آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 3:07 م

وداعا يا رفيق الدرب

عبد العظيم شلي

أن تكون سادرا في مشاغلك، ملتهيا بأمور حياتيك اليومية، وتفاجأ بخبر يصدمك بعنف، يهز كيانك، يأخذك بأسى دون حسبان، لحظتئذ تتوقف عن الحراك، يشل التفكير ويبهت الإدراك، ما أقسى على النفس أن تبلغ برحيل أحد الأحباب القريب منك روحا وعاطفة ووجدانا، عندها تتبدل مشاعرك رأسا على عقب، وتتلون بحجم المصاب.

بعد ظهر أمس توالت الأخبار الحزينة برحيل شخصية تشكيلية معروفة عند الكثيرين من نساء ورجال ولا سيما الفنانين والفنانات في كل محافظة القطيف وما جاورها، كل آلمه الخبر المفجع الموزع في الصحف الالكترونية المحلية.. «الحاج محمد الحمران في ذمة الله، انتقل الى رحمة الله تعالى الفنان التشكيلي محمد هلال الحمران بعد معاناة مع المرض....»، نعي موجع مبكي عند جميع الأصدقاء والزملاء وكل من عرف الراحل قربا أو بعدا.

عند ورود الخبر في دقائقه الأولى، ضجت كل قروباتنا الفنية بمختلف مجالاتها بالتعزيات، سرت حالة من الحزن والأسى في نفوس الجميع، بعض غير مصدق، وآخر مسلم بالأمر، وما بينهما عبارات الترحم وبث محاسن الصور وجميل الذكريات.

إيه يا أبا قاسم أصحيح رحلت عنا بالأمس، أصحيح وجهك المحمر فرحا المبتهج نظارة غاب عنا للأبد، كيف ننعيك وبأي صورة نرثيك، وبأي كلام نذكرك؟.

وكيف لي أن أنعي من كان قريبا مني همه همي وقلقه قلقي، وأيضا قريب من أعزاء أعرفهم بالاسم، كيف أعزيهم عن شخص يعرفونه حق المعرفة، عن انسان حمل الروح الجماعية على عاتقه ولم يكل ولم يمل وحتى وهو على فراش المرض، يسأل عن أخبار نادي الفنون بالقطيف وبالأخص عن كل مستجد حول جماعة الفن التشكيلي التي ترأسها لفترتين زمنيتين مختلفتين تكاد تكونا متقاربتين، رئاسة صرفت من جهده ومن وقته وحتى من ماله! في سبيل الإعلاء من شأنها ورفعة مكانتها حضورا في ربوع الوطن.

محمد هلال الحمران ذلك الانسان البسيط العفوي الذي يخاطبك دون كلفة ولا تصنع، الممتلئ حماسة، والمتوثب نشاطا، كم أعطى وقدم خدمات بإسم الجميع خلال ترأسه لجماعة الفن التشكيلي.

إنه شخصية مقدرة محبوبة لكل من تعامل معه وكل من عرفه وجها لوجه، ديدنه الاخلاص والصدق والمثابرة والعطاء بصور شتى. سيرته عطرة محملة بصور وضاءة شهدها كل أعضاء جماعة الفنون، حمل الريشة في يد وفي الأخرى تحمل المسؤولية، ما أعجب تلك اللحظة الحاسمة، حينما التم الجمع في الجلسة الدورية المعروفة ب ”خميسية الأحبة“، وكانت ليلتها في رحاب مجلسه بالدخل المحدود، كنا مجموعة من الرفاق الفنانين، وبين ضحك ودردشة، ومساجلات فنية، توقفت الأحاديث والتزمنا السماع، تحت تأثير دعوة الأب الروحي لجماعة الفنون التشكيلية الاستاذ علوي الخباز، بسؤال المعاتب المحب ”هل يرضيكم وضع الجماعة الحالي والمتباطئ نشاطا، وكيف تسير أنشطة من دون رئاسة وخطة عمل مستقبلية، هل عجزتم عن تولي المهمة، بالتصدي لدور القيادة، ما في أحد منكم يمسك رئاسة الجماعة، وإلى متى هذا الفراغ سوف يظل، ما هكذا الظن بكم، اتركوا عنكم حالة عدم اللامبالاة، اذا كنتم تحبوني وتعزوني وتحبون البلد، ما اطلع الليلة من هالجلسة الا أحدكم يقول أنا بستلم الجماعة أو ترشحوا أي أحد قادر على البذل والعطاء“.

