خَوفٌ يَقطَعُ الجَوف
لَعَلَّ وَاحِدًا مِن الأَمثَال الشعبية القديمة المُتداولة في مَنطقة القطيف، وبالتحدِيد في ”جزيرة تاروت“: ”الخَوفُ يَقطعُ الجُوف“ … يُقال هذا المثل الشائع المُجلجل جُزَافًا، عندما تتمكن حَالتا الخَوف والقَلق العَابرتان مِن شَخص مَا، وتَرتعد فَرائصه؛ ويَجف رِيقه؛ وتَشل تلك المَشاعر الظَاهرة حَركته؛ وتُسيطر على أَحلام يقظته؛ ولا يَقصد مُلقي المثل هنا، بأن صَاحبه قد أصِيب بالخوف المَرَضِي ”الفوبيا“، إنَّما جَرت العادَة، آنذاك، على استخدام الأَمثال الشعبية المَحلية بِشكل يَومي مُسرِف، ورُبما يُلقى المثلُ المُطابق للحَالة اللحظية الظاهرة بعفوية، على عَواهِنِه… ولَعلِّي هنا، أنا المستهدف في مُصَارعة ومُقَارعة سِيناريو ضيف أحلام يَقظتي الزائر الرافد، بين الفَينة والأُخرى، بموجَة خوف مُتجددَة، تنتابني كُلما خَلوت إلى نَفسي؛ واستلمت حُضن الأرِيكة الوَثيرة؛ لأسرحَ وأشطحَ في جَذب ”ألبوم“ الصور الذهنية المُتوافِدة؛ وألهُو في زَهو هَالات ”الفلاشات“ المُتسربة، في عُمق مَحَطات صَفحة مَسرح المَاضي المُنصرِمة؛ وأتِيَه مِرارًا وسط بريق أحلام أيام الطفولة الوادِعة؛ وأنا اليوم ليس عندي مُستندٌ وَثائقيٌ مُستقلٌ؛ ولا أملِكُ ألبومَ صورٍ حَية شَاملًا؛ لأعرضه بهِمة وشَفافية، على مَرأى ومَسمع مِن جَمع أنجالي وأحفادي الأبرياء، بقضه وقضيضه؛ لأنجح بامتياز فائق؛ وأظفر بإهداء رائق، في تَوصيل إخبَاري سَلس؛ وأقدِّم أداءً قَصصيًا مُتقنًا، بشرح دَقيق مُفصل لحياة أبناء جِيلي، أَطالَ الله في أَعمار حَاضرهم… حِينها كانت جزيرة تاروت الخضراء غَابة كَثيفة، ”تعجُ وتضجُ“ بالحياة الفطرية السارِحة السارِبة؛ والعامِرة بساكنيها 'الأطايب'؛ والمُزدانة بمساعي البساطة والسكنات الهادئة؛ والمُمهدة بحرية التنقل الآمن، في أطراف مَناكبها السالكة؛ فلا اَبواب مُوصدة على البساتين النضِرة المَثمرة؛ ولا حَواجز تَفتيش تَمنع دُخول الصبيَة الأتراب إلى بُطون العُيون الساخنة، أو الوُلوج السهل إلى يَنابيع المياه الارتوازية المُتدفقة؛ للعب واللهو والاستحمام؛ ولا مَصدات تحذيرية تقف أَمامهم عن مُمارَسة هِواية ”الحَبَال“: صَيد الطيور المُستوطِنة في رُبوع الجزيرة، وأترابها المُهاجرة المَوسمية إليها، بأشكالها وألوانها الجَذابة، وأنواعها وفَصائلها الفَتانة، خَاصَة في فَصلي الربيع والصيف: كالأصَارِد والسمَّن بأنواعها، والفَقَاق والمِدِقَّي والبلابل والصقور… وتَرى الصبية الوَلهين، مِن حَولك، كل قد تَأبَّط فَخه، وانطلقوا بهِمة ونشَاط، إلى عُمق بُطون البساتين؛ واخترقوا، بتقدم وثَبات، إلى سُوح المُسطحات الخضراء؛ لصيد مُختلف الأطيار، مُتعددة الألوان، ومُتَباينة الأحجَام؛ وعَادوا بملء سِلالِهم الحُبلى!
