مَايكِل شَكَلِس.. مْعَلمٌ أمْ مُبَشِّرٌ؟
نُعَدَُ مِهنة التعليم رِسَالة تربوية خَالصة؛ أهدافها سَامية؛ وغَاياتها شَامخة؛ ومَتاعِبها مَرهَمٍ شَافٍ، يُداوي الجُرُوح السطحِية، ويِمحُو الندبات البادِية؛ إذ سُرعان مَا تَندمِل الجُروح؛ وحَالما تَصفو الأدَمَة مِن أثر الندبة؛ ليعُود لهَا زَهو النضَارة، ويَكتمل حُسن الرَُوَاء إلى سَابق عَهدهما، وجَميل شَكلهما المُميزين… مُضافْا إلى المُعاناة اللحظية لسابق المَواقف الحَرجة، وسالف الحَالات المُتعافية، تندى سَلة المَصاعب، من جَانبها، في مَيدانها التربوي النضِر، تِباعْا، بحُسن الصنيع؛ ويَتنامى سِرُ 'تدجينها' المُنَعَّم بجَزالة الرَِفد المَرفُود، وتُسقى أشواكها الناتئة المُؤلمَة رِيًا، بعَذب الرَّواء المَورُود؛ وتُكَرَّم رِزم الجُهود التربوية الضافية طَواعية، بإكبار مّوفُور؛ وتُبجَّل المساعي التربوية الطمُوح بتَعظيم مَحمُود، بطُول وعَرض، دَوحَة التعليم المُربية، الضاربة بجذُورِها العَريقة أصَالة في عُمق التاريح؛ لتعُود وتسُود مُرُوجها الخضراء البِكر، مُجَددًا، واحاتٍ غَناء مُزهِرة؛ يَقصدها مَن يَطرق أبواب النجاح؛ ويَسعى إليها مَن يَتتبع دُروب الفلاح؛ ويَتهادى مُستبصرًا في ظِلالها الظليلة، واثقًا شامخًا، في طَيات نسائمها العليلة، مَن يَسير وَراء رَايتها الظافرة الخفَّاقة، خَلف مَواكِب مُستقبل عَامر بأندية العلم الواعِدة الساطعة؛ ومُفعم بحُشود الحُلم المُلونة البَراقة؛ مُقارِعة، أحلامه الوردية، لأَودِية الجَهل المُظلمة؛ ومُصارِعة طموحاته الشاطحة، لمُنحَدرات التخَلف السحيقة؛ ومُناهِضة أمنياته الجَمُوح، لمَسَالِك العَجز الوَعِرة؛ ومُقاوِمة إرادته الرافِضة لزوَايا التقوقُع الوَضِيعة!
وأذكرُ عِندما كُنت تلميذًا، في الصف السادس الابتدائي. بمدرسة تاروت الابتدائية «الغالي»، كانت هُناك، في وَسط جَزيرة تاروت الخضراء، مَدرسة مُتوسطة واحِدة؛ يُدَرِّس فيها مُعلمان بريطانيان مَادة اللعة الإنجليزية، «كُولِن مُوس، ومَايكل شَكلِس» وتَحوي المدرسة ذاتها، وَقتئذٍ ثلاثة فُصول دِراسية؛ وقد قلَّ نِصاب الحصص المُخصصة بجدول المعلم الأسبوعي؛ وانتُدِبا مُعلما اللغة الٱنجليزية مَعًا؛ ليُكملا حِصصهما جُزئيًا إلى مدرسة الغالي، ليُدَرِّسَا الصفوف: الخامس والسادس، بواقِع حِصتين أسبوعيًا؛ حَيث حَظِي صَفي، السادس، بدُروس أولية حَماسية مِن المعلم القَدير، والفارس النِّحرِير، 'مايكل شكلس' بسيرتة التربوية الفائقة الرائدة، التي تُعرَفُ 'شفافيةً' بالمثابَرة والإخلاص؛ وتُوصَفُ 'استحقاقًا' بحُب المهنة حُبًا جَمًا؛ وتنضح مَساعِيه الدؤوبة، على قَدم وسَاق، بحَماسة تَهد الحَواجز، وعَزيمة تُمهد الطريق أمام أداء تربوي ناجِع ناجِح، لم أسمع وأرَ له مَثيلًا في حَياتي الدراسية، والعملية المَيدانية؛ يهدف في منهجه، بحقٍ وتَطلعٍ، إلى إعداد عُقول نَاشئة واعِدة، مُغعمة بالفهم الفَطِن؛ ومُبادِرة بالاستيعاب الوَاعي؛ ومَائِلة إلى الإتقان المَشهود؛ ومُواكِبة بإمضَاء سَاعات دراسية زاخِرة بفيض المْتعة؛ وعَامِرة بأوقات التعلُّم النشط؛ ومُزدانَة بالشفافية والمَرح المَاتع، قلبًا وقالبًا.
