آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

بين الانفتاح والانفلات

جهاد هاشم الهاشم

يمتاز أي مجتمع بمجموعة من العادات والتقاليد وتلك هي التي تحدد هويته، وتعطيه تلك الصبغة الخاصة التي يصطبغ بها، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز أو تجاهل تلك الأمور التي توجه الأفراد في العديد من أنماط الحياة المعاشة لهذا المجتمع.

لذلك بات الانفتاح المعلوماتي والاحتكاك البشري بالثقافات الأخرى من خلال عدة طرق كالسفر والإعلام المفتوح وسرعة الحصول على المعلومات والسوشيال ميديا وأبوابها المشرعة على مصراعيها والمفتوحة للجميع وضعت قيمنا وثوابتنا على المحك. وهنا نحن مخيرون بين أمرين. إما الاندماج مع الآخر والتخلي عن الهوية في كثير من القيم والسلوكيات أو المحافظة والتمسك بهويتنا المستمدة من شريعتنا الإسلامية السمحاء.

أما عن مانعيشه اليوم نلاحظ أن هناك تراجعا سلبيا في عدة مسارات حتى وصل بنا الحال كما جاء في الحديث الشريف عن رسولنا الأكرم محمد ﷺ: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر».

لذا أصبحنا نعيش وقائع جديدة في جوهرها وابتعدنا عن القيم والثوابت وبالتالي اندمجنا في ثقافات وأخلاقيات لاتمت لطبيعتنا وعاداتنا وتقاليدنا وموروثاتنا التي ورثناها من الآباء والأجداد بصلة والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها للتوضيح لا للحصر: ما نراه اليوم بأم أعيننا من مظاهر مخلة بالذوق العام وخصوصا في أماكن واضحة للعيان من سلوكيات منافية للياقة والأدب وعدم الاحتشام في الملبس والمظهر العام من ذكور وإناث، وتبني أفكار ما أنزل الله بها من سلطان كالتقليد المظلم مثل: قصات الشعر، ووضع الوشم على الأيدي وأمور أخرى يستطيع القارئ العزيز استنتاجها فيما نرمي إليه اضافة للانجرار نحو هاوية لايعلمها إلا الخالق جل في علاه والسؤال الذي يفرض نفسه: هل مطلوب منا الانسلاخ من هويتنا والانخراط في التطور الحضاري العالمي ولو كان ذلك على حساب ضياع الكثير من الأسس والثوابت التي قامت عليها مجتمعاتنا؟

إن الانفتاح على الشعوب الأخرى ليس محرما لاشك ولكن هدفه الاستفادة منها بما يتفق والمنطق مع التغيير للأفضل وكذلك المحافظة على القيم والأخلاق والحرص على أن تكون علاقتنا مع الآخرعلاقة تبادلية مبنية على الأخذ والعطاء والاحترام وليس الأخذ منهم فقط، وإنما يجب أن نعطي ونبرز شخصيتنا وإمكانياتنا بعزم ويقين راسخ حيث أن لدينا قيما ومبادئ سامية لا توجد في حضارات أخرى مع أهمية إظهار الانضباط السلوكي.

وساهم الانفتاح على الآخر في ترسيخ العديد من القيم الإنسانية كالتعايش والتسامح وقبول الآخر، إلا أن سلوكيات البعض - وليس الجميع بطبيعة الحال - ممن هم دعاة الإنسلاخ ومحاربي الأعراف الأخلاقية؛ شوهوا هذا المفهوم ومن ثم حل واقع «الانفلات» محل كلمة الانفتاح ذلك واقع فرضته الثورة الرقمية التي انصهرنا داخلها لاشعوريا فأصبحت هي السيد ونحن التابع، وهذا خطأ مع الأسف الشديد، وتناسينا أننا من نسل حضارة أضاءت للعالم سنوات مديدة بانفتاحها واستيعابها الثقافات الأخرى فأسهمت في البناء المعرفي لبني البشر فكانت هي المحرك ولم تكن يوما تابعا فأفادت واستفادت وكانت عامل بناء قام عليها العالم بأكمله فلا عجب أن يشعر الآخرون بالامتنان لهذه الحضارة والتراث الاسلامي العظيم، إلا أن البعض في وقتنا الحاضر - وهم قلة قليلة لاشك - سولت لهم أنفسهم بل تجرؤ بعتبارها لا تتماشى مع التطور التكنولوجي الجديد بل بات البعض يعتبرها حجر عثرة أمام تطورهم وانفتاحهم وحان الوقت للتخلي عنها وهدمها بشكل تام.

