آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

صَوتٌ وَصَدَى

عبد الله أمان

ينتقل الصوث عَادة، في وَسط فيزيائي سَالك، من خلال تردد مَوجات ميكانيكية التذبذب، يتم انتشارها في الوسط المُعاش، عبر وسائل مُرسِلة مُختلفة؛ لتصِل في نهاية المطاف - رِزم الذبذبات المُترددة - من خلال جهاز السمع المُستقبل، إلى خَلايا الدماغ المُستضيفة؛ وهناك تبدأ عملية استقبال وتحليل و'فلترة' مُتخصصة لمَرامي شَفرات الرسالة الصوتية المُرسَلة الخام، وتَسكينها، وتَحويلها إلى رَسائل حَركية، ذات دَلالة ومَعنى؛ لتُرسَل بجُملتها تِباعًا، إلى شَبكة الأعصاب الحِسَّية الناقلة المُعقدة؛ بعد أن تمت لها عَمليتا الفلترة والاختمار اللازمتين، وبعدئذٍ تُنقل بمَجاس شِباك الحواس المختلفة؛ ليتم - بعد عملية 'تحميضها' الراهنة - التفاعل والتداول؛ بُعيدها، وقبل إصدار مَردودها المُتاح، عَبر دائرة دقيقة مْعقدة مِن التداول الذهني النشِط، وإن كانت مُدة الاستجابة تبدو لنا قصيرة جِدًا واستثنائية؛ إلَّا أنها مِيزة فَريدة، وبَادرة عَجيبة، وكَرامة رَبانية، ومِنحة لَازِمة ألمعية، في أصل الخِلقة البشرية؛ فتبارك الله أحسن الخالقين!

وإنَّه مِن المؤكد عِلميًا أن ذبذبات الصوت العالية ترتد تباعًا، بصدًى عاكسٍ عند اصطدامها بأجسام صُلبة، كالأبنية، وسُفوح الجبال، ومَا شَاكلهما، في غُضون بضع ثوان، بالتوافق الفيزيائي مع مَسافة مُحددة من مَنبع الصوت الأصلي الجَهُور… وهنا، لن أحتاج إلى فتح نافذة البحث الفيزيائي المتخصص في 'فيزباء' انتقال الصدى العائد، بطرائق وقوانين وأساليب حِسابية مُقننة؛ ولكني سَأقايض حالة رجوع الصدى الفيزيائي المسموع بدَلالة أدبية افتراضية مَجازية، وبالتحديد: المُخرجات الحسية، و'التغذيات الراجعة'، التي يفرزها الفرد أو الجماعة ذاتيًا، عند تسلمهم لرسالة شفوية، أو كتابية حَساسَة، تنتظر منهم استجابات فَورية، أو بَعدية… تلك الاستجابات المرتدة بأصالتها المنتظرة، سأماثلها وأساويها - دَلالة ومَجازًا - بالصدى الصوتي الراجع المرتد. هذا، وسأورِد، في الوقت نفسه، أقرب مِثالًا مَجازيًا على الصوت القوي الساخن المُرسَل، برفقة صداه الوَليد المُجيب المرتد من مشاهد حَبكة قصة قرٱنية مُوثقة، بسورة النمل المباركة، شخوصها: نبي الله سليمان عليه، وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ وبلقيس، ملكة مملكة سَبأ؛ وثالثهم الهُدهُد: الوَسيط البطل… حيث لعب كل واحد منهم دورين أساسيين أصالة، في مسرح التواصل النشط 'للصوت المرسَل، وصداه المُرتد'. وبالتحديد، عندما بعث نبي الله سليمان برسالته 'الكتابية' الدعَوية إلى قوم سبأ الوثني، فذلك صوت فردي مُرسَل؛ وتجهيز هَدية بلقيس الملكية الفاخِرة، وإرسالها طَواعية من مملكة سبأ، إلى بيت المقدس، فتلك صدًى جماعيًا مُجلجلًا، كَردٍ مُتأدب لَبق، للرسالة النبوية التي تلقتها ٱنِفًا. وكذلك الهدهد، الرسول المُجاهد: لعب بعَنان أثير رحلاته 'المكوكية' الموفقة - بقدرة قادر مُقتدر مُلهِم - دَورين رئيسيين: الصوت وصداه: الإخبار المُوثق عن العبادة الوثنية لقوم سبأ؛ وإلقاء الرسالة النبوية الدعوية في أحضان بلقيس - بعد رحلته الثانية - بذكاء فائق، وألمعية نابغة، ليس لها مَثيلًا، أو صِنوًا في مملكة عالم الطيور، قاطبة!

