آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

رحلة الآلم المزمن في عالم الدماغ

هبة الحبيب *

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:

دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ

وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ

أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير

وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ

الدماغ هو منظومة متكاملة معقدة التركيب لازال العلم يقف حائراً لفهم جميع خصائصه وآلية عمله، وخبايا ذاكرة الآلم، وقد تكون بعض خبرات الآلم الجسدية والعاطفية المخزنة في ذاكرة الآلم وطريقة التفكير فيها هي سبب للآلام المزمنة التي يعاني منها البعض.

فقد وُجد بأن التعرض للإضطرابات النفسية والضغوطات والتوتر بشكل مستمر يساهم في حدوث بعض المشاكل الهيكلية والأمراض المناعية والعصبية في الجسم لما لها من تأثير على تحفيز مناطق الألم في الدماغ بشكل مستمر وتسبب إضطراب في إفراز الهرمونات والمواد الكيميائية خلال الناقلات العصبية في الجسم وقد تُغير في هيكلية مناطق الألم الحسية في الدماغ.

وبالتالي فمن الممكن لهذه التغيرات التي تحدث وتساهم في تغيير فيسيولوجية الآلم وزيادة حساسيته بأن تورث للأبناء جينياً ليعانوا بذلك من نفس المشاكل الهيكلية، العصبية أو المناعية لدى الأهل التي سبب نشوؤها في الأصل بعض الاضطرابات النفسية والوجدانية.

حيثُ أُكتشف بأن هناك خلايا عصبية في الدماغ تتأثر فقط بالبرمجة الذاتية من الشخص فعلى سبيل المثال عند توقع الأسوء والقلق من المرض تزداد حساسيتها طرداً وعند توقع التحسن والتعافي تقل استثارتها عكساً وهي من الصفات القابلة للتوريث جينياً.

حيثُ من الخواص الدفاعية لهذه الخلايا مقدرتها على تصور جو من القلق قبل حدوث أي موقف معين عند برمجتها للأسوء فتلعب في العوامل البيولوجية للجسم فترفع من نبضات القلب، تزيد التعرق، تسبب ضيق في النفس استعداداً للمواجهة، وبناءً على ذلك فإن الدماغ ليس فقط يُرسل ويستقبل رسائل التنبيه بالآلم بل لديه القدرة على تعديل سلوكيات، خصائص ومساحة الآلم عن طريق البرمجة الذاتية لهذه الخلايا.

ولهذا فلابد من التعامل مع الضغوطات النفسية وعدم إهمالها ومراكمتها لما لها من الأثار السلبية على المستوى القريب والبعيد للأجيال القادمة.

كما لوحظ بأن بعض مناطق الآلم في الدماغ كالماتريكس والثالامس والإنسولا المعروفة ب «Pain neuro matrix area» بأنها مناطق مختصة بالآلام الجسدي والنفسي معاً. فمنطقة الإنسولا لها دور في الإدراك الحسي والعاطفي للآلم, ومنطقة الكورتكس تمثل الجانب العاطفي للآلم من تعزيز محفزات الآلم وتمييز مناطق الآلم والذاكره والعاطفة.

وقد لوحظ بأن الأشخاص الذين يعانون من آلام مزمنه مع ضغوطات نفسية قد تتغير لديهم خارطة الآلم في الدماغ، فمنطقة الكورتكس يبدأ يتغير حجمها وتكون السيالات العصبية فيها بحالة مفرطه من النشاط بينما منطقة الثالامس يصغر حجمها وتستمر مفتوحة ونشطة وتقل فيها الناقلات العصبية المسؤولة عن تقليل حساسية الألم للعودة لمنطقة الراحة والتوازن.

ونتيجة لذلك قد يساهم هذا التغيير في التقليل من كفاءة نشاط المناطق الأخرى وقدرتها على أداء المهام بشكل عام في الدماغ وبذلك تتولد مشاعر الآلم والقلق لدى المريض لأن مناطق الدماغ المسؤوله عن تنظيم احساس الآلم قد فقدت خصائصها المعتادة. ولهذا يُفضل أصحاب الآلم المزمن العزله وتجنب بعض النشاطات اليومية والعلاقات الإجتماعية.

وإن الدماغ لا يُفرق بين سبب الآلم أهو مشاعر عاطفية أو مشاعر حسية جسدية فهو يتعامل مع كل أنواع الآلم على إنها مصدر خطر وعلى الجسم حماية نفسه منها فيبدأ الدماغ بتعزيز نشاط الإشارات الحسية للإعلان عن وجود خطر محدق بالجسم فينتج عن ذلك شعور الآلم وهو بمثابة التنبيه.

ومن هذا المعطى فقد توصل بعض العلماء إلى أن هناك علاقة طردية وثيقة بين الآلم الجسدي خصوصاً المزمن منه والآلم العاطفي بسبب تشارك كلاهما في المنطقة المسؤوله عن الآلم في الدماغ وبالتالي فعند وجود مشاكل عاطفية وضغوطات نفسية يزيد الإحساس بالآلم المزمن في الجسم تباعاً ويتحول حينها الآلم المزمن نحو الجانب العاطفي من الآلم والذي بدوره يلعب دوراً هاماً في انتاج الآلم فهو يساهم في استمرار مستويات الآلم العالية أيضاً.

وبالتالي لايمكن الفصل بين خبرات الآلم الجسدية الإدراكية والنفسية العاطفية السابقة في الدماغ حيثُ أن خبرات الآلم الإدراكية تغير في شدة الآلم بينما الخبرات العاطفية المؤلمة تُغير في مزاج الآلم بدلاً من شدته.

وأظهرت الأبحاث بأن هناك نشاط واسع النطاق في مناطق الدماغ المسؤوله عن إدراك الآلم الجسدي والعاطفي وإنتاجه وهذا قد يفسر الطبيعة الغريبة لإنتشار الآلم المزمن على مدى أوسع في الجسم.

كما إن الدماغ في حالة عمليات حيوية كيميائية مستمره لإفراز الهرمونات حتى أثناء النوم، حيثُ في حالة الآلم والقلق يبدأ الجسم بتحفيز النظام السيمبثاوي المسؤول عن إفراز هرمون الكورتيزول لمقاومة التوتر والإكتئاب والذي بدوره يحفز الإلتهابات ويرفع الجلوكوز في الدم ويُضعف مناعة الجسم لمقاومة الآلم عند إفرازه بشكل مستمر وجعل النظام السيمبثاوي يعمل طول الوقت، كما يُفرز هرمون الأدرنالين وهو هرمون الخوف المعروف بالكر والفر والذي زيادته تؤدي إلى ترسبه في الخلايا العضلية وقد يسبب آلام العضلات المزمنة.

وبهذا قد تكون أحياناً استمرار آلامنا وتعزيزها ماهي إلا نتيجة مانفكر به لأن تفكيرك هو مرآتك التي تعكس مابداخلك وقد قِيل قديماً: «كلُ متوقعٍ آت».

أخصائي أول عظام في العلاج الفيزيائي