقوه في تناول هذا الموضوع، فغابت أسماؤهم ونصوصهم ومقالاتهم، وظهر ابن عاشور منفردًا. فنصّ ابن عاشور في التسامح جاء منقطعًا عن النصوص السابقة عليه، ولم يكن متفاعلًا معها، وفاقدًا من هذه الجهة إلى عنصر التراكم والتنوع في الأقوال والنصوص.

ثالثًا: حاول ابن عاشور جازمًا وقاطعًا تثبيت مفهوم التسامح في نطاق العلاقة مع المخالفين من جهة الدين، ولم يقترب من إمكانية إجرائه في نطاق العلاقة بين المسلمين أصحاب الدين الواحد الذين ظهر التخالف والتنازع في ساحتهم. أمام هذا الأمر تساءل الميلاد عن سبب هذا الحصر هل هو حاصل نتيجة العمل بالقاعدة الأصولية يعني بها قاعدة تنقيح المناط واكتشاف الملاك؟ وهل هو من نوع الحصر التام الذي لا يصح ولا يجوز تعديه إلى غيره؟ أم أنه حصر يصح ويجوز فيه ذلك؟

رابعًا: افتقدت قراءة الشيخ ابن عاشور للمقارنة بين الفكرين الإسلامي والأوروبي، المقارنة التي تفيد في معرفة مفارقات المنهج، واختلاف طرق الأدلة، وتعدد مداخل البحث، إلى جانب الكشف عن طبيعة الأرضيات والسياقات المفارقة بين الفكرين. ولعله في نظر الميلاد لم يكن على دراية بكتابات الأوروبيين وأحاديثهم حول التسامح التي جاءت في وقت سابق عليه.

الجابري ومفهوم التسامح

ناقش الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه: «قضايا الفكر المعاصر» مفهوم التسامح في نطاق علاقته بالفلسفة والدين والأيديولوجيا، متخذًا من الفلسفة مدخلًا وإطارًا ومنهجًا في سعي منه لإقامة نوع من الربط بين التسامح والفلسفة، ليكون التسامح أقرب إلى الفلسفة من الدين والأيديولوجيا.

ولأجل تأطير التسامح داخل العقل الفلسفي، حدد الجابري ثلاثة محاور أساسية للتدقيق والنقاش، منطلقًا في كل محور من سؤال مركزي، هذه المحاور وتساؤلاتها جاءت على الشكل الآتي:

أولًا: التسامح في الفلسفة، والسؤال المركزي في هذا المحور هو: هل تقبل الفلسفة التسامح داخل مملكتها؟ وهل طبقته تاريخيًّا؟

ثانيًا: التسامح كموضوع للفلسفة، والسؤال المركزي في هذا المحور هو: هل هناك فلسفة أو فلسفات للتسامح؟ وهل التسامح مفهوم فلسفي حقًّا؟

ثالثًا: التسامح كفلسفة، والسؤال المركزي في هذا المحور هو: إلى أي مدى يمكن توظيف هذا المفهوم في التفكير فلسفيا في قضايا عصرنا؟

في المحور الأول يرى الجابري أن الفلسفة هي أكثر المجالات استعدادا لقبول التسامح والعمل بهّ؛ فهي كما تعرف بصورة عامة البحث عن الحقيقة، ولا تعني امتلاكها، وفي ذلك اعتراف بالتعدد والاختلاف ولهذا فإن الفلسفة في نظره هي المجال الحيوي للتسامح. لكن تاريخيًّا فقد حصل أن تجاوزت الفلسفة مهمتها من البحث عن الحقيقة إلى ادعاء امتلاكها، التحول الذي يصفه الجابري بانقلاب الفلسفة إلى أيديولوجيا تعمل على تقرير الحقيقة، وتقدم نفسها بوصفها واحدة كاملة لا حقيقة بعدها.