والجدير بالذكر، أنَّ هناك كمًا، لا يُستهان به، من المُعوقات الغامضة؛ ومِثله صفًا مِن المَصدَّات الضبابية، التي تعترض بامتياز، سَلاسة سُبل 'ميكانيكية' الاندفاع المباشر المعتاد؛ ليَصدُر، على أثرها السقيم صدى الرسالة الصوتية المُرسَلة 'البينشخصية' أو الجَماعية المتداولة، بردُود أفعال مُتشنِّجَة؛ واستجابات هَائجَة مَائجة؛ وأحيانًا يكون وَقعها الناتِح الناتِج أشد ضَراوة، وأبلغ شِدة، مِن مَصدر 'التغذية الراجعة' الفوري المباشر ذاته لدى المُتَلقِي؛ لتتحَول أكداس مَقاصد المُرسِل النبيهة؛ وتُتَرجَم جُل أغراضه 'الاعتيادية' برِمتها، إلى حِمم بُركانية حَارقة؛ تَقذِف مُتلقيها، من كل جانب؛ وتَطاله من كل مَقعد، وتُلاحِقه عند كل مَرصد… وربما يكون الخلل البيِّن عَينه، ناتج عن تباين مَلحوظ في مَقاصد وأغراض، ومُحتوى الرسالة، وبِنيَة نسيج ديباجتها الغابِش، وشريط توقيتها المُشوَّش، ومَدى مِصداقية مُرسلها، وصِدق أمانته، وفهم واستيعاب كامل مُحتوى الرسالة المُتسلمة، من قِبَل المُتلقي… تلك الأمور بأدوارها النشطة - مُجتمعة ومُتٱزرة - تتناقض وتتخالف طَردِيًا، مِن مَنظور الثقافة السائدة؛ وتتباين اتفاقًا واختلافًا، بمُقتضى المقام الراهن؛ وتتماشى مزاجًا واختيارًا، مع مَطلب حَالة الاستعداد الفكري 'الواهن' للمتلقي.

ولا أكادُ أنسى تأثير الرسائل الشفوية الموجَّهة المُواجهة، وتحريكها الريادي القائد، لجُملة مَشاعر وعُواطف المُتلقي، بنوعيها: الفَردية والجَماعية، ومُخرجات مَفعولها السحري المُؤثر سِراعًا في إذكاء وتأجُج أَوامر ونَواهي 'الترغِيب والترهِيب'… وهي الأقرب حَماسة؛ والأمثل نَهجًا في إرسال الرسالة الصوتية من مَصدرها الساخن، وتلقى صداها الراجع المُباشر، مِن مَنظور فيزيائي افتراضي مَلموس؛ بما تحويه ديباجتها البِكر النافذة من نبرات صوتية مُتنافرة، وصَرخات استنكارية مُتظاهرة، وهَمسات وِدية مُتناغمة، واستمالات جَماعية مُحفِّزة، ومشاركات وجدانية حَماسية... وما يُرافق بثها الحَي المُباشر من إشَارات ودَلالات تَواصلية تَصويرية، غير لفطية؛ حيث يُقرأ فَحوَاها المرسُوم؛ ويُصار إلى قُبول مَأتَاها المَشمُول تِباعًا، بمداخل جُملة الحَواس الحاضرة؛ لتندى - تَوطئة وقُبُولا - لها مْعطيات المَخارج الحِسية، بكامل مُستقبلاتها 'الفسيولوجية' الواعية، وتعلو، بأمدادها المُواكب النشِط، مُستويات الرقابة الذاتية؛ وتتأسس بكَيل زخمها الضافي، انتماءات القناعات الجماعية؛ وتتٱزر بمرامبها مُؤشرات الانتباه الطوعي المُركز، بتبارات 'كهربية' مُتناوبة، تعجَّل وتسِّرِّع - مِن شِدة نبض أمداداتها المواكبة الساخنة - في تَحريك وتُأليف وبِناء وِحدة الرأي الجماهِيري المُتنامي، خَلف كَلمة سَواء، وطاعة مُسَيسَة 'مُنقاذة مُنحازة'، كما في جَوهر الخُطب الجماهيرية العَصمَاء الحَماسية، الرامية إلى بناء أواصر الوِحدة الوطنية المَحمودة؛ أو انتهاج فِكر مُوحَّد مْحدد في بناء وتعزيز اللُّحْمَة الوطنية السامية، قلبًا وقالبًا!