ومِمَّا يتَميز به المعلم المُحتَفى به، في سُطور هذه الخَاطرة المَاطرة، أنه لا يَرتاح له بَال هَائج؛ ولا يَهدأ له عِرق نَابض، حَتى يَسمع ويرى أصَالة، جَمع طُلابه - مَن حوله - يُشاطرونه التحدث باللغة الإنجليزية، ويُخاطبهم بها، وكأنها لُغة أمٍ عَالمية مُسيطرة… وكأن المعلم الأريب عَينَه، وسَائرَ وطلابه النبَهاء، لا يَعرفون طَريقًا سَالكًا؛ ولا يُدركون مَسلكًا نافذًا إلى التحدث بغيرِها، بِمعية مُعلمهم الفذ، الذي لا يَسمح بتاتًا، بالتحدث بكلمة واحدة بالعربية أثناء حِصتة الدراسية المُمتِعة. عَلاوة على ذلك الثبات المُعلن، والقاعدة المتعارفة، يطفو على السطح المنهج الأدائي المُمنهج للمعلم، وسَفَط أساليبه السالكة المُبرمجة… تراه كثيرًا ما يُزاوج في سَير أساليب دَرسِه الشائقة، ويُمازجها، بين الفَينة والأُخرى، بعَرض الأدوات الحِسية المُرادفة، في جَوف زَنبيل كان يَحمله على كَتفه أثناء دُخوله الصف؛ لتقديم الكلمات الجَديدة، لأوَّل مَرة، بطرائق مُشوقة مُحببة. ومِن جَانب ٱخَر أغَر، يقوم بتمثِيل مُجتهد حَي مُتقن للكلمات ذات المَعاني الوجدانية مِثل: الحْب، والسعادة، والخَوف والحُزن، بقَفزات وحَركات دُعَابية فُكاهِية مُضحِكة؛ تجلب المزيد مِن المُتعة والمَرح إلى غرفة الدرس. إضافة إلى 'لفيف' تلك العُروض والفُنون التربوية الشائقة، يلتزم المعلم المُجتهد ذاته، بتوزبع قَوائم ونَشرات وَرقية بالكلمات الجديدة للدرس - في بداية الحصة - مُذيلة بتوضيح مَعَانيها، بلغة مُبسطة، وشرح مُعجمي سَهل، ومُزودة بمثالين، ذي الاستخدام الشائع، لكل كلمة جديدة؛ بعدَها يُطلب إلى الطلاب، بشكل إفرادي، بتركيب الكلمة الجديدة المُقدَّمة؛ واستخدامها في جُملة مُفيدة، من صِياغَتهم الإنشائية، بمفرداتهم اللغوية المَخزونة، ومَكنون استجاباتهم الراجعة؛ ثم يُطلب مِنهم الاحتفاظ بأصل قائمة الكلمات الوَرقية في مَلف الكلمات؛ ومِثل ذلك، هناك ملف خاص مُمَاثل بنشرات القواعد، عند كل طالب؛ للاطلاع عَليها، ومُذاكرتها، لاحقًا.
والجَدير بالذكر، أن المعلم لا يُفَوَّت جُزءًا يَسيرًا من الدرس إلاَّ وقد استغله استغلالًا حَسَنْا في تقديم قِصة حَركية قصيرة، أو تلحين أُنشودة صَفية حَماسية، يُقدمهما بأداء حَيوي حَركي، وإيقاع مُشوق مُثير، يَستدعي ويَستثير نَفرة المُشاركة الوجدانية الجَماعية، للصف بأكمله.
إضافة لما يقوم به المعلم المُبدع من الاضطلاع النشط بطيف الأنشطة الصفية المُتنوعة، يَهتم ويُعنَى جَاهدًا - خارج غْرفة الصف - بعَدد وَافر مِن الأنشطة، في الوقت نفسه: اللاصفية، ومِثلها اللامنهجية؛ ومِنها على سَبيل المثال: حُضوره المَسائي بدراجته المُتواضعة - قبل الجَميع - إلى مَبنى المدرسة؛ ليُعطي دُروسًا خُصوصية تثقيفية مَجانية، مُصطحِبًا مَعه الوسَائل الحائطية، وقد أعدَّها بنفسه. عَلاوة على ذلك، استقباله لطلابه في بيته المُستأجر الأنيق، أثناء الفترة المَسائية أيضًا؛ وتراه قد ائتزر 'بمَريلة' المطبخ، بتواضع جَم؛ وأعدَّ لهم المشروبات الساخنة؛ وشَرَعَ في تعليمهم قَواعد لُعبة لُغوية؛ والفائز مِنهم يَنال جَائزة نَقدية فَورية، وإشادة لفظية عَطِرة. يُضاف إلى ذلك العطاء المُشجع، حِرصه الدائب، وتقييمه الدائم على أن يقرأ طُلابه كُتيبات مُبسطة، وقَصص هَادفة، تناسِب مُستواهم التحصِيلي، طَوال العام الدراسي؛ وقد أعدَّ لتحقيق ذلك الهدف المأمُول مَكتبة خَاصة به، يَمنح الطالب كُتيبًا أو قِصة مُؤرخة توًا، قبل تَسَلمه إياهَا؛ وقد دَوَّن اسمه خَلف
جِلدة الغلاف، وتاريخ إعادتها؛ ليُعيدها الطالب في مَوعِد تسليمها المُحدد؛ ليُعطيها المعلم لاحِقًا، إلى طالب ٱخر، وهكذا، دَواليك… وعلى هذا المِنوال الفريد المُتجدد يَستمر الطالب في قراءة عَدد مِن الكتيبات والقصص الإثرائية المفيدة الجَاذبة، طوال العام الدراسي! وأختم، بإنصاف ونزاهة، سرد بعض مِن طَيف الأنشطة البنائية المُتعددة للمعلم القدير، بإعداد فريق من الطلاب البارزبن للمشاركة الفاعلة في المُسابقات المَنهجِية الثقافية المَسائية، على مُستوى مَدارس المنطقة الشرقية، في لِقاءات مُنظمة؛ وغالبًا ما يُحقق فَريق مدرسة تاروت المتوسطة المنافِس تقدمًا كَاسِحًا، وفوزًا حَاسِمًا، تشرئب له الأعناق، وتغبطه الأحدَاق، بفائق تَقدِير؛ ويُبجل رَيعه الحاضرون بعظيم تَدبِير!
