تحديثات المعجم وفلسفة اللغة.. معجم دودن الألماني أنموذجًا
المعجم هو كتاب يضم ألفاظ لغة ما، مرتبة على نمط معين، بهدف تعريفها أو شرحها بما يزيل غموضها. وللمعجم عدة وظائف، أهمها: بيان معاني الكلمات وكيفية نطقها وكتابتها، والوظيفة الصرفية والاستعمال. هذه بعض الوظائف اللغوية، لكن المعجم، باحتوائه لكلمات يضعها الناس «أهل اللغة» ويتدولونها في فترات زمنية، يعتبر مستودعًا «تاريخيًّا» لثقافتهم وتطورها زمنيًّا.
إحدى المسلمات في علم اللغة الحديث أن اللغات لا تتجمد بل هي في تطور مستمر. في حين أن قواعد اللغة تتغير أيضًا بمرور الوقت وببطئ، إلا أن مفرداتها «كلماتها» قبل كل شيء تتغير باستمرار مع تطور المجتمع، فليس من المستغرب أن تظهر كلمات جديدة باستمرار في المعاجم بينما تختفي كلمات أخرى بمرور الوقت. بعبارة أخرى، لا تظل المفردات في أية لغة كما هي، عددًا وشكلًا.
يعتبر معجم دودن منذ 7 يوليو 1880م مرجعًا موثوقًا به لجميع الموضوعات المتعلقة باللغة الألمانية. هدفه، كما حدده القائمون عليه: تمثيل التطورات اللغوية الحالية من أجل عكس الحقائق الاجتماعية التي تحدث في ألمانيا بدقة.
في 12 أغسطس 2020، تم نشر العدد الثامن والعشرون من هذا المعجم وظهر إزالة 300 مصطلح يعتبر قديمًا، وتمت إضافة 3000 مصطلح جديد، على سبيل المثال ”hatespeech“ و”lockdown“ و”cisgender“ [2] .
بالإضافة إلى الثناء، فإن انفتاح المعجم على التغييرات اللغوية دائمًا ما يثير النقد أيضًا. في الآونة الأخيرة، تحدثت جمعية اللغة الألمانية «Verein Deutsche Sprache، اختصارًا VDS» ضد ”الأنجليكانية“ «Anglicisms» [3] واللغة المحايدة جنسيًّا «Gender-Free Language» في معجم دودن. استند نقدهم إلى افتراض أن الأشكال الجنسانية والتركيبات المماثلة لم تكن جزءًا من اللغة الألمانية وبالتالي لا ينبغي تضمينها في قواميس اللغة الألمانية.
رأى الفيلسوف البريطاني جون لانجشو أوستن (John Langshaw Austin)، 1911-1961، مغالطة حقيقية في الفلسفة الغربية: على الرغم من أن العديد من مدارس الفكر الفلسفية كانت مهتمة بالقضايا اللغوية منذ العصور القديمة، كان أوستن ينتقد حقيقة أن معظم المدارس درست فقط القدرات الوصفية للغة. مقتديًّا بالفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، 1889-1951، سعى أوستن لتوضيح أن أفعال الكلام هي أفعال نشطة يمكن أن تنبثق عنها تطورات وعواقب عميقة. في كتابه ”كيف تفعل أشياء بالكلمات“ (How to Do Things with Words)، 1967م، طور تصنيفًا لنوعين من الكلام لتوضيح أطروحته، فيها يميز بين ”أفعال الكلام الأدائية“ (performative speech acts) و ”العبارات الخبرية“ (constative utterances)، كعبارات: ”الماء جاف“ أو ”الطفل يلعب في الحديقة“ يمكن تأكيدها أو رفضها. أراد أوستن التأكيد على أن العبارات الأدائية مثل:
أ. ”أَقْبَل هذه المرأة لتكون زوجتي الشرعية“ «تقال خلال حفل زواج».
ب. ”أعطي ساعتي وأورثها لأخي“ «كما تكتب في وصية».
ج. ”أراهنكم بستة بنسات أنها ستمطر غدًا“
هي عبارات معقدة. على عكس الألفاظ المعيارية فإنها لا يمكن أن يحكم عليها أنها صحيحة أو خاطئة. كما أنها في حد ذاتها لا تصف أو تبلغ أو تثبت الحقائق، ولكن يمكن أن يحدد الكلام الأدائي مسار الإجراءات والشروط.
ملاحظات أوستن حول قوة اللغة في خلق السياق كان لها تأثير كبير ليس فقط على فلسفة اللغة، ولكن أيضًا على الخطابات الاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء العالم. كشخص ينتمي إلى كلا المجالين (الاجتماعي والسياسي)، تناولت الفيلسوفة الأمريكية-الأمريكية جوديث بتلر (Judith Butler) العناصر الأساسية لعمل أوستن وشكلت الخطابات المبكرة حول موضوع خطاب الكراهية والتمييز متعدد الجوانب. في دراستها ”الكلام المثير، سياسة الأداء“ (Excitable Speech, A Politics of the Performative) (1997)، ركزت الدكتورة بتلر على العلاقة بين قابلية التاثر اللغوي والمادي. لقد تسائلت عن ما إذا الكلام يمكن أن يكون ضارًا بسبب طبيعته المادية (الحسية) التي لا تحمل فقط القدرة على الاستمرار ولكن أيضًا لتهديد البيئات الاجتماعية. وبهذه الطريقة، أوضحت أنه لا يمكن فهم اللغة على أنها تُستخدم لأغراض التواصل والتفاهم فقط. في الواقع، يمكن أن تتراوح الأقوال اللغوية بين الإهانات البسيطة والتهديدات والأشكال الهيكلية للتمييز والتجاهل والاستبعاد الاجتماعي والدعاية والتحريض. لهذا السبب، يجب النظر إليها من منظور خلق الواقع وليس بطريقة وصفية فقط.
تتطلب الآثار المدمرة التي يمكن أن تحدثها أفعال الكلام فهمًا ديناميكيًا وشاملًا للغة. إنها ليست مسألة انحطاط لغوي، كما يزعم النقاد في كثير من الأحيان، عندما يعكس أقدم وأشهر عمل مرجعي عن اللغة الألمانية الخطابات الاجتماعية من خلال تناول كلمات جديدة ويتجاهل الكلمات القديمة. يعتبر ”معجم دودن“، كأي معجم لغوي، مرآة مهمة للمجتمع، والتي، إذا لا تضم التغييرات اللغوية، فإنها لا تنكر الواقع فحسب، بل تنكر أيضًا القوة المتناقضة للغة، أي التناقضات السوسيولغوية [4] .
إذًا ما هي الكلمات من تلك التي تدور حول قضايا مثل ”تغير المناخ“ و”وباء كورونا“ و”العنصرية“ و”عدم المساواة“ التي ستعكس بشكل أفضل الحالة الاجتماعية «العالمية» من تلك التي تم اختيارها؟
بإضافة كلمات جديدة إلى ذخيرتها، لا تحترم القواميس فقط التغيير الاجتماعي، وعند الاقتضاء الإنجازات الحضارية معها، ولكنها تذكّر أيضًا أجيالًا من المجتمع بالتحديَّات الاجتماعية التاريخية ولفهم الراهنة والاستعداد للقادمة منها.
وفي الختام، إضافة كلمات جديدة إلى أي معجم هي رحلة قصيرة في فلسفة اللغة لا تكشف عن الطبيعة الغامضة للغة فحسب، بل توضح أيضًا الدور المهم الذي تلعبه المعاجم في المجتمع.