حتى لا ننتهي إلى مدن للغربان
مع دخول فصل الصيف، وارتفاع درجة الحرارة، ترتفع الأصوات الداعية لمساعدة الطيور في اجتياز امتحانات القيظ، عبر توفير الماء والطعام لها في الأحواش والفضاءات المفتوحة، وكأن هذه الطيور تلاميذ مستجدة على مواسم السخونة، الأخبار كما الدعوات تتوالى عبر وسائط الإعلام لتخبرنا عن مبادرة هنا ومبادرة هناك تحت عنوان المحافظة على البيئة تارة، والالتزام بالتعاليم الدينية التي ترى بأن ”في كل ذات كبد رطبة أجر“ تارة أخرى.. عناوين كثيرة تحملها هذه المبادرات والحملات والهدف هو تمكين الطيور من الوصول إلى ما يهبها الحياة من ماء وطعام.
هذه الهبة ”الكريمة“ لا تبدو كذلك في عين صديقنا الفنان محمد الزاير، المختص البيئي والمهتم بعالم الطيور، فهي برأيه تندرج ضمن أشكال التدخل البشري الضار في شئون البيئة، رؤية صادمة غير أنه يصر عليها في حوارات صريحة داخل مجموعة رصد وحماية الطيور حيث يفسر ذلك بالإشارة إلى كون الطيور المحلية قد وهبها الله القدرة على التكيف والتعايش مع ظروف المنطقة التي اعتادتها منذ آلاف السنين، وأن المستفيد من هذه المبادرات هي في الغالب الطيور التي يصفها بالدخيلة والغازية، والتي يأتي في مقدمتها الغربان.
أن يكون الطائر دخيلا بالنسبة للزاير يعني أنه عنوان خراب للتوازن البيئي، وعنوان إحلال لحيوانات على حساب حيوانات أخرى، لذلك قد تنتهي المبادرات الطيبة إلى نتائج عكسية على البيئة، وتساهم في خلق مشاكل جديدة ومفاقمة أخرى، ولعل هذا الرأي يجعلنا نفكر مليا في هذا الانتشار الكثيف للغربان في طول المنطقة وعرضها، تحدق في السماء فلا ترى إلا سوادها، وصياحها، تزاحم عصافير الصباح، وأسراب الحمام، وتثير الكثير من الفوضى أنى حلت.
أتذكر حضورها الكثيف في جدة، وفي وسط البلد تحديدا في منتصف التسعينيات، وأتذكر الدهشة لمشاهدة طائر لم نعتد حضوره بكثافة في مدننا، قبل أن تمضي السنوات، وأشاهد حضورها مرة أخرى في مطلع الألفية على سواحل رأس تنورة، حيث يشار دائما إلى عبورها من هناك في أواخر السبعينيات، لم تكن أحياء المنطقة الشرقية عموما في صداقة معها في تلك الفترة، حتى انفجرت وانتشرت وأصبحت أعشاشها ترى فوق كل شجرة اليوم.
محاربة أعشاش الغربان والامتناع عن توفير الطعام لها هو السبيل الوحيد للتحكم في عملية انتشارها داخل البيئة المحلية، لذلك سأجد في دعوة صديقنا الزاير للتوقف عن توفير منصات طعام مجانية لها ولسواها من الطيور الدخيلة أمرا يستحق الاهتمام والالتفات، حتى لا تصبح النوايا الطيبة، والكرم العميم، سببا لجعل المدن الساكنة ما بين الماء واليابسة منصة لتصدير الغربان، ونصبح نحن أسارى لمزاجها وأزعاجها وأفعالها التي أختطفت الأرض والسماء معاً.