وهَذا الإنجَاز المُتحقق هُو عَين العقل الواعي، ومَنهج مُجزٍ ضافٍ يُشكر عليه رَائده ورَاعيه، أصالة وتَمكينْا، بإسداء مُنعم وافٍ، من لدُن مُعلم وَفِي مُخلص، قَد سَبق أوان عَصره، سِيرة ومَسِيرة؛ وكَسَاها كَرمًا، وإحسانًا، وسَخاءً؛ وقام رغبة وطَوعُا، بمَهام رِسالته التربوية المَحمودة، على أكمل وَجه، وكأنه مُبَشِّر مُتيقظ في عُقر مَيدانه، و'كَارِز' مُتَنَبِّه في وسط مَعبدة، يَسعيان مُجتهدين دائبين، وراء نيل وتحقيق أهدف مَصيرية نشِطة مُنتظرة، ويتَّبِعان مَهام رسالة 'روحانية' مُؤيدة مُسددة، نصب أعينهِما. وبكامِل سَلة جُل تلك الجُهود الصافية الضافية يَسعى المعلم المُحتفى به شرفًا - في مَقام الصف التكريمي الأول - لتغييرِه وتطوّيرِه، وتنويرِه، وَاقع عُقول وأذهان طُلابه الراهنة؛ وُصُولًا بهم إلى حَال تربوي مَشهُود، ويُصَيَّرَهم مُياسِر مُكرمِين إلى مَحطات إتقان مَرموقة، ذات مَكاسِب مَحمودة، بما يُعَلَّمه ويُسديه. ومِن عَدسَة مِنظار أكثرَ دِقة، وأخرى أكبرَ جَودة، يُحقق مَا يُخطط له المعلم المُثابر، في مُتسع نَسَق مَنظُومَة أهداف تربوية بَعيدة المَنال، بكفاءة عَالية، وإنتاجِية مَلمُوسة، لا تَعرِف التواني، أو تَركَع للكَسل… فما أجلَّ الأهداف السامية النبيلة! ومَا أَعظمَ شَخص المعلم الهادف الساعي إلى تَحقيقها - بقَضها وقَضيضها - بكَفاءة ضافية، وبَراعة عَالية، جُملة وتَفصِيلًا، حَية مُعاشَة مَلموسَة! … لتَترسخ وتَتوطد رِسالة التعليم المَاجدة الجَليلة، بأصَالتها المَجيدة الحَميدة، أيقونة شَامخة؛ لا يُنكرها لَحظة، مَن أنارت ٱفاق العِلم النافع ربيع صَهوة فِكره؛ ويُهملها سَاعة، مَن مَهدت له ينابيع المعرفة الزُّلال ناتج رَيع صَعيد دَربه؛ وقد زانه أََدَبٌ رَزين في تَعامُله؛ وَجَمَّله تَهذيب ظَاهر في سُلوكِه؛ وبَات حَالمًا مَؤملًا بأن يَحظى أبناؤُه
وأحفادُه البرَرَة، بقِسطٍ وَافرٍ، وكِفل أثيث، مِن مَعين العِلم المُتدَفق؛ ويَستقي وإيََاهم، مُرتوين غَانمين، مِن غَمرة نَهر المَعرفة الفَياض، جِيلًا بعد جيلٍ... ولا أَكادُ أنسى نظم أمير الشعراء في قصيدته الرائعة الغراء:
قُم لِلمُعَلَّم وَفِّهِ التبجِيلا… كادَ المُعلمُ أنْ يَكُون رَسُولَا
أعَلِمتَ أشرَفَ، أو أجَلَّ مِنَ الذَّي… يَبنِي وَيُنشِئ أنفُسًا وَعُقُولَا؟ وبالله التوفِيق؛ ومِنه نَستمِد مَديد العَون؛ ونَستلهِم سَالك دُرُوب الاستقَامَة!