آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:30 ص

جَفَافٌ أََم نَضَارَةٌ؟

عبد الله أمان

عَادَة مَا تَعني لَفظَة 'جفاف' المُستهجَنة في رُوَاق حُضُورِها المِزاجي المُتبرم وسط مُترادِفات عَصرية مُتداخِلة مُتزامِنة: تداعِيات مَناظِر التصَحُر؛ وتراكُمات مَظاهِر الجَذب؛ و'مُتلازِمات' تكدُّس مَشاهِد القَحط؛ وبَقايا تبعثُر مَنَابِت المُحُول؛ ومُخلفات تَفشي ٱثار المَجَاعَة… هذا التحَول النمَطي - غَير المَألوف - في هَيكل عَالم الطبيعة البِكر! … وفي جَوف بُطُون عَالمنا الحَاضر المُعاصِر، بَات وسَاد توطِين واستخدام مُصطلح الجَفَاف - بأصَالتِة المَعرُوفَة ودَلالاتِه المَوصُوفَة - في مَلاحِق عَددٍ من العلوم الراهِنة المُتزاحِمة، مَع حَركة التطوُر الحَيوي الشامِلة؛ والمُواكِبة لنفرَة التوَسُع 'الاستهلاكي المُبتذلة، والمُستأنسَة لحَالة التمَوضُع القَسري المَخذُولة المَرذُولة، في هَياج فَيض وغَمرة دَوامة العلاقات الأُسرية المُضطربة المَسعُورة؛ وتوَسعًا: الشعُوبية مِنها والأمَمِية… مِمَّا أدى - استقواءً وتنمرًا - إلى انتهاج واعتلاء أدوَار التناحُر؛ واقتحَام مَعارِك الاقتِتَال؛ وانتحَال واستِحلَال سُلوك مَواقِف العُنف؛ وتَمكِين عُدوانية الاستذلَال؛ واستِغلَال عُزلَة العُقوبات، وغِِياب وِحدَة الصف، وتَبدل الأَحوال!

ولعلَّ أقرب مِثالٍ حَي مُباشر يتبادَر إلى ذِهن الباحِث المُتيقِظ مَا تَحتضِنه وتُفرِزه مُصطلحات علم النفس، والتربية، وعلم الاجتماع، وعلم البيئة الحَديثة، في ظَل رِزم سُلوكِيات العَولمَة 'المُتقاطرة' الزائغة عن حُسن الاعتِدال؛ والمَائلة عن دَعوة الامتِثال إلى وُجهَة صَرح الاستِقامة الأُسرية السلوكية، وقَواعِد الأخلاق الأسرية القَويمة، واستِحواذهما القابِض المُهيمِن بامتِياز، على سِمة الجفاف الظاهِر القادِح في 'كورس' سُلوكيات أفراد الأسرة السلبي المَشين، ومَا يُرافقه ويُماثِله مِن رَتل صَفِ أخواتها المَهزُولات العِجَاف: كالضمُور، والمَحل، والجَذب…!