وهذا الانقلاب والتحول يحدث في نظر الدكتور الجابري كلما تخلت الفلسفة عن مهمتها النقدية، واستسلمت للأمر الواقع تعكسه بوصفه الحقيقة، ولا يعد ذلك في نظره خيانة؛ إذ الفلسفة لا يجوز لها ولا يمكنها أن تبقى دائمًا متعالية عن الزمان والمكان، وبعيدة عن قضايا الإنسان، بل لا بد لها من الالتزام، ويصبح هذا الالتزام ضرورة.

وبشأن المحور الثاني يرى الجابري أن لفظ التسامح كان غائبًا في الخطاب الفلسفي عمومًا، رغم وجود فلاسفة ركّزوا جهدهم الفلسفي على ميدان الأخلاق، وإذا غاب المفهوم فمن الطبيعي أن تغيب الفلسفة التي تؤسس نفسها عليه. وتفسير هذا الغياب عنده يرده إلى كون المفهوم ليس أصيلا في الفلسفة، بل يقع بين الفلسفة والأيديولوجيا، وأنه دخل إلى الفلسفة من باب الأيديولوجيا، ولهذا بقي هذا المفهوم موضوع تشكيك واعتراض، ولم يقبل في رحاب الفلسفة إلَّا بامتعاض ومع كثير من التسامح والتساهل.

أما بشأن المحور الثالث، انتهى الجابري إلى أن التسامح لا يمكن أن يوظف في مواجهة قضايا العصر الكبرى إلَّا بالاقتران مع مفهوم العدل.

سجل الميلاد على قول الجابري في التسامح الملاحظات الآتية:

أولًا: فضل الجابري ربط مفهوم التسامح بالفلسفة وإبعاده عن الأيديولوجيا لكونه في طور البعث والإحياء والاستعادة، ومن ثم فهو بحاجة إلى تدقيق، وهذه هي مهمة الفلسفة، لكنه لم يستطع تخطّي الأيديولوجيا، والتخلص منها في كل المحاور الثلاثة بل ظل يقترب منها ويحتك بها ويتواصل معها، لذلك فقراءة الجابري لمفهوم التسامح تقع بين الفلسفة والأيديولوجيا.

ثانيًا: ناقش الجابري مفهوم التسامح بالعودة إلى مقولات الغربيين التي تردد صداها بشكل قوي في معجم لالاند واستند إليها، فكانت موجهة لمناقشته لمفهوم التسامح، وفي المقابل غابت عن قراءة الجابري مقولات العرب والمسلمين حول المفهوم، الشيء الذي أحدث نقصًا فيها، وأثر على بنيتها وتكويناتها، وأخلَّ بتوازنها، وجعلها تتسم بأحادية الوجهة والمسار.

ثالثًا: إن تفضيل الجابري الفلسفة لإجراء تدقيق لمفهوم التسامح مثل بداية سليمة من الناحية المعرفية، وخطا خطوات حسنة في أول الأمر، لكنه غير المسار فيما بعد حينما انتقل إلى البحث عن الجانب الوظيفي لمفهوم التسامح فربطه بوظائف واسعة وجانبية، لما أراد أن يعطيه معنى عامًّا شموليًّا، وحينما ربطه بقضايا كبيرة وخطيرة كالتطرف والغلو في الدين، والتطهير العرقي والفكر الأحادي وصراع الحضارات، وحين ربطه بمفهوم العدل والإيثار مما زاد المفهوم إبهامًا وغموضًا.

وحاصل القول: أن الجابري سلك طريقة انتهى فيها بخلاف رغبته ومقصده؛ فقد أراد تدقيق المفهوم لكن زاده غموضًا وإبهامًا من غير قصد.

