آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:05 م

بين كتابين «1» - نقاشات حول معنى الحياة

أثير السادة *

يبدو أمر ماتعا أن تجمع كتابين نقيضين في لحظة القراءة، أن تترك مرساة عقلك على شواطئ تتلاطم بها أمواج الفكر، فتتأمل وتقارن بين اللغة والأسلوب وآليات الحجاج التي يعتمدها كل كتاب، ولو كان الأثر الوحيد المرجو من كل ذلك توسيع دائرة التفكير لكفى محرضا للدخول في هكذا مغامرة جميلة.

بين يدي كتاب“ما جدوى كل ذلك”لجوليان باجييني الصادر عن دار ترياق2021، وكتاب“ عن معنى الحياة”لويل ديورانت الصادر دار كلمات 2019، كلاهما يمضي لتقديم رؤيته حول معنى الحياة، وكلاهما ينتمي لحقل الفلسفة اختصاصا وانشغالا، غير أن الموقف الفلسفي والأخلاقي من هذا الوجود مختلف بينهما، تماما كما هو أسلوب المقاربة لسؤال الوجود ومعناه، ففي الوقت الذي ينطلق فيه باجييني من التشكيك في الأجوبة والاستنتاجات المقدمة من داخل الدين وخارجه، يبحث ديورانت عن ما يعزز يقين أفكاره في أجوبة يجمعها من وجوه متباينة في مواقفها وخلفياتها، من فيسلوف إلى رجل بالسجن محكوم بالسجن المؤبد.

لماذا نحن هنا؟.. هو السؤال المفتاحي للنقاش في كتاب باجييني، سؤال سيقوده للعودة إلى سؤال الخلق بداية، كيف جئنا هنا، والوقوف عند حدود المذهب الطبيعي الذي سيقرر بأن الكون ماهو إلا“حادثة تافهة لا معنى لها”، وأنها ناشئة عن“قوة عمياء”، وبالتالي ستنتهي إلى طرد فكرة الإله من هذا الوجود، الأمر الذي يذكر الكاتب بأنه كان سببا في إيجاد أزمة معنى لهذا الوجود، وهو ما تلقفه المذهب الوجودي وعبر عنه في فلسفته، ليعيد صياغة جوابه عن سؤال المعنى بالتأكيد على أن الحياة ليست بلا معنى وإنما لا وجود لمعنى مسبق بل نحن من يصوغه كما عند سارتر.

ولأنه ميال لهذا الرأي، يشكك باجييني في قدرة الأديان على تقديم إجابات شافية عن معنى الحياة، ويرى بأن تحديد هدف وجودنا في تحقيق“إرادة الإله”وأنه الغرض من هذه الحياه، أسوأ من الاعتقاد بعدم وجود هدف للحياة، فهو لا يعدو أن يكون مجرد تأكيد على الإيمان بوجود غرض من هذا الوجود وليس بالضرورة دليلا على ماهيته وصفته، أي أنه في الحد الأدنى جواب غير كاف وهو مجرد اعتراف بأننا لا نملك الجواب ونفضل إحالته لقوى خارجة عنا.

كل ما يقدمه الإيمان برأي باجييني هو طرد القلق الذي يحمله سؤال معنى الحياة، فالثقة بوجود إله بالنسبة للمؤمنين يستتبعه القبول والقناعة بوجود“غرض قيم”لهذا الوجود، وبالتالي يصبح أي غرض يقدمه الدين هو غرض جدير وجيد، وهو ما يميل الكاتب إلى وصفه بالإيمان الأعمى، حيث يتجلى الإيمان كنقيض للعقل، ويرى بنحو متهكم بأن الملحد يملك فرصة ثانية في الآخرة، إذا ما صح وجود حياة بعد الموت، حيث ينتظره رب لا يعرف الانتقام، بينما المؤمن هو في مواجهة خسارة الدنيا والآخرة إذا لم يكن للآخرة وجود وحقيقة!.

وهكذا، يبدو الإيمان بوجود الآخرة ليس أكثر من عذر عن البحث عن معنى للحياة كما يقرر الكاتب، وهو يمضي في طرد فكرة الحياة الثانية كجواب عن معنى الحياة الأولى، ويعتقد في المقابل بأن محدودية الحياة هي من يهبنا الشجاعة للاستمرار في العمل والرغبة في الانجاز وليس الحياة الآخرة.

هل يمكن لمساعدة الآخرين، الإيثار، أن يكون معنى مقترحا للحياة، يشكك باجييني في هذه المقولة التي يقدمها البعض كجواب عن الغاية من هذا الوجود، فهي برأيه مجرد خلط للغايات بالوسائل، ولا تعدو في أفضل الأحوال أن تكون إشارة إلى اعتبارنا إياها جزءاً من أي حياة ذات مغزى، وبالمثل تبدو التضحية من أجل البشرية من قبل الأفراد، خالية من الحجج الدامغة على كونها هدفا من أهداف الحياة، على حد قوله، فهي ليست إلا تقديما لهدف جماعي يخرج الفرد منه على غرار النملة الخدوم في مستعمرات النمل.