وعَودُا حَميدُا إلى وُرُود ضَفة 'النضَارة' النضِرة بمَعِية صَف أخواتها الحِسَان السِّمَان: كالجَمال، والبَهاء، والرونَق، والأبَّهَة… ومَا يَسير حُرًا سَابحًا في فَلكهن الجَاذب المَاتع، لتَندى، شَفقةً وإهداءً، بفائق عَطائِهن الجَم؛ وتُستمطَر، رَحمةً وإنعامًا، بعَظيم سَخائِهن الأعَم، بمَتسع أخادِيد تَدَفق التقارُب الأسري المَحمود؛ وتَصب طَوعًا، بشفافِية وأريَحية ذَاتيتين، في مُستقر صَمِيم تلاحُم العَلاقات الأسرية الحَميمة؛ ليَتبدَّل جَفاف وتَيبس أطياف المشَاعر الأُسرية المُتباعدة المُتنافرة في بيئتِها القَفر اليَباب إلى احتِضانٍ وِجداني حَانٍ مُخلص، واعتناءٍ ذاتي سَامٍ مُشفِق، واحتواءٍ نَفسي عَالٍ مُتبادل صِرف وعِناقٍ رُوحي مُتماثل رَاقٍ مَحض، بَين أفراد الأسرَة الواحِدة؛ لتسعَد بفَيئهن الضافِي أرائك اللقاءات الجَامِعة؛ وتتٱلف بدِفئهن الوافِي صِلات الالتفافات الأسرية الرابِطة؛ لِتَشتد وتَتنامى دَومًا، أواصِر اللّْحمَة الجامِعة، وتَزداد سَماحةً وُثُق الروابِط الأسرية المُتجَذِّرة المُتجَددة، بمُعطياتها الرَصِينة، بَعدئذٍ، مُوصِلة إلى مَحَطات تقارُب مُثلى؛ وقَائدَة إلى مَسارات لقاءات مُكَاشِفَة عَازِمة، بمُناطحَة شواطئ تفاهُم فُضلى؛ ومُتأهبة واعِدة باقتِحام مَخارم وَعِرة مُزاحِمة بأريَحية ذاتية حُسنَى؛ تَزينها وتُجَمِّلها تَغيير مَرن مَلحُوظ في جُمعَة جَلسات التداولات الأُسرية الساخنة الأسمَى؛ ويَكسُوها تَنامٍ مَحمودٍ مَحفوف بتجاذُبات وِديِّة حَميمة بمَقام أعلَى؛ وتُظلِّلُها تَجلِّيات رَحمَانية رَحيمة؛ لتَخبُو وتَتضَاءل، بتصَاغّر وخَسَاسَة، دَوائر الجفاف مُجَددًا؛ لتكشِف وتُنبِئ عن امتِداد أحضَان حَياة سَعيدة هَانئة؛ وتَتقزم بتَحَاقُر، في سُوح العلاقات الأسرية المُتعافية توًا، بزَهو رَبيع انطِلاقاتها المُثلَى، خُطوط الصدُود سَاعة؛ وتَتوارى خلف رِدهات الانزِواء غَفلة الإهمال رَدَحًا، في أكنَاف وسَواعد المشاعر المُستيقِظة الجَذلَى… ومِن الجانِب المَشرِق الأَغَر لعَودة هَدأََة الأجوَاء الأسرية المَتكاتفة، تنتشِي طَربًا - بانتِشار ألوانها الساطعَة البَراقة المُتمازجة - برَقيق بَسمات الأَمل الواعِدة؛ وتُبرِق بناعم نَظرات المَودة الصاعِدة، اشتياقًا وتَطلعًا، في عَنان أجواء رَونق المَظاهر البهية الوَضاءة، كَما كَانت رِباطًا ضَابطًا، يَشد مِن أَزر وبَأس أفراد الأُسرة المتحابين - بوثَاق الأسرة 'المُقَدَّس' - جَميعهم، قلبًا وقالبًا، ويُعيدُ لرُفقَة أُلفَتِها المُتَحابة بُزوغ ألَق الصَفاء؛ ويُضِيء لصِهَاء طَلَّة مُحياهَا البهِي - في أحضانها الساخنة - لَمعان شُعاع النَضارة، مُتصِدرُا في أفُق العَلاقة الزوجية الحَميمة، ومُتزَمِّلًا في جَنَبات وِطَائها المَكنُون، بجَوف هَالات إطارها الأَنيق المَألوف، خَاصة؛ ليَعُمَ بَريق زَهو النقاء المَنظُور المَولُود، وتعُودَ إِطلالَة خُيلاء التقارب المَحمُود، أكثر نَقاء، وأسمى بَقاء؛ وتُذَكَّى، بارتياح مَشمول، واشتياق مَوعُود، وَمضَات المَشاعر الأسرية الحُبلَى، وتَندى حَفَدَة الأحَاسِيس المُترابطة الفُضلَى؛ لتغادِر، بحُرية مُيسَّرة؛ وتَدلِف بأريَحية مُدبَّرَة، مِن مَخدَع بَياتِها الشتوي المَكنُون… وعلى خَشبة مَسرَح 'الفَصل والوَصل' تَعُود أصَابع الاتهَام مُتهدِدَة؛ وتنتهِي صَرخات التجرِيم مُتوعِدَة بموجَة استِياء سَامِدة مُوجهة، بحَزم وعَزم، إلى مَا يَسرُق صَهوة لَذة العلاقة الأسَرية المُشتركة عُنوَةً؛ ويَئد جَوهِر حُسنِها المُتأنق غَلبَةْ؛ ويَطمر بَديع جَمالها الأخاذ قَسرًا؛ ويُوهِي مَتانة تكاتُفِها الجَذاب عَمدًا؛ ويُسَفِّه مُبادَلة الوِصال، بين خُلَّة الأحبَاب اعتباطًا... وفي ثنَايا فُرجَةٍ مُضيئةٍ مِن مَخرَج الباب الخلفي البالي المُتشقِق، تُسلَب سَلاسَة التَواصل الفَعال غِيلةً؛ وتُنتَزع صَلابة رِيحِها المُتماسِكة، تَواطُؤًا واتفاقًا! … ومِن ناصِية رأسِها - المُتمادِية المُسرِفة - يُخَفف، ويُقَنَّن تدَفق إدمَان استِخدام وَسائل التواصل الإلكترونية المُعَشعِشة المُعاصِرة: كالتلفاز والكمبيوتر، وأجهزة التواصل الخَلوية الذكية المُتاحَة، طَوعًا أَو كُرهًا، لدى أفراد الأسرة، كَافة؛ لِكَيلا تُغتَال وتُوأد، مِن تحت أقدامِهم، رُوح النضارة الأسرية العامِرة الظافِرة، بقَضها وقَضيضها، في مُقتبَل رَيعان شَبابها المُتألق الريَّان! … وهُنا يُطرح السؤال الجَاد الحَرِج صِياغَة، والأَصعَب إجَابة، والجَاثم إكراهًا، في غِمد كَبسُولَته المُغلفة: إلى مَتى سَتستمِر غَفلة التبَاعُد والإنحِسار؛ وتشِيخ كَبوة اللغَطِ المِهذَار؛ وتَحِين سَقطة وَهَن الانحِدَار؛ وتذبُل عَثرة الجَفوَة، ويندَحِر والانكسَار، بحَرِّ لهيبها المُستجَار؛ وتَتسَع شُقة القطِيعَة، ويَصدَأ رَأس المِسبار في زِحام رِزم مَجَاس أثير بُرودَة 'صيف' المشاعر؛ وتَتبلد أبجدِيات التَنحي الجَائِر في عُقر حَرَّة مُناخ العَلاقات الأسرية المُتأزمة المُتردية؛ وتَعود نضارة الأمُور حَسَنة الفَعَال، مُنتفضَة مُستيقظة لَائذَة، من جَديد؛ وإلى سَابق عَهدِها عَائدة؛ وإلى رَبيع نهجِها مُنقاذة؛ أم أنَّ زِمَام دَفة تَرابط وتَعاضُد الأسرة الضابِط سَينفلت ثانية برِمَّته، إلى الأبد؛ ويَحتَمي إلى سَقف ٱيِل للسقوط؛ ليَشهد، في عَصر العَولَمة الغادِر الٱسِر، ويُمنَى في صِهَاء مَنابر مَنصات المُداولة المُضلِلَة الٱسِنة؛ ويَبوء بالخُذلان حَتمًا - لا مَحَالة - فوق مَناضِد المُوارَبة الراهنة؛ ويُصاب 'بانفصالٍْ شَبكيٍ'، يَصعب إصلَاحه وتَرميمه لاحقْا، بعد فَوات الأوَان؟