الكتابات الإسلامية ومفهوم التسامح

بعد جرده لأهم الكتابات العربية الإسلامية في مفهوم التسامح وتمحيصها وتحليلها، سجل الباحث الميلاد عليها الملاحظات المشتركة الآتية:

أولًا: غياب التراكم المعرفي

يذهب الميلاد للقول بأن مناظرة الشيخ عبده وفرح أنطون تعدّ أول محاولة في تاريخ مفهوم التسامح في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لكنها لم يتم التواصل معها، والبناء والتراكم عليها، وظهر ذلك جليًّا في جميع المحاولات التالية لها، مستشهدًا بالتأليفات التي جاءت بعدها ومنها:

1 - كتاب الشيخ محمد الغزالي «التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام»، فبعد ما يقارب نصف قرن على تلك المناظرة، جاء هذا الكتاب ولعله أول كتاب في أدب الكتابات الإسلامية الحديثة والمعاصرة يحمل في عنوانه تسمية التسامح، وفي هذا الكتاب لم يأتِ الشيخ الغزالي قط على ذكر الشيخ عبده لا اسمًا ولا نصًّا ولا فكرة.

2 - تجددت هذه الملاحظة وتوالت مع محاولة الدكتور مصطفى السباعي في كتابه: «من روائع حضارتنا»، الذي خصص فيه قسمًا للحديث عن التسامح الديني، مع ذلك لم يأتِ الدكتور السباعي في هذا الكتاب على ذكر المحاولات السابقة عليه، لا محاولة الشيخ عبده ولا محاولة الشيخ الغزالي.

3 - وفي وقت آخر تجدّدت هذه الملاحظة وتوالت كذلك مع الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه: «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».

4 - بقيت هذه الملاحظة وتوالت مع الدكتور شوقي ضيف في كتابه: «عالمية الإسلام»، فقد خصص فيه قسمًا للحديث عن التسامح الإسلامي ووصفه بالعظيم، لكنه لم يأتِ على ذكر أية محاولة سابقة عليه.

من هذا التتبع وهذا الفحص لاحظ الباحث الميلاد غياب عنصر التراكم المعرفي في جميع تلك المحاولات، حيث ظهرت مفككة لا رابط بينها. غياب التراكم المعرفي هذا جعلها في وضعية جامدة وبعيدة عن لمسات التطور؛ إذ لا تفاعل بينها ولا تذاكر ولا تفاكر.

وما يلفت الانتباه لهذه الملاحظة أنها حصلت مع أشخاص ينتمون إلى النخبة العالمة، هذه الوضعية جعلت البعض يتصور أن الفكر الإسلامي لا يمتلك نصًّا في التسامح، ويعاني فقرًا وضعفًا من هذه الجهة، بخلاف الفكر الأوروبي الحديث، وواقع الحال أن الفكر الإسلامي المعاصر أنتج نصًّا كذلك، لكنه لم يكن ممتدًا أو متجددًا لغياب التراكم المعرفي.

ثانيًا: غلبة النزعة الدفاعية

من يتتبع الكتابات الإسلامية المعاصرة التي تناولت الحديث عن مفهوم التسامح سيجد أنها غلبت عليها بصورة واضحة النزعة الدفاعية والحجاجية، فمنذ محاولة الشيخ عبده والتي جاءت ردًّا وحجاجًا على كتابات فرح أنطون، مرورًا بكتاب الغزالي الذي جاء لدحض شبهات ورد مفتريات كاتب مصري مسيحي وصفه مرارًا بالكاتب الصليبي لكن لم يكشف عن اسمه.

لم تغب تلك النزعة الدفاعية والحجاجية أيضًا عند الدكتور يوسف السباعي في حديثه عن التسامح الديني إذ أراد في كتابه «روائع من حضارتنا» كما أشار رد فرية الغربيين المتعصبين على تاريخنا بأننا كنا قساة أكرهنا الناس على الدخول في ديننا، وعاملنا غير المسلمين بكل مذلة واضطهاد.

وبدرجة أخف ظهرت هذه النزعة الدفاعية عند ابن عاشور وليس بطريقة الرد على الآخر المختلف من جهة الدين كما حصل مع المحاولات الثلاثة المذكورة، وإنما بطريقة البيان والرد على الذين حصل عندهم شك أو خطأ أو تحريف لمعنى التسامح في الإسلام، سواء من المسلمين أو غيرهم. كما ظهرت هذه النزعة الدفاعية بطريقة أخرى عند الدكتور شوقي ضيف طريقة البيان الذي يستبطن دفاعًا.