السعادة هي الأخرى لا تبدو عند الكاتب أمرا واضحا كهدف للحياة، ولا حتى النجاح المطلق، لأن ذلك سيجعل الكثيرين من البشر في حياة بلا معنى، لأن حياتهم لا تعرف النجاح بالنحو الذي يهبهم الرضا، وهكذا يستمر الكاتب في التشكيك في كل الأفكار التي تقدم للإجابة عن هذا السؤال، ويدعونا بشكل صريح تارة وضمني تارة أخرى إلى القبول بأن نقبل هذه الحياة ونعيشها كما ينبغي من دون الحاجة للانشغال بوجود غايات ومقاصد لها، وطالما اقتنعنا بأن الحياة تستحق العيش فذلك يكفي لنهبها معنى!.

في المقابل، ينطلق الكاتب الذي عاصر الحربين العالميتين، ويل ديورانت، وانشغل بكتابة موسوعته الشهيرة“قصة الحضارة”، من نبرة متشائمة من مستقبل الإنسان على هذه الأرض، وهو يقف موقف الناقد من العلوم والفلسفة والتاريخ، لأنها جميعا كانت الشاهد على تقدم كل شيء عدا الإنسان، هذا الكائن المتوحش على حد وصفه، الذي لا يعدو أن يكون جزء من حياة على أنقاض حياة أخرى برأي علماء الأحياء، وكائنا زائلا وقابلا للنسيان بحسب أهل التاريخ، وقبلهم أهل العلوم الذين اختزلوا الحياة إلى مادة، وأزاحوا الإيمان من دائرة السؤال الأخلاقي.

الكتاب جاء في صيغة إجابات عن سؤال أرسله ديورانت لأكثر من مئة من الوجوه البارزة والمؤثرة، حاول من خلاله تمرير إجاباتها في هذا الكتاب أن يستخلص بعض أفكاره عن معنى الحياة، وأن يجادل الرؤى المتباينة التي يحملها المشاركون في الإجابة، وقد قرر في مطلع كتابه بأن“السؤال الأعظم لزماننا”هو“حول قدرة الإنسان على تحمل الحياة بلا إيمان”، وهي المهمة التي يرى بأن العلوم إلى جانب الفلسفة قد قامت بها في حالة من حالات الخراب الكبير.

يقر الكثيرون في هذا الكتاب بأنه“سؤال صعب”، لكنهم يمضون في محاولة الإجابة عنه ولو بنحو غير مباشر، كالتوافق الاجتماعي عند سنكلير لويس، والبعد الديني وتعزيز الحياة الروحية عند جون إرسكين، وتقديم أهمية الكون على أهمية الفرد في رأي جون كيوبر، والعمل في جواب كارل لايملي، والارتقاء الروحي كما في جواب أدولف أوكس، وامتلاك هدف عظيم كما عند لال نهرو، وتجاوز الذات والاتصال بالله في جواب جون هاينز، بينما يتقدم الحب في رؤية جينا لا مبروسو.

واضح طبيعة تأثير سؤال ديورانت وصياغته المتشائمة في أجوبة المشاركين، والتي يتبعها بتبيان موقفه الذي يقدم من خلاله الحب والجمال وتجاوز ذواتنا والاتحاد بذوات أكبر كطريق لاكتشاف معنى الحياة، فلا معنى للحياة برأيه دون ارتباطها“بكل أكبر منها”، لذلك يختم في لهجة إيمانية صريحة بأن الله مصدر الحياة الذي يهب القوة والطاقة، وهو الكمال الذي يجذب الإنسان إليه، وما علينا إلا أن نمشي في دروب الجمال ونتأمل، وأن نستغل الفرص التي تخرج منا طاقة أكبر منا.

القول بعدم وجود معنى للحياة هو ضرب مبالغة، يقول باجيني، ووحده المنتحر الذي يبدي اقتناعا بأن الحياة بلا معنى، يقول ديورانت، أي أن كلا الكاتبين ينطلق من قناعة وجود معنى، ولو اختلف الناس في توصيفه وتعيينه، ولو لم ينشغل الناس في رصده والبحث عنه، وبينما يصر الأول على أن القبول بهذه الحياة دون الانشغال بمعناها، يذهب الثاني للتذكير بقيمة الإجابة عن هذا السؤال في تحديد سلوك البشرية واتجاهاتها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
عبدالباري
[ تاروت ]: 19 / 6 / 2021م - 9:15 م
قوله: ويرى بنحو متهكم بأن الملحد يملك فرصة ثانية في الآخرة…

يخالف ما يقوله علم الكلام عندنا فهم يعكسون القول
2
أثير السادة
20 / 6 / 2021م - 6:58 م
هو هنا يستثمر في أدوات الخطاب الديني، ومفهوم الرحمة الواسع عند المسيحيين والمسلمين على السواء ويقدم حجاجا كلاميا مختلفا