وللجفاف فَائق صَولة، وسَائد جَولة؛ إذ لَم يَقتصر حُضورُه القائم النشِط في علم البيئة، وعلم النفس البشري، والتربية، وعلم الاجتماع؛ ليَنتقل، بلباقة سَلسة؛ ويَرتحِل بلياقة طَلِقة، إلى علم الطب البَشري المُعاصر، بكَفاءة واقتدَار؛ ويَعم جُلَّ التخَصصَات الطبية؛ ويَقتَحِمَ حَواجز أقسامِها التخصُصية الرئيسة؛ فَهناك جَفاف الحلق والفم، والأنف؛ إلى جفاف البشرة؛ إلى جفاف العين؛ وإلى جفاف جِلدة الرأس… وفي الضفة الأخرى المُقابلة الساطِعة، تُشرِق أطياف 'النضارة' المَليحَة بجَمال بَريقها الأخاذ؛ وتَندى أطيافها الحِسَان الصبُوحَة، ببَهاء سِحنَتِها الوَضاءة بمَشي الهُوينا؛ ورَشاقة خُطى الغُلمَان؛ وتُستعرِض وَالهِة 'مُتبرجِة' مُتجمَّلة، برَائع سُطُوع جَمالِها البهِي الفتَّان؛ لتَئد مَظاهر التصَحُّر 'المُترمِضَة'؛ وتُرمَّمَ أواصِر الأسرة المُنهكَة، بَعد تَعافِيها المَرحَلي المَشهُود من 'جَائحة' الجفاف البغِيضة المُستحوذِة!