ران على وجوهنا الصمت برهة من الوقت، بعدها كل أبدى مبرراته وتهربه من تحمل مسؤولية الرئاسة! حين دب اليأس في وجه أبي هشام والحيرة لفّت المكان، وكأن الطير على رؤوسنا! جاء صوت المحب للجماعة المدافع عنها قلبا وقالبا، انبرى العزيز محمد الحمران ضاربا على صدره، قائلا: ”يا سيدنا ما عندي مانع بأن أمسك الجماعة مرة ثانية لكن بشكل مؤقت لحين يتم اختيار شخص مناسب“.

وبالفعل أتى للجماعة ثانية مستفيدا من كل خبراته السابقة حيث عمل قبل رئاسته الأولى سكرتاريا للجماعة في سنين تأسيسها ولمدة ثلاث سنوات تقريبا.

لكن حدث خلال رئاسته الثانية ظرف عصيب وعاصف، تحمله بكل اقتدار وروية، حيث أرغمت جماعة الفنون التشكيلة وكل جماعات نادي الفنون على مغادرة مقرها الكائن ضمن مباني مركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف، مقر منفصل احتضنها طوال 20 عاما حافلا بالإنجازات، عندها تصدى مع المقربين منه لنقل الارشيف الضخم إلى مبنى اللجنة الأهلية والذي يعتبر نادي الفنون أحد لجانها الفاعلة.

طوال هذا المتغير وعلى مدى عام كامل كان ديدن الفنان محمد الحمران، البحث عن مكان يليق بإسم الجماعة وتاريخها الحافل، كان يقول هذا المقر أفضل، هذا المنزل ربما أحسن، لا هذا المكان قد يكون ملائم، وهذا وذاك، إلى حين أبلغ المرحوم المهندس عباس الشماسي رئيس اللجنة الأهلية ضمن اجتماع مخصص للفاعلين في دفة الجماعة، بالمطالبة بمقر يليق بتاريخ الجماعة وسمعتها، وقد لبى المهندس طلبه حالا وهي أمنية الفنانين والفنانات، بإيجاد مقر مستقل تتولى اللجنة بجهيزه واستئجاره لمدة مفتوحة غير محددة، وبالفعل تم ذلك بجهد كل المخلصين.

إن اخلاص محمد الحمران لم يكن في تولي الرئاسة شرفيا وإنما نابع من روحه التواقة للعمل التطوعي السامي خدمة لمجتمعه أولا وأخيرا.

وخلال السنتين الأخيرتين من رئاسته الثانية أسند المهمة لنائبته الفنانة سعاد اوخيك لتسيير الأمور مع باقي أفراد الادارة من فنانين وفنانات، نظرا لكثرة مراجعته المستمرة لأروقة المستشفيات بعد أن ألمّ به المرض بشكل مفاجئ، مرض غالبه في البدء وانتصر عليه بعزم لا يلين، وتحت دعوات المحبين من أخوة وأخوات بإرسال دعوات الشفاء بين حين وآخر تمكن من تجاوز المحنة وعاد للحياة فرحا مسرورا واستبشر الجميع بعودة الروح لألقها السابق، لكن المرض اللعين المتربص به باغته ثانية وحاصره حد الخناق، أطبق على كل مفاصل جسده، لقد زلزل كل كيانه، فلم يعد قادرا على الحراك، وبرغم ذلك احتسب أمره لله بصبر وإيمان قوي، وبعبارة معتادة تنضح من جسمه النحيل، ”انا تحت اللطف“ و”قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا“، قلوب رحيمة أحاطت به بدأ من أسرته وجميع اخوانه وكذا أبي هشام وزمان لتجهيز سفره لألمانيا لتلقي العلاج على نفقة الدولة لكن تعثر اجراءات السفر، حالت دون ذلك، بعدها زادت حالته تعقيدا، وأطبق عليه المرض من كل جانب وأقض مضجعه ولياليه انينا، ينتظر رحمة ربه وظل متمسكا بالصبر وبآخر نفس حاملا روح الأمل وبلحظات الرجاء.

صدقت يا ابا هشام حين ذكرت لنا صدى صوت العزيز أبو قاسم: ”كان صابراً محتسباً مفوضاً أمره الى الله، لم ييأس أو يستسلم بل كان يردد عبارة، أنا أعيش لحظتي والباقي علمه عند الله“.