من عيوب النزعة الدفاعية في نظر الميلاد أنها تدفع نحو التحيُّز، وتظهر العمل بالمظهر الجامد والساكن الذي يغلب عليه عادة في جانب الذات الميل إلى التبجيل والمدح والثناء والبحث عن التغلب والتفوق، وفي جانب الآخر الميل إلى الذم والقدح والتعييب والبحث عن الضعف والخلل والنقص، وبهذا المظهر فإن العمل لا يبعث على الفعل والحركة، ولا يكسب الإرادة والعزيمة.

ثالثًا: فقدان الحس النقدي

حين النظر في الكتابات الإسلامية المعاصرة التي تناولت الحديث عن التسامح لاحظ الميلاد أنها تفتقد الحس النقدي الموجّه إلى الذات، لهذا فإنها لا تقدم خبرة نقدية من هذه الجهة، وتصدق هذه الملاحظة في نظره على كل المحاولات التي فحصها «عبده، الغزالي، السباعي، ابن عاشور، شوقي ضيف...».

فقد أرادت تلك الكتابات تلميع صورة التسامح في الثقافة الإسلامية وفي تاريخ الحضارة الإسلامية، والرد على المخالفين والدفاع أمام المنتقدين، وهي في ذلك يتشبه بعضها ببعض، وانحازت إلى جانب وأهملت جانبًا آخر، إذ تغافلت عن ظواهر التعصب واللاتسامح التي حصلت في تاريخ المسلمين بتأثيرات لها علاقة بالسياسة أو عوامل ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية، لكنها بالتأكيد ليس لها علاقة بالدين الإسلامي.

ومن تلك الظواهر فتنة الخوارج التي ظهرت في السنة السابعة والثلاثين للهجرة، ومعها بدأت أخطر ظاهرة حصلت في حياة المسلمين هي ظاهرة التكفير التي لم تمحَ في سيرة الفكر الإسلامي إلى اليوم.

ومنها أيضًا ما عرف بمحنة خلق القرآن التي ظهرت في العصر العباسي في العقد الثاني من القرن الثالث الهجري، وهي من الظواهر الغريبة التي ما زالت موضوع مساءلة ومناقشة إلى اليوم.

ومنها أيضًا ما حصل مع ابن رشد وسجنه ونفيه وحرق كتبه الفلسفية في أواخر حياته، وهو الحدث الذي وصف في تاريخ الإسلام بالنكبة. إلى جانب تلك السيرة الطويلة لظواهر التعصب واللاتسامح بين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية التي ما زالت إلى اليوم وزادت حدتها.

يرى الميلاد أن لفت الانتباه لتلك الظواهر، والتعامل معها بمنطق التشريح والتفكيك والتقويض، هو من صميم الحديث عن التسامح وبه يكتمل. كما أن معرفة وجه اللاتسامح يمكن من حماية التسامح وتحصينه من اللاتسامح. ويعود غياب الحديث عن اللاتسامح في نظر الميلاد إلى الأمور الاتية:

1 - الطبيعة الدفاعية التي اتسم بها الحديث عن التسامح.

2 - كون الوقت المناسب لم يحن بعد لاستحضار الحس النقدي.

3 - رغبة تلك الكتابات تفادي إعطاء الخصم حجاجًا تؤيد وتدعم موقفه.

4 - رغبتها إبقاء النزاع مع الآخر البعيد، وتجنب نقله إلى الداخل في ساحة الذات.

ولتوازن الموقف يرى الباحث الميلاد أن الكتابات السابقة اهتمت بالجانب الدفاعي في النظر لمفهوم التسامح وأنجزت ما هو مطلوب، وعلى الكتابات التالية لها العناية بالجانب النقدي في تعاملها مع تلك الكتابات لتجاوزها وإنجاز ما هو أجود منها، وما كتابه هذا إلَّا مساهمة منه في ذلك، بل إننا نجد القسم الأخير منه يتجاوز النقد ليسهم في استئناف التأصيل لمفهوم التسامح، وليؤسس لمقولته فيه، وذلك ما سيتضح من خلال المسائل الآتية.