هذا، ولا غَرابة في أن تتفجر مَقذوفات الحِمم الحارقة، بطَلاقة مَلحوظة؛ وتتناثر أشلاؤها بصلافة مَوصوفة، بشكل مُباشر مُباغِت؛ من مُنطلق وضَح القاعدة الفيزيائية العريضة: «لكل فعل رد فعل، مُساوٍ له في القوة، ومُعاكسٍ له في الاتجاه» … وأحيانًا تحتبس وتتيبس مَخاليط تلك الأعراض 'النارية' المتفجرة في جَوف مَخزونها الٱمن؛ لتنفجر لُاحقًا، بشدة مَوقوتة، وهَدير مُكثف؛ وتتناثر أجزاؤها المُتهالكة؛ وتذهب ريحها 'شَذرًا مَذرًا'، صَاخِبة بوَقع مُدمِر؛ حِينما تبلغ عملية الاختمار النشطة أشدَّها؛ وعندما تتزاحم وتتداخل حَلقاتها السقط، في حَضيص ضَعفِها، بمُستودع مَكمَنها الٱمن… وهنا لا مَأمَن، ولا مَنجى من طرح وإرسال فرقعات من وابل ناشئ مُتهيِّج مُتجدد، من زَخَم تلك الحِمم المَارقة الحَارقة، والتي لا ينجو بمَفازة مَلحوظة، من شظايا لهيبها المُحدق الحَارق طرفي، أو أطراف الرسالة المكتوبة، أو المنطوقة بأشكالها المعروفة: الشفوية، أو الحركية ”التخريبية المتعمَّدة“، من وُجهة نظر المتلقي الجاهِل بمُقتضاها؛ والغافل عن مَراميها. وأما استواء حال المرسِل اليقظ، فمُهتمٌ وٱبه بأنماط الرسالة التصحيحية الهادفة، من وجهة نظره المُستنيرة العارفة بمقتضاها؛ ومُحيط عِلمه الحاذق بمُحتواها، وإدراك فَهمه الشامل بمُقاصدها الجليلة، جملة وتفصيلًا!

وعلى ضوء تلك المُعطيات المُتباينة؛ ووُضُوح تواتر الدَلالات الحاضرة؛ ووُرود مَشاهد الملاحظات المتأنية، أسدت وأفرزت أحداث الحُقب السالفة فيضًا قَصصيًا زاخرًا من المُفارقات المُتطرفة، والإشكاليات المُتناقضة، بين أوساط الأطراف المتواصلة ٱنذاك، في مُجتمعات مُتحضرة شَتى، ببقاع مُحددة، لأقوام سَادت، ثم بَادت؛ بنُصوص قصصية قرٱنية شريفة... وأقرب مِثال شَاهد حَي لها، ما عَاناه وكَابده أنبياء الله المرسلين - عبر دوامة التاريخ البشري الموثق - عليهم، أفصل الصلاة، وأتم التسليم، من تجَشُّمِهم وتحَمُّلِهم مَهام تبليغ رسائلهم الإلهية، إلى جُموع أقوامهم، المُغالين في عبادة وتقديس الأوثان والأصنام؛ والمُبالغين في تلويث وتدنيس صَفو النفس البشرية المُحترمة المُكرمة؛ وإتيان صُنوف المَفاسد المارقة؛ وارتكاب المُحرمات الشرعية الشاطِحة، في عُقر نواديهم المُنكَرة، وداخل أسوار قُراهم المُحَصَّنة؛ واتِّباعهم السُنن الباطلة، قلبًا وقالبًا، لمَن كان مِن قبلهم، حَذو القُذَة بالقذة؛ و'تكلس' وعِماية عُقولهم الضالة المُضِلة، عن تلبية رسائل التوحيد الإلهي وتصديقها؛ واحتضان دعوات الإيمان بالله الواحد الأحد وتطبيقها؛ وانغلاق أسماعهم الطرشاء، عن سَماع نداءات شِرعَة الحق واتباعها؛ وزيغ أبصارهم الحائرة، عن رؤية الحقيقة الدامغة وقُبولها؛ وانصياع عقولهم المُتبلدة والمُتشتتة عن إتيان ٱفاق التدبر في أنوار الهداية الإلهية السمحة والتزامها؛ وعُزوفها المُعاند المكابر عن التفكر في سُبل الإيمان الهادية المهدية واستحسانها؛ وعدم تمسكها المُسدد بتعاليم المنهج الرباني المؤيد، بطاعة الرحمن؛ ونبذ سَقط مَكائد الشيطان… فكان مَصيرهم الحَتمِي: الهلاك، والدمار، والنفي من الأرض، وسائر الديار... وهنا تسود شِدة ضَبابية النفس البشرية التعيسة؛ وتكشِّر، بجَهالة وحَماقة، عن حِدة أنيابها الغادرة؛ وتزيح النقاب قسرًا، عن زيف رَينها الفاسد، بكل ما يُدمر مُعطيات السعادة الدنيوية؛ ويُعِدَّ العُدَّة بما يَئد مِن 'بَذاءة ورَداءة'؛ لتعكير أنقَى صَفو مُكتسبات الحياة الهانئة؛ ويُلبِّي بسَفَاهة أحقَر مَلذات وشهوات الدنيا الفانية؛ ويَكفل 'النصر والظفر' الفائزين بأسمَى جنات النعيم الخالدَة المُخلدَة في عَرْصَات فِردوس الٱخرة الباقية، في كَنف حَضرة مَليك مُقتدر!