وهناك، في جَنبات حَاضرة قلعة الديرة، وفي أركانها الساكنة، جَذب نوعي لا يُقاوم؛ ومُتعة ضَافية لا تُمَل، ابتداءً من هُروب عَتمة أول الفَجر إلى غُروب شَمس آخر النهار… فقد جَلس الخباز مُبكرًا مُقابل ”تخته“ القديم، أمَام تل مِن العجين؛ وقد استهل مَهام عَمله بالطرق على التخت؛ وتَقطيع العجين إلى دوائر مُتناسقة؛ وتَدويرها وتَحويرها؛ ولَصق قُرص العَجين المَسطح في جوف التنُّور المُلتهب؛ ليُتحِف - بالتمايل يَمنة ويَسرة - شَهية الزبون الحاضر المُنتظِر برغيف مُحَمَّر مِن الخبز الذهبي الساخن. وهناك في زاوية مُقابلة مِن شارع السوق الرئيس، أمام حَي 'الدشَّة'، ترى الحَداد الصامِد، وقد تناوب مَهام عَمله النشط، بين الوُقوف والجُلوس؛ لينفخ الكِير، ويُؤجج النار؛ ليطرق سَطح الحديد المُحمّر ويُطوعه؛ ويَصنع مَا يَحتاجه القَلاَّف - صَانع المَراكب والسفُن - مَن عُدَدٍ ومَسَامير؛ وما يَطلبه الفَلاح مِن مَحش ومِنجل؛ ومَا يلزم مَطبخ المنزل مِن سَكاكين… وهو مُنهمك ما بين قَص وطَرق ونَفخ وشَد وجَذب؛ تشاركه في فُنون المُتعة اللحظية الشائقة حُضور حَواس المُشاهد اليقظ لتلك الخطوات الإجرائية ”البهلوانية“. وفي الزاوية الأُخرى المُوازية، جَلس الإِسكَافي مُتربعًا، في سَكينة ووَقار، وهو مُمسك بمقصه الحاد؛ ليقطع رِقاع الجلد المَدبُوغ؛ ويتم صناعة زَوج مَن حِذاء مُترف مُريح، تنعم به قَدما الزبون المُنتظِر؛ ويَزهو به العَرِيس العَطِر في ليلة زفافه. وهناك، بالقُرب من خلف ”قَفلَة“ 'حَمام بَاشَا' المعروف ترى الصفَّار، وقد صَف أمام مَحله القُدور النُحاسية المُتسعة المُتعددة المقاسات والأحجَام، وقد دخل في جوف إحداها، بعد أن فَرش قاعها بمواد مبيِّضة حَاكَّة، وغَطاها بطبقة مِن ليف النخل؛ ليبدأ عَملية التنظيف والتبييض الجاذبة، وقد وطأ بقدميه العاريتين فوف فرشة الليف، دَاخل القدر؛ ليتمايل يَمنة ويَسرة وُقوفًا، بحَركات بَهلوانية نَشطة؛ ليدعَك ويفرك ويصقل قاع القدر الصدِئ المتسِخ. وهناك في أطراف ”زحمة“ مَكانية بين بُيوت أَزقة الديرة الضيقة، جَثا النداف، شاهرًا آلة ندف القُطن اليدوية، وهو يَندِف القطن نَدفًا؛ لينهي إعداد مَرتبة مُريحة؛ ويكمل حَشو وِسادة فاخرة… فلا يَكتفي الصبية الجُذلان النشطاء أنفسهم بالتجوال الدائب وَسط ”سَوابيط“ أزقة الديرة، حَتى تَشُط أقدامهم الندية، مَرة أخرى، إلى أطراف شَواطئ الجزيرة، شَرقًا وجَنوبًا - إلى 'سَنابِس ودَارِين'؛ للنزهة والاستطلاع والاستكشاف؛ وهناك يَقفون مَشدوهِين عند سَقيفة القلاف؛ ليُمتعوا أنظارهم المُرهفة بمَراحل صِناعة المَركَب المُثيرة… فما بين مَهام تقطيع الألواح بالمنشار؛ وتنظيفها بالفأرة؛ وتثقيبها بالمِثقب؛ ودَق المَسامير بالمطرقة؛ يَتنفس الصبية الصعداء؛ ويَندمَجوا مَأسُورين في مُتابعة تلك المراحل الفَنية المُتتالية، وكأنهم يُشاهدون فلمًا كرتونيًا أمام شَاشة التلفاز… كل تلك المِهن الحِرَفِيَّة الرائدة المُشاهَدة بمُتعتها يومًا؛ والمُمارسة برِزم أكداس أمثالها الرائجة بعَراقتها الأصيلة عقودًا، آنذاك، والمقدمة بأيدٍ مَاهرة، وكَفاءة بَارعة، مَن أبناء البلد المُكافِحين وَراء لُقمة