مقولة السماحة وصاحب السماحة.. فحص تحليل

صاحب السماحة تسمية عرفية تطلق على عالم الدين، وهي تسمية لم تأتِ بمحض الصدفة أو مجريات العادة أو من فراغ ودون مناسبة، وليست هي بلا معنى أو أنها مجرد وصف ولقب شكلي قصد منه التعظيم والتفضيل، بل هي تسمية جاءت من وصف الشريعة الوارد في الحديث النبوي الشريف الذي وصف الشريعة بالحنفية السمحة.

والسماحة كما يرى ابن عاشور هي أولى أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها، واستنادًا إلى ذلك يرى الميلاد أن السماحة كذلك هي أولى أوصاف عالم الدين ومن أكبر مقاصده، فهناك تلازم واقتران بين السماحة وعالم الدين إلى درجة التفرد بهذه الصفة.

وتفسير هذا الاقتران الذي تسأل عنه الميلاد يعود في نظره إلى تقديرات ثلاثة: الإعلام والإخبار به، والدعوة الملحة المستمرة له، ولكونها أولى أوصاف الشريعة فلا بد أن تكون بالتبع أولى أوصاف عالم الشريعة، وهي تقديرات في رأيه تشير إلى الدلالات الآتية:

أولًا: إن من يقترب من الشريعة تعلُّمًا وتخلُّقًا يكون قريبُا من صفة السماحة، ويتحلى بها تدريجيًّا سواء بشعور منه أو من دون شعور.

ثانيًا: أن عالم الدين الحقيقي يعرف بصفة السماحة تعلُّمًا وتخلُّقًا قبل وأكثر من أية صفة أخرى، وبصورة دائمة ومستمرة في كل مكان وزمان وحال ومع الناس كافة بلا فرق.

ثالثًا: إن إطلاق صفة السماحة على عالم الدين تجعل منه أن يكون متنبّهًا لهذه الصفة، ومتبصّرًا بها دائمًا وبلا توقف ومتّصفًا بها شخصًا وفكرًا وقولًا وعملًا، صمتًا وكلاما، مما يجعل كل من يقترب منه يتلمس تلك الصفة ويتأثر بها، وكل ذلك من أجل أن يدافع عن ذاته وصورته ورمزيته.

رابعًا: إن إطلاق هذه الصفة يأتي كذلك من باب التنبيه والتذكير لعالم الدين بالصفة التي ينبغي أن يتصف بها ويتخلّق بها دائمًا، فهي صفة تذكيرية له.

التسامح والتنوير

اعتبر الميلاد أن الاقتران الذي يجري بين التسامح والتنوير اقترانًا صائبًا وفعّالًا؛ فكلما وجد التنوير وانتشر وجد التسامح وانتشر أيضًا، وكلما غاب الأول أو تراجع إلَّا وغاب الثاني وتراجع. ويرجع ذلك في نظر الميلاد لكون التنوير نقيض التعصب ولا يتيح له مجالًا، ولأن التنوير لا يرى في الاختلاف مذمة ولا مصيبة، وإنما مصدر للثراء ومنبع للرحمة والتسهيل، وسلوكًا لرفع الحرج ودفع العسر، ونهجًا لتلاقح الأفكار.

ولأن التنوير كذلك يجعل من التعددية فضيلة ومكسبًا لفتح المجال أمام انبعاث الطاقات، ومن الأحادية تحجّرًا لغلقها فرص الاستفادة من الطاقات المتعدّدة، ومن التماثل سببًا للرتابة والجمود لفقدها آفاق التجدد، ولأن التنوير يرفع عن الناس رهبة التعبير عن الرأي والخوف من قول الحق أو كتمان العلم، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي تجعل فهمهم قاصرًا وتعطل عقولهم.