وهناك تسمو النفوسُ الٱمِنة المُطمئنة عَظمة وإجلالًا؛ وتُكَافَأ رُيُوع هِمم مَساعيها الإيمانية الصادقة تصديقًا ورِفعة؛ وتندى مَكاسِبها التقية النقية هِبة وعَطاءً، بما لذ وطاب؛ وتبتهِج بالوصول المستجاب إلى غاية المأوى؛ وتأنس بمُننهى نيل المٱب، من مُعطيات الحياة الأبدية الدائمة؛ وقد فاز 'فوزًا عظيمًا' بنعيم حَظها الوافر من إتقى، وٱثر الحياة الدنيا، ونال مَقعده المُستحق المُستقر، مُتكِئًا على مِنبر من نور، في جَنة المأوى... فلا خَوف عَليهم، ولا هُم يََحزنون. «وَمَا هَذِه الحَيَاةُ الدُنيَا إِلا لَهوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدَّارَ الٱخِرَةَ لَهيَ الحَيَوانَ لَو كَانوا يَعلَمُونَ».

فكم مِن صوت إيماني نقي رَائق، نَادى وسَاد في رُبُوع الأوساط الغابرة؛ فنال صَدًى مُجيبًا مُجَلجِلًا فائقًا. وفي جانب ٱخر من مُحيط دائرة المناداة المُستصرخَة بسُكانها 'الكفرة الفجرة'، والمقفلة بإحكام مَختوم؛ وقد أُغلِقت سَائر مَنافذه المُشددة، بأغشية سَميكة؛ وأُُحِيط هَيكل سُورِه الصلد بجدران 'خرسانية إسمنتية' قوية، لايَنفذ إليها الصوت 'المُنقذ' الرؤوف؛ ولا يَرتد إلى وسط مُحيطها الحارق المتلظي صَدى هَمسٍ مُسعِف عَطوف، لديدن ٱذٱن بها بالغ وَقر، وخَائنة أعين عليها غُلف غِشاوة؛ وبطشِ أيدٍ مَغلولة إلى أحبال أورِدة الأعناق؛ ورَين قلوب مُتحجرة قاسية، مَُغلّقَة بأعتَى الأقفال؛ تنتظر زحزحتها المُنجية من تأجج نار حَامِية مُنتظرة، والعياذ بالله!

ومِثل ذلك النداء الصوتي المُقترن المُنادي للإيمان تَحَنُنًا؛ والمُرغِّب في طاعة الرحمن تَوَدُدًا؛ والٱمر بعبادة الرب الديَّان تَحَبُبًا؛ والناهي عن عبادة عُموم الأوثان تَلَطُفًا؛ ينطلق صوت زَاعق نَاعق، لا مُوجِّه له ولا سَائق؛ يتهادى في مُتسَع مُريب خَانق؛ ليعم أرجاء الموطِن المُتأزم الضائق؛ وقد عَلَت وضَجَّت أصوات الحَناجر الحاضرة، حول مَراقي المَنابِر الثائرة؛ وقد لَبَّت، بسَفاهة مَاطرة، نداء نَبرات صوته الصارم الناعق، ومن خلفه، شدَّت، من عَضُدِ أزره الراهن الواهن، بأصداء هَامدة نَائمة؛ وقد فاقت مَن شديد سُباتها توًا؛ لتُناصِر زَعقة الباطل المُنهمِر سَاعة؛ وتُوٱزر صَيحة الكذاب الأَشِر رَدَحًا… ويا لهما من صَوتين مُتفردين مُتنافرين: صوت مُنجٍ فائق، وصوت مُهلِك خانق، أولهما يَرفع الذَّكر الحَسَن، ويَسمو بالأثر الصالح مَمدَحَة ومَفخَرَة؛ وصوت ٱخر مُرتد مُعتد بصدًى مِكثَار مِهذَار، لا يَدَّخِر لزاعِقه نصرًا ساحقًا مُؤيدًا؛ ولا يَروي لناعِقه يَبَس شَوك الشجر المؤلم، ولو بَعد حِين!