آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 6:06 م

عذابات الاختيار

إلهام حسين الصويلح

The Agonies of Choice

موقع: مدرسة الحياة - The School of Life [1] 

ترجمة: إلهام حسين الصويلح

خلال أغلب فترات التاريخ لم نمتلك الكثير من الخيارات فيما يخص طريقة عيشنا. كانت تُتاح لنا وظيفة واحدة طيلة حياتنا، تختارها العائلة. وشريكٌ واحد يُسمحُ لنا الزواج منه، تختاره العائلة. وشبكة واحدة من العلاقات الاجتماعية التي لا يمكن الفرار منها. لم يكن بالإمكان العيش في أي مكان آخر، ولم تتوفر الكثير من السلع. ولم تكن الأخبار تصلنا من أي مكان. لا يوجد ما يُحسَد أو يُشتهى. كما كانت مُساءلة السلطة مستحيلة، فقد كان على المرء أن يمتثل لإملاءات العائلة والخطباء والمعلمين والملوك بالإضافة إلى كل ما يُدعى ربّاً - والذي غالباً ما يكون عالماً بكل شيء وواضعاً لتعليمات دقيقة تبين الطريقة المثلى لحياة الإنسان من ولادته حتى مماته - لم يكن التساؤل إن كنا سعداء ليفيدنا في شيء فحتى لو لم نكن، لا شيء سيتغير فوجودنا محكوم بجدران متينة مفروضة علينا.

إلى أن جاءت الحداثة لتحطم الجدران وتحررنا من جميع النواحي. صار بإمكاننا الاشتغال بما نشاء والزواج ممن نشاء والانفصال متى نشاء والعيش أينما نشاء. كما صرنا نملك حق التشكيك بالكل والإذعان للا أحد. تبدو هذه الحرية حُلوة، وهي كذلك على بعض الصعد إلا أنها قد تُصبح عبئاً ثقيلاً لا يُطاق.

نحمي أنفسنا أحياناً من الوعي التام بالحرية التي نمتلكها. فنمضي حياتنا الراشدة ببقايا من ذهنية سنواتنا الأولى وكأننا أطفالٌ وُدَعاء يلعبون دور الراشدين. نضع ثقتنا في من يحل محل المعلمين «الرؤساء والحكومات» ونقنع أنفسنا بأن الجوانب المزعجة في حياتنا“واجب”«كبديل للواجبات المنزلية». ونستبعد أي فكرة للتغيير بتخيلنا أن أصدقاءنا ومعارفنا سيُصدَمون وأنهم بذلوا الكثير لحياتنا الحالية. كما نتخيل أن أصحاب السلطة عُلماء، فهم يبدون مُحتَرَمين ومُطّلعين، فنتبعهم حتى مع جهلنا بالأسباب التي تقف خلف توجيهاتهم، فليس بالإمكان أفضل مما هو كائن.

ثم تباغتنا الأزمات - التي تظهر متفرقة في الحياة الفردية للبشر إلا أنها متجذرة في عصرنا بأكمله -. لحظات من انعدام اليقين لا نتمكن فيها من تبين سبب لقيامنا بعملٍ ما دون آخر، أو لاختيارنا لشريك الحياة هذا بدلاً من غيره، أو لعيشنا هنا بالتحديد. ثم ندرك أن: لا أحد يهتم، ولا أحد يعلم. فوجودنا وعلاقاتنا وأعمالنا لا تهم أحداً. قد يمتلك الآخرون ظنوناً ووجهات نظر حولنا لكنهم في الحقيقة مشغولون بكفاحاتهم التي تمنعهم من الاهتمام بحياتنا. وهكذا تتكشف لنا هشاشة آرائهم حولنا والتي لطالما اعتقدنا بقوّتها ووجوب امتثالنا لها. فلو أننا واجهناهم اليوم وبدلنا الصورة التي يحملونها عنا في أذهانهم لمضوا في حياتهم غير مبالين بعد لحظة قصيرة من الإندهاش.

قد يبدو أن منظومتك ستفتقدك لو تركتها ولكن بالكاد سيتذكرك أحد بعد مرور أسبوع، فوجودك ليس «ضرورياً» في أي مكان. بإمكانك أن تصبح فناناً، سياسياً، بستانياً، أو ناسكاً في منزل صغير في بقعة قاحلة من أندلُسيا. فقد بليت فكرة وجوب البقاء في مكان بعينه. انتهى الفصل الدراسي، وبإمكانك أن تذهب أينما تشاء دون عودة. أما فيما يتعلق بالسلطة، لا يبدو أن على الأرض من يَعْلَم. لا الحكومة، ولا المدرسين ولا كل من كنت تكن لهم الاحترام يوماً.

وفي الأثناء، وزيادةً في أسباب الاضطراب والتشويش، تعلم أن الوقت يمضي وأن إنجازات الآخرين في مثل عمرك أضعاف ما أنجزت، وأنك ستشيب وستفنى قريباً جداً. فتعاني من دوار الاختيار وقد تحن لجدرانك القديمة وتتوق لصوتٍ يرشدك من السماء. قد تبدو على حافة الجنون، لكنك مجرد نموذج شائع لمواطني الحداثة المرتبكين.

إننا لا نُناقش هذه الأزمات عادةً لأننا نشعر بأنها مُخجِلة، لكنها جزءٌ لا يتجزأ من الحياة في العصر الحديث. فكيف لنا لو كنا نملك ذرة وعي، ألا نزعزع كينونتنا وكل ما يتعلق بها بين الفينة والأخرى؟ كيف لنا ألا نجزع على الفرص التي ضيعناها، والأسئلة التي لم نفكر في طرحها، والطاقات التي أهدرناها؟ نحن في طريقنا للفناء ويتهددنا دفن أفضل ما بدواخلنا لأننا لم نمتلك الجرأة لاستكشاف أنفسنا خوفاً من الاحتمالات اللانهائية لحياة الكبار وبقينا بدلاً من ذلك أطفالاً نلوم الآخرين والظروف على خوفنا وبلادتنا.

علينا أن نتقبل أننا لا نملك عادة قوة الشخصية اللازمة للتمكن من خياراتنا. فقلّة فقط من كل جيلٍ يملكونها. أما نحن فسنكون غالباً - مقارنة بإمكانياتنا - قد دمرنا حياتنا ولم نحسن استغلال حرياتنا واستهلكنا الكثير من أعمارنا في محاولة إرضاء معلمينا وآبائنا. بإمكاننا الاعتراف بالمشكلة على الأقل، فهي طبيعية جداً، وعند النظر لها بلطف قد تبدو طريفة. علينا مساندة إخواننا من مواطني الحداثة المعذبين، فما نمر به ليس فشلاً، إنها حال البشر: أن تُخطئ الاختيار مع امتلاكك للحرية، وأن يشلك الخوف رغم قدرتك على الحركة، وأن تعلم أن افتراضاتك حول الحقائق الكبرى خاطئة لكنك تجبُن أو تتكاسل عن اكتشاف البدائل، وأن تعلم أن أغلب من حولك حمقى لكنك تظل بسخفٍ مهتماً بآرائهم.

لا شيء من هذا غريب، فكله جزء من كروب الحداثة - والتي تستحق أن تُرصد، وأن يُضحك عليها وأن تُستنكر حتى في حال لم يمكن التغلب عليها وتجاوزها.