التنوع الإنساني.. من التندر إلى التفهم
ربما رأيت عاملا باكستانيا بزيه التلقيدي، قميص طويل وسروال، وهو ينشغل برفع المكيف ذي الطنين على ظهره، ينحني قليلا ثم يعتدل ليجعل من ظهره رافعة للمعدات الثقيلة، وملابسه رافعة روحية في زحام الركض في هذه الحياة، ورأيت ذلك الشاب القادم من حدود عنك وهو يربط ثوبه إلى خصره ليضرب كرة الطائرة أثناء ممارسته مع الرفاق لهذه الهواية في نهار رمضان، جولة كروية تصيبك بالدهشة لهذا البياض الكثيف الذي يغطي أجساد اللاعبين، حتى ليبدو الثوب عنوان بهجة في فسحة اللعب، وربما سمعت صوتا في اجتماع رسمي به نبرة ولهجة وحتى عبارات تغرس مخالبها عميقا في الدارج قطيفيا، وكأنه يذكرهم بلون البساتين وصدى الماء الجاري فيها، أو ربما وجدت عددا من العمالة الفلبينية يجتمعون في مطعم خاص بالأكلات المشهورة لديهم ليتناولوا أطباقا لا تشتهيها أو لا تخترق مزاجك وأنفاسك معا.
ربما أخذتك الحيرة وأنت تحول دهشتك إلى سؤال، لماذا يصرون على الاختلاف، وعلى جعل أفعالهم نوافذ تشاكل الروح بمثل ما تشاكل المكان الذي يحبون، ربما أخذك الغرور لتبتسم بسمة رمادية، فيها من التهكم بقدر ما فيها من الاستغراب، تنظر إلى المسافة بينك وبينهم ويراودك شعور بأنك أرفع وأرقى وأجمل لا لشيء سوى أنك لا تخيب ظنون الآخرين في مسايرتهم في ملابسهم ومزاجهم وفي التحرر من إيقاع التاريخ والجغرافيا على جسدك وصوتك وكل أفعالك.
تعودنا أن لا نغادر ذواتنا في تقييم الآخرين، فهنالك دائما مارد للتصنيف لا ينام في دواخلنا، يرسم لنا الطريق إلى تقسيم الناس، إلى أدنى وأعلى، نعبر من فوق اختلافاتنا الاجتماعية والثقافية ونترك فوقها شهقة من خوف على أذواقنا، وعلى سلامة مواقفنا، فنحن غالبا ما نقف على مسافة تبجيلية من الذات وتبخيسية من الآخر، أياً كان هذا الآخر، ينتابنا شعور مفرط بالأناقة كاف لطرد الآخرين من حدود القبول الدائم، القبول بهم كما هم، وكما يريدون أن يكونوا عليه.
وحده الوقت سيروض فينا هذه المشاعر ونحن نحاول الخروج من لحظة التندر إلى لحظة التفهم، سندرك بأننا لسنا بالضرورة في القمة والآخرون في القاع من الذوق، ولا الثقافة، وأن هذه الفوارق التي تطلي أجساد الناس وأرواحهم ما هي إلا صدى البيئة التي يعيشون فيها، هي لون من ألوان التكيف معها، هي الدليل على قوة القيم الاجتماعية والثقافية وقدرتها على تحويل الناس إلى سحنة اجتماعية واحدة.. ستدرك أن الكثير من خياراتك الذوقية والثقافية والاجتماعية ليست سوى استجابة لهذه الحصار الذي تفرضه الجغرافيا الاجتماعية عليك، هذه الجغرافيا التي ستهبك إسمك ولونك وباقي الإرشادات التي ستمضي معها في دروب الحياة.
ستدرك أن هذا التنوع هو عنوان جمال، وثراء، وأن الاختلاف ليس دعوة للعزلة، بل هو درس مفتوح للتأمل في تأثير البنى الاجتماعية والثقافية في خياراتنا الجمالية، والفكرية، والتي ستتحول مع الوقت إلى خصوصيات جمالية وثقافية، ننسى جذورها، ولا نتذكر منها إلا قوتها في واقعنا.