وهؤلاء يجب تذكيرهم أن الله تعال بعث الله رسوله محمّداً ﷺ خاتماً للنبيين وجعل رسالته عالمية باقية حتى قيام الساعة. وأتم الله نعمته فأنزل القرآن الكريم؛ ليكون روح هذا الدّين ولسانه الناطق. وكان من الضروري أن يكون هذا الكتاب المقدس ثريا بالخصائص الاعجازية التي تجعله جديرا بالبقاء والخلود ومؤهلا لخطاب البشر كافة على اختلاف أجناسهم.

أنه كتاب صالح لكل زمان ومكان قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. «الأعراف الآية 158».

ولكن ما نعيشه اليوم من غياب المثقفين والمفكرين والتربويين والدعاة الواعين عن الساحة المعرفية بجميع ميادينها؛ ولد فجوة وغياب التواصل بينهم والأجيال الجديدة ما أفقدنا التوازن الذي تحتاجه مجتمعاتنا من لغة حوار مشتركة هادئة لتجنب الانزلاق المحفوف بالمخاطر من جهة وتمكين الفرد على التكيف المناسب مع التطور والتغيير الذي يغزو محيطنا بشكل مخيف ومتسارع، والتعامل بوعي محكم لحركة التثقيف المتبادل من جهة أخرى. لكن مع غياب القدرة على الفكر المتوازن وعدم وجود منابع نستزيد منها المعرفة وتزودهم بالأفكار السديدة، وذلك بسبب العزوف عن القراءة والمطالعة والبحث وعدم الاهتمام بتغذية عقول الناشئة من أجيالنا الصاعدة بما يتناسب والتحديات المعاصرة ليصلوا مرحلة التحصين الأخلاقي والتمكين المعرفي، لذا أنتج ذلك فراغا كبيرا وضياعا وفوضى شكلت انزلاقا وانعطافا عنيفا وغياب الوسطية في كل شيء.

أما البعد الثقافي لهذا الانفتاح من أخطر أبعاده تلاشي القيم السامية لأبنائنا وإحلال محلها معارف للبلاد الغربية، الأمر الذي قد ينعكس سلبا على الهوية والموروث المحلي والذي من خلاله فقد السواد الأعظم من أمتنا ثوابتها وأصالتها؛ مما وضع أبنائنا من شباب وفتيات أمام تحديات المحافظة على كينونتنا الثقافية والاسلامية وتحديدا أين يقف فيها الثابت عن المتحول. وكل ما نحتاجه اليوم للتطور مع الحفاظ على خصوصيتنا الإسلامية الأصيلة وتحديد هويتنا وفهم ما هي طبيعتنا ومعرفة ميولنا وماذا نريد منها ومن ذخلالها وهل نستطيع تحقيق ما نطمح إليه. بل في واقع الحال لا إشكال في الميل والأخذ بالتطور الحالي من تكنلوجيا وما أمكن من ذلك سبيلا بجميع فروعها والاستفادة منها قدر المستطاع سواء على المستوى الطبي والتقني والاقتصادي أو حتى في المجال الفني الثقافي.

إذا التعامل مع الفكر المعرفي الوارد لنا من الخارج هذا بحد ذاته أمر مباح لا غبار ولا خلاف فيه إن كان لخدمة وتطوير ونمو العقل البشري.

والأخذ بالأسباب ومراعاة الضوابط الإسلامية والأخلاقية وأن نتمسك بكل ماهو رباني لأنه الطريق الأمثل والأسلم وهو الوسيلة التي من خلالها ترتكز الأقدام وتكبر العقول ونكون بمعزل عن كل ماهو مخالف لتعاليم الخالق جلت قدرته. وهذا لا يتحقق إلا بالعمل الدؤوب والسعي والمثابرة وحشد الهمم وتشييد العقول فإن شيدت العقول ارتقى الوطن حتما وسنصل بعدها ذروة العلياء وتحقيق المراد ومحو الظلام وبزوغ فجر الآمال.