ومِمَّا يذكر أن 'العَولَمَة' الوافِدة - بحُلوها ومُرها - قد غَزت مُجتمعاتنا العربية المُحافِظة، على حِين غُزَّةّ؛ واخترقَت بمُستجداتها القاهِرة؛ واقتحّمَت، بروتوكُولاتِها الٱسِرة، نُظُم ومَفاهِيم حَياة الأسرة المُحاذِرة، جُملةً وتَفصِيلًا؛ لذا بات لِزامًا الحُضور المَيداني الراشِد للقيادَة الأسرية المُتفهَّمَة الواعِية - إِرشَادًا وتَوجِيهًا - لاحتِواء ودَرء دَفق الاختُراقات الجَذرية النمَطية، في عُمق جَسد الأسرة المُسلمة المُحَافظة… فالواجب شرعًا: التصَدي لمَعاوِلها الهَدَّامة؛ وعدم الانخراط المُهروِل السابِح في شِدة تياراتها المُهلِكة الرامِية إلى مَسخ عَاداتِنا الرصِينة، واستِنساخ تَقاليدِنا الإسلامية الأصِيلة إلى صُورة مَسخٍ هَجين، ونُسخة مُبتذلة لعِينة، لا تُواكب مَسيرة الأسرة المُسلمة المُحافِظة، جُملة وتَفصِيلًا!

ولَعلِّ جَولات الجَفاف، وصَولات النضارة، في ضِفافِهم المُتصارِعة المُتناقِضة، تَتبارى بشَدة وهَياج ناشِطَين في مُبارَزات صَارمة ضَارمة، ومُنافَسَات انتحَارية سِجَالية؛ ليَتصدَّر زَخم تَسارع إحدَاهُن بمَركز رِيَادَة؛ وتَفُوز أقوَاهن بمَحطِ صَدَارَة؛ عِندئذٍ تُصَفِّق لها أيادِي الجَماهِير الحَاشدة الحَاضرةطَوِيلًا، بحَماسة غير مَسبُوقة - رافِعة بعَالي أصواتِها الجَهُورَة؛ وشَامِخة بسُخونة أنفاسِها الوَقُورَة - بَيارِق الهُتافات الحَماسِية المُنتصِرة الحَاسِمة: صَيحة 'نعم'، المُؤيدَة المُناصِرَة لَصَولة نقيضَتها: سِمة 'الجفاف المُتحَوِّرة المُتحضِّرَة'، بسِحر أيقوناتها المَارقة الٱسِرة… أو صَرخة 'لا' النافَذَة القاطِعَة، لصَالح جَولة النضارة البَائسَة المُستنكرَة - في عُقر دَارِها - بذُبُول 'نَكَدِها المَسخ المُستَهجَن'، الذي استَشرَت ونثَرَت 'عَولَمة العَصر' الزاحِفة المُتَنمِّرة سَائر سُمُومِها الزعَاف، وتَغلغلت ولَوَّثَت 'نَمِير الصفاء' الأسري بجُلِّ 'مَزاياها ورَزاياها' الصارِخة السافِرة، وقد أكل عَليها الدَّهر وشَرِب! وصَدَق مَن تَنَبأ وقال: الدهرُ يَومَان، يومٌ إِليك؛ ويومٌ عَليك! … وبالله التوفيق؛ وبعِزَّته مِسك الخِتام؛ وإليه المَرجِع والنشُور، وحُسن المَٱب!