قصة قصيرة
لا تطردني من بابك
كان يمتلئ نشوة وسرورًا والسُّبحة بيديه لا تنفكّ عن الدوران، كلما مرَّ على جماعة من أهالي قريته وهو يسمعهم يتحدثون عن الذئب الذي هاجم مسؤولًا فاسدًا، أو تاجرًا متلاعبًا غشّاشًا، أو مروِّجًا للخمور والمخدِّرات، وكانت الابتسامة ترتسم على محيَّاه، وتتغيَّر مشيته وكأنه عريس في ليلة زفافه.
ثم يتذكر تلك الليلة..
في طريق عودته لمنزله عبر المزارع المحيطة بالقرية خفَّف من سرعة السيارة، وفتح نافذتها ليستمتع بالهدوء ويستنشق الهواء اللطيف.
لفت انتباهه صوت أنين بالقرب من كومة حشائش عند منعطف الطريق الترابي، ظنّ أنه إنسان يحتاج للمساعدة، فتوقف ونزل يبحث عن مصدر الأنين.
مشى وهو يضيء المكان بمصباح هاتفه، فرأى عينين حادتين لذئب رجله تنزف في فخ نصب هناك.
توقف الأنين، وهدأت الحركة، وطال تحيَّره: ماذا أفعل؟ هل أمشي وأتركه يموت أم أفتح الفخ؟
مشى متّجهًا إلى السيارة فعاد الذئب للأنين وكأنه يتوسَّل إليه أن ينقذه.
عاد فرآه نائمًا مستسلمًا، وما إن فتح عقدة الفخ حتى أنشب أنيابه في جسده، ثم ابتعد قليلًا ينظر إليه وكأنه ينتظر ردّ فعله.
نظر إلى الدم ينزف من يده التي واجه بها هجوم الذئب، ثم نظر إليه وعيناه تلمعان في الظلام، فخاطبه: هذا جزاء الإحسان؟، وتمتم بحزن عميق: أنقذك فتهاجمني؟
إلا أنه خيِّل إليه أنه يسمع صوتًا متحدثًا يقول: هذا الهجوم هدية منّي إليك؛ نظير إنقاذك لي، لم أقصد إيذاءك، فدمك الآن مختلط بدم الذئاب.
ثم عوى، وأكمل: أنت الآن تمتلك قوة في حواسّك تفوق حواسّ البشر، وقوة جسدية تتفوق بها على أيِّ إنسان، ويمكنك أن تفهم لغة الحيوانات، وستتحول إلى ذئب كلّ ليلة لمدة ساعة فقط لنلتقي هنا.
وذهب.. وتوقف نزف الدم، بل التأم الجرح وكأنه لم يكن، وعاد للبيت وهو بين مصدِّق ومكذِّب لما رآه وسمعه.
تساءل في نفسه: ماذا لو صح ما حدث؟
كان قبل الحادث في سيارته يفكر فيما يعانيه المجتمع من الفساد والمفسدين، وكان يقول في نفسه: لو أنني أمتلك قوة لشربت من دمائهم، بعد أن شربوا من دمائنا، وشاركونا أرزاقنا.
تأمل مكان الجرح وأكمل: سوف أتتبَّع المفسدين وأقضي عليهم.
في الليلة التالية أحسَّ بدوار في رأسه، ثم شعر بقوة تتسلل إلى جسده، حتى صار يسمع دبيب النمل، ويرى في الظلام كما يرى في النهار.
في طريقه إلى خارج المنزل بدأ شكله يتحول إلى ذئب وصار يركض على أربع حتى وصل إلى مكان الحادث، ورأى عددًا من الذئاب التي استقبلته بالعواء.
صار كلّ ليلة ينتظر ساعة التحوّل بشوق حتى يطهّر الأرض من اللصوص، ومن النساء المنحرفات، ومن مروجي المخدِّرات والخمور.
اليوم، مرّ كعادته على السُّوق ليمتّع سمعه بما يتناقلونه من أخبار الذئب، وما يفعله في المحتالين والمتلاعبين، لكنه فوجئ بحزن يخيِّم على الناس، بسبب وفاة سيِّدة متأثرة بجراح ذئب هاجمها.
سأل رجلًا عابرًا عن المرأة: أليست تلك التي تستقبل الرجال الأجانب في بيتها؟
قال له: وهل صدَّقت ما يقال؟ إنَّها إشاعات، هذا الرجل الذي يزورها هو زوجها، لكنَّهم متزوجون بالسِّر.
اشتعل في داخله صراع بين الذئب والإنسان.. وبدأت رجلاه تصطكان من الخوف، ووجهه يسودُّ من الحزن، وهرب مسرعًا، يمشي وكأنه يركض، ووصل للبيت مع دويِّ صوت المؤذن لصلاة المغرب.
وقف عند باب بيتهم، وأمسك المقبض بيدين مرتجفتين، ولم يستطع فتح الباب إلَّا بعد عدة محاولات.
ذهب مباشرة إلى غرفته، وأغلق على نفسه الباب، ونظر لوجهه في المرآة، وخاطب الصورة المنعكسة: من أنت؟
من نصَّبك قاضيًا لتحاسب الناس؟
كيف سمحت لنفسك أن تكون القاضي والحكم في الوقت نفسه؟
ثم توجه للسماء، ملتجئًا إلى الله، وقلبه يحترق، ويداه ترتجفان:
يا إلهي..
أنا أحبّك فساعدني..
فأنا يا ربِّ أمرُّ بأوقات صعبة.
لا أستطيع التنفس وأنا أفكر في دماء الأبرياء
أنا.. أنا يا سيدي.
ويختنق بعبرته، ثم يواصل:
أنا عبدك الضعيف
واهتزَّ جسمه من الخشوع، وجرت دموعه كالنهر، وجثا على ركبتيه وهو ينادي ربه:
مَنْ لي غيرك ياااا ربّ
وبكى وهو يكرِّر: يا إلهي
إن تركتني فَلِمَنْ ألجأ؟
ومن غيرك يساعدني؟
إلهي، عبدك ببابك
فلا تعرض بوجهك الكريم عنِّي
واقبلني ياااا ربّ
وخرَّ ساجدًا، وأنفاسه تتقطّع، وأنينه يرتفع.
إلهي، لا تطردني من بابك
إلهي، لا تطردني من بابك
إلهي، لا تطردني من بابك
الهي، لا تخيب رجائي..
إلهي، أنت الحليم والقريب والرحيم وقد وقفت بين يديك فارحمني.
إلهي، أنا الضعيف الذي قوّيته، فلا تسلب رحمتك لي، وأعنِّي على نفسي ياااا ربّ.
في منتصف تلك الليلة سُمع إطلاق رصاص من مسدّسات حرّاس أحد المسؤولين، وقيل إنّ شابًّا أصيب برصاصة في ظهره أثناء مطاردة الحرّاس لذئب هاجم المسؤول وقتله، وقد أسعف الشاب، وغادر المستشفى بعد أيام، ولم يظهر الذئب بعدها أبدًا.