كل آجالنا يا صديق العمر مقضية آجلا أم عاجلا لا ندري متى ساعة الرحيل! ومتى تدنو المنية، تعددت الأسباب والموت واحد. لقد فتك بك المرض يا أبا قاسم بوحشية غادرة وطوق جسمك وقلبك الرقيق، مرض لعين لا يعرف صغيرا ولا كبيرا، إنه سارق أعمار البشر.

المدهش في روحك يا محمد الحمران تحمّلك المرض بصبر يهدّ الجبال. كان شعاع الأمل مرتسما على محياك بالعودة للحياة. بالعودة للصحب بالعودة للفن، بالعودة للرفاق. حيث حاولوا قدر استطاعتهم ان يؤنسوك من وحدتك قربا ويبددوا عنك قساوة المرض وفظاعته، لكن المرض وما أدراك ما هو المرض، عاجلك بضراوة ودون هوادة، وكل الآمال والدعوات الخيرة لم تنقطع لآخر يوم من لفيف الأصدقاء والأحباب.

بالأمس سلمت الروح الى بارئها، شيعك المحبون وودعك الصحب المخلصون، وأهالوا عليك التراب مكللة ألسنتهم وأفئدتهم بطائفة من الرحمات وتلاوة سورة الفاتحة، رحلت عنا يا أبا قاسم جسدا ولم ترحل، إن روحك باقية ترفرف في سمانا، متواجد طيفك بيننا.

بطلتك، ببسمتك، بنبرة صوتك، بتعليقاتك، بقفشاتك، بلوحاتك، بألوانك، بالورش التي جمعتنا ”بالروحات والجيات“ وبكل الهموم والتطلعات والآمال التي اشتركنا في رسمها معا.

ها قد رحلت عنا يا أبا قاسم، ماذا سيقول الصحب القربين منك جدا جدا، وأي المواقف سيذكرونها وأي العبارات سيتلوها بعد أن رحل عنهم من تحمل عبئ المسؤولية بضمير متوقد لسنين خلت، وأي العبارات ستصاغ بعد أن حفر سيرته تفانيا، رحل انسان عزيز كان بين صحبه شمعة مضيئة والآن في عداد الراحلين.

إيه يا دنيا لماذا يرحل عنا الذين نحبهم!، يرحلون عنا ونحن بحاجة اليهم، يرحلون ويتركوننا حيارى، يرحلون ويدعون في رثاء مبكي وحزن عميق.

أفعالك الطيبة يا رفيق الدرب ستبدد وحشة الأحزان.

طيبي نفسا يا أم قاسم والهمك الله الصبر والسلوان له المغفرة والرضوان.

وداعا يا أبا قاسم كنت مضمدا للجرح حافظا للسر، مسليا للروح، كريم النفس.

عزائي لابنتك وجميع الأولاد والأخوان وكل الأقارب والأرحام والأحباب، عزيزكم أصبح في رحمة الله. رحمك الله يا أبا قاسم رحمة واسعة، وجعل قبرك رياض من رياض الجنة، إلى جنان الخلد أيها الخِلّ الوفي.

وبينما كنت أضع الكلمات الأخيرة لهذه المرثية في هذا الصباح الحزين الذي زاد قتامة وحزنا إلا بخبر آخر مفجع، رحيل بنت خالة زوجتي، الشابة وداد معتوق صفوان في ذمة الله، ما أقسى ذلك على النفوس حينما تحاصرها مرارات الرحيل من كل جانب، رحمك الله يا أم محمد صفوان ورحم الله زوجك عبد الوهاب وأختك نسيمة وأخويك الأستاذ ابراهيم وصالح ووالديك، أحزان وراء أحزان، ففي الأسابيع القليلة الماضية فقدت عائلتنا بنت عمي زهرة شلي وبنت عمتي زهرة المهر أم وصفي الحجاج، ألف زهرة على قبوركم الندية وألف رحمة تتنزل على أرواحكن الطاهرة، الهي الطف بعبادك والهمهم الصبر والسلوان وامسح على قلوب الفاقدين وأودعهم القناعة والرضا وحسن التسليم بالقضاء والقدر.

رحم الله موتانا وجميع موتى المسلمين، إنا لله وإنا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، نفوض أمرنا لخالقنا والمرجع كله لله.