ولأن التنوير فيه تعظيم لمنزلة العقل ومكانته، وفيه دفع وتحريض على إكمال العقل والوصول إلى عقول الآخرين على قاعدة أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله. ومتى ما حضر العقل غاب التعصب، ومتى ما حضر التعصب انغلق باب العقل، ومن وصل إلى عقول الناس يكون أقربهم إلى الحقيقة والحكمة.

دفاعًا عن فكرة التسامح

خصص هذا المحور للرد على المشككين في فكرة التسامح الداعين إلى التوقف عن تداولها، لأن كلمة التسامح في نظرهم تعبّر عن حالة من التعالي والترفع والتفاضل، وتتضمن استنقاصًا بالطرف الآخر، وتعني عند البعض بقاء الانتقاد والتعبير بالخطأ.

ولتجاوز تلك الدلالات والإيحاءات المعيبة اقترحوا كلمات بديلة كالعفو والاحترام والقبول بالآخر، وكان من نتائج ذلك أن غيّرت مجلة التسامح التي تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العمانية اسمها من التسامح إلى التفاهم، في خطوة تدل على حالة من المراجعة والشك.

هذا الموقف الداعي للتخلي عن كلمة التسامح، سجل عليه الميلاد الملاحظات الآتية:

أولًا: إن هناك التباسًا حصل في طريقة تصور فكرة التسامح، أنتجت حكمًا غير من صورة الموقف نحو هذه الفكرة، ولرفع ذلك الالتباس وتصحيح ذلك التصور، نحتاج في نظر الميلاد إلى إجراء ما يصطلح عليه في أصول الفقه بتنقيح المناط، لمعرفة حقيقة الصلة الموجبة للتسامح، الكاشفة عن طبيعة المورد والأصل الذي يجري فيه العمل بفكره التسامح، ويستند إليه ويكون مناطًا له.

وعند النظر والتحقيق في ذلك المورد والأصل وجد الميلاد أنه يتكوَّن من ثلاثة عناصر أساسية ينبغي التسليم بها والتكيّف معها:

العنصر الأول: أن الأنسان كيفما كان فهو خطاء.

العنصر الثاني: أن الاختلاف بين البشر هو أعظم حقيقة في عالم البشر، حقيقة صادرة من إرادة إلهية لا ينبغي للبشر الخشية منها.

العنصر الثالث: الحاجة إلى حالة من الاستباق والتوجيه لطريقة التعاطي مع الخطأ والاختلاف تحول دون حدوث خصومة ونزاع فقطيعة وتباعد، وهذه الحالة الاستباقية التوجيهية عنى بها الميلاد فكرة التسامح.

ثانيًا: أن التسميات المقترحة بديلًا عن تسمية التسامح ليس بإمكانها أن تقوم مقامه، وتحلّ مكانه وتنهض بوظيفته، مع أنها تسميات حسنة في ذاتها ونحتاج إليها؛ فتسمية العفو ناظرة إلى جانب الخطأ وليست ناظرة إلى جانب الاختلاف، والاختلاف لا يعود بالضرورة إلى الخطأ. وتسمية الاحترام ناظرة إلى التعامل الحسن وليست ناظرة إلى الخطأ والاختلاف. وتسميتا القبول والتفاهم ناظرتان إلى علاقة الذات بالآخر وليستا ناظرتين كذلك إلى الخطأ والاختلاف. وبإمكان تلك التسميات أن تكون معاضدة ومتكاملة مع التسامح لكن ليس بإمكانها أن تحل مكانه.

ثالثًا: أن كلمة التسامح هي من الكلمات التي استعملت وصفًا للشريعة الإسلامية ولعالم الدين.