العَيش الراضِية المَيسورَة، والتي في مُجملها تَصب في مَنظومة وَعي حَضاري حَيوي وَاسع، جُبِلوا عليه، وتَوارثوه منذ القِدم جِيلًا، بعد جِيلٍ… تلك المِهن الحَركية الرائدة، سَادت وانتشرت رَدَحًا؛ ثم بَادت واختفت خِلسَة، ومَا تَزال أصداؤها حَية نَابضة، بكَامِل أمصَالها الفعَالة، وتمَام مُضاداتها الحيوية، في عُمق ثنايا ذَاكرتي المتخَمة، كَمًا وكَيفًا… ويَبقى التوثيق المَرئي النشط؛ الحَلقة المَفقودة الأَهَم، في صَهوة أنفاس مَهارة مُسلسلة السرد القصصي الشائقة؛ لمُقارعة ومُغالبة قدرات الأنجال والأحفاد التصوَرِية… وهنا تَبدأ نَوبة خوف عَابرة جَديدة؛ لنقص وانكماش مَلحوظ في سَلاسة ”مِيكانِيكِية“ السرد القَصصي المُوثَّق، والمُوجَّه إلى استقطاب واجتذاب أخيلة حَواس طِفل وشَاب اليوم، المُتخم ذِهنهما بالمسلسلات الكرتونية الجِاهزة المُخرجة بالصوت المُدبلَج، والصورة المُلونَة، وبأَعلى حِرفية التقنيات المُعاصرة؛ فبَاتا في كَسل تَصَوُّري بادٍ، وخِدر خَيالي ظاهر؛ لاستيعاب واستيفاء نَمط حياة أندادهما «طفل وشاب الأمس» في غِيابة مَوجَة ”بياتهما الشتوي“ القائمة المُفرطة في زَمن العَولمة، ونَفرة الإنترنت، وفُصول السبورة الذكية، وجَلسات مِنصة التعلم عن بُعد… وتَبقى ذاكرة طفل الخمسينيات والستينيات، مَن القرن المَيلادي المُنصرم، مُفعة بأنواع المُتَع الشائقة؛ ومُشبعة بلَحظات الترفِيه المُريح، التي - لا تَحتاج إلى مُتعة بُلوغها - إلى زَخَم تَقنية ”مُفبركة“ مُفرطة، بمَا لَها ومَا عَليها، من الإيجاب والسلب المُتجاذبين.
ومع أنَّ شَواهد المُتعة الحَاضرة، ووَميض الحَنين المُتأجِّج، بتوارد وتزاحم فلاشات الماضي النابضة، مُسيطران، بقبضة حَديدية، على مُسلسلات أحلام يَقظتي الآسرة، إلا أنَّ لَسع ظَاهرة الخوف اللحظي المُتكررة تطفو على السطح، مِن جديد، حيث انعدام مُحتوى ألبوم التوثيق المَرئي الشامل، وانفصام وتَحوُّر الدلائل البيئية المُعاصِرة، ظاهرة مَاثلة للعِيان؛ لإتحاف خَيال طفل اليوم الحَالم؛ وإِسعافه بإمدادٍ نشط مِن رُؤية مَشاهد ولقطات حَية مُوثقة على أعتاب نَواصي مَسرح الحياة الماضِية، في سِنِي العقود المُنصرمَة؛ للوُقوف الحَي المَوثق على حَقيقة ”المَتاعِب والمَصاعِب“، التي عَاشها طفل الأمس؛ حيث لا تَفي ولا تَكفي أنفاس السرد القصصي التقليدي وَحدها، أمام طفل اليوم المُتيقظ، بتوصَيل جَودة عَرض أدائية عَالية لِباقات الصور البيئية النمطية المُعاشة، في الزمن الماضي، بقِسط وَافِر من الإثارَة والإهَاجَة؛ لتأسِيس مَشاعر المُِشاركات الوِجدانية المُتطابقة في جَوف سَلة القَاص المَاهر، بجَودة عَالية مِن الإتقان والمُتعة الحاضِرتين المُنتظِرتين؛ وتَقمص مُماثل للأيقونات النمطية المُستورة الغائبة عَن عَدسة الذهن اللاقِطة؛ ليعيش طفل اليوم المُدلَّل ولو جُزءًا يَسيرًا لساعةٍ مَن نهار، في أحلام يَقظته المُعاشَة، وسط زَخم حَبكة الأَحداث الماضية المُثيرة… عِندئذٍ أكبِر بأريحية وَاثقة، وأثنِي باستحسان ذَاتي، على صِياغة وشفافية المَثل الشعبي العَابر المَرِن، بانسِياب بساطته العَفَوية، ولَسع دَلالته اللحظية: ”الخَوفَ يَقطَع الجَوف“!