رابعًا: التفريط بفكرة التسامح هو تفريط بالخبرات الإنسانية الخلَّاقة والنبيلة والمؤثرة، فمن المجتمعات ما حمل عنوان التسامح واتخذ منه منطلقًا وأساسًا ووجهة لتحقيق نهضته، إذ التسامح مبدأ وأساس قامت عليه الكثير من الدول كسنغافورا الدولة المتعددة اللغات والأديان والأعراق. ومن تلك الخبرات الإعلانات والمبادئ الأممية الصادرة عن المنظمات الدولية كالإعلان الذي أصدرته اليونسكو، وأطلقت عليه إعلان مبادئ بشأن التسامح، ودعت فيه لأن يكون للتسامح يوم عالمي يحتفى فيه به وهو السادس عشر من شهر نوفمبر. ومن تلك الخبرات الإعلان عن مؤسسات وهيئات دولية وإقليمية ووطنية تعنى بفكرة التسامح كالمجلس الأوروبي للتسامح والمصالحة، وهو مجلس يضم علماء بارزين حائزين على جائزة نوبل وقادة سياسيين. وكالشبكة العربية للتسامح التي أعلن عن تأسيسها سنة 2008م، وهي شبكة تدعو إلى ضرورة مواجهة مظاهر اللاتسامح ونشر ثقافة وقيم ومفاهيم التسامح في الدول العربية. ومن تلك الخبرات أيضًا مؤتمرات وندوات وحلقات دراسية عربية وإسلامية ودولية.

لهذه الأمور الأساسية المذكورة آنفًا التي اعتبرها الميلاد حقائق، ينبغي التمسك بفكرة التسامح والدفاع عنها وإعلاء شأنها والاجتهاد في إعطائها قوة التخلُّق.

بيان أخلاقي من أجل التسامح

أشار الميلاد إلى تنامي ضرورة إعادة التأكيد والاعتبار لمفهوم التسامح في إدراك العقلاء والحكماء والمتنورين، وضرورة إحضاره بجلاء في اجتماعنا وثقافتنا بعد أن كاد يكون غائبًا في غفلة منا عن تعاليم ديننا وأخلاقياته وتراثنا، وعن التناسب بين الشريعة والعمل بها والتسامح. هذه الحاجة إلى تأصيل مفهوم التسامح، وتعميمه بين الناس، وتحويله إلى التزام ثابت وراسخ يظهر في السلوك ويتجلى في إكمال الفكر، تعود في نظر الميلاد إلى أمور منها:

1 - أن الخطأ يصدر من الجميع فليس هناك من هو منزّه عنه، وكل واحد منا يجد نفسه في موقف يطلب فيه التسامح.

2 - أن الاختلاف من طبيعة البشر، ومن مقتضيات العقل، ومن ضرورات الاجتماع، ومن مشاهد الحياة، فنحتاج إلى التسامح لكيلا يتحوّل الاختلاف إلى سبب للتباعد بين النفوس، ولزرع الأحقاد وتوليد النزاعات، بل ليكون رحمة ويضفي على الناس متعة العيش وبهجة الحياة.

3 - إظهار نوازع الخير وكبت نوازع الشر في النفوس يتوقف على التسامح.

4 - لأن الضعف من طبيعة البشر، ولكيلا يتم استغلاله للاستقواء على الآخرين أو إقصائهم أو هضم حقوقهم لا بد من التسامح.

5 - كي لا يكون التعصب والقمع والهيمنة بديلًا، والعنف سبيلًا، والتكفير خيارًا، فهذه الظواهر وغيرها لا تظهر إلَّا مع غياب التسامح.

6 - ولكي يكون للتسامح قوة وفاعلية لا بد أن يتحوَّل إلى موقف إنساني ثابت والتزام أخلاقي راسخ، ومصدر للاستلهام، وحينها يكون هناك تضامن من أجل التسامح، لأن الحكمة تتغلَّب على التعصب، والتسامح هو حكمة، ولأن المنطق يتغلَّب على عنف والتسامح هو منطق، ولأن الشجاعة تتغلَّب على التهور والتسامح هو شجاعة، ولأن الحرية تتغلَّب على التكفير والتسامح هو حرية.

بتلك الدلالات والمعاني ينبغي أن نفهم التسامح، وبذاك الإدراك ينبغي أن نتعامل معه، مستحضرين أهم ما جاء في إعلان اليونسكو عن التسامح وما أثبت له من معاني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع، وما يقتضيه تعميم التسامح من تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها.

باحث في الفكر الإسلامي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان - المغرب.