آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

أحيانا تحتاج أن تقول «لا»

جُبلنا وتعلمنا على سماع قول كلمة «نعم» من الآخرين لجميع طلباتنا، وكم نُصاب بالأذى والانزعاج وعدم الراحة، وقد تتبعها الكراهية والمخاصمة والتأثير على علاقاتنا عند سماع كلمة «لا» والتي نفسرها بالرفض والعصيان.

فقد تَطلُب من صديقك أو أخيك أو زوجك أو موظفك أمرا ما أو خدمة معينة ويواجهك بقول «لا». تتأثر أعصابُك وتنزعج من سماعها، وقد تُؤجج الجدالَ والمخاصمةَ والكراهية والعداوة التي تستمر لأيام أو أكثر وتتخذ ضدَّه موقفا سلبيا بغض النظر عن ظروفه وأسبابه التي جعلته يقول «لا».

أليس من حق كل شخص أن يقول «لا»؟ وهل هو مجبر على قول «نعم» لكل أمر بغض النظر عن خصوصياته؟ الأسباب التي تجعلنا نتجنب قول «لا» كثيرة وتختلف حسب الدور سواء مع العائلة أو العمل أو المجتمع. مايجعلنا نتجنب قول «لا» هو الطيبة وحب الناس والسعي لإرضائهم، والمجاملة والمداراة المبالغ فيها ومراعاة مشاعرهم بغض النظر عن مشاعرنا ومعاناتنا. وما يجعلنا نتجنب قول «لا» هو خشية الوقوع في الجدال والمخاصمة والعداوة، والرغبة في المسالمة وراحة البال والاستقرار النفسي. ومن الأسباب شعورنا بإهانة الآخرين وإيذائهم، ولكي لا يصفنا البعض بالأنانية والتعسف والتكبر والغرور وعدم التعاون والتكاتف. إضافة إلى السعادة والراحة النفسية التي تكنفنا عند خدمة الناس وقضاء حاجاتهم وإدخال السرور على نفوسهم ورسم الابتسامة على شفاههم؛ وقد يكون لسماع عبارات الشكر والمديح والثناء. بالإضافة إلى البحث عن السمعة والذكر الطيب وعدم تفويت الفرص المادية والمعنوية التي يمكن الحصول عليها مثل العلاوات والترقيات في مجال العمل وغيرها في المجالات الأخرى. ولا تخفى في أعلى القائمة المحفزات والعطايا الإلهية من الأجر والثواب والترغيب لخدمة الناس، وقضاء حوائجهم، وإدخال السرور عليهم مما يشجع الكثير على الانخراط في المجالات التطوعية المتنوعة لخدمة المجتمع.

لاشك بأنها أمور جميلة للتعايُش والتكاتف والتكافل وتعزيز الذكاء الأسري والمهني والاجتماعي ونيل الأجر والثواب، ويصعب على الكثير من أبناء مجتمعنا التنصُّل منها، ولكن أحيانا يحتاج الأمر إلى ضابطة وعدم إطلاق الرد بنعم على مصراعيه على حساب راحتنا وصحتنا وأولوياتنا وأهدافنا الشخصية وقد تكون العائلية أيضا. وعليه لابد من التحلي بالشجاعة والحزم أحيانا والتدرب تدريجيا وممارسة قول «لا» بلباقة ومهارة وأدب واحترام وأسلوب هادئ حسب المواقف والشخصيات، ولو باختيار عبارات أخرى غير كلمة «لا» أو إعادة جدولة المهام أو ترشيح شخص آخر أو آلية أخرى لكي لايشعر الطرف المقابل بالإهانة والمشاعر السلبية والرفض المباشر.

كل تغيير في بدايته له ايجابياته وسلبياته وحتما سيُواجَه بالمقاومة والرفض والمتاعب وكذا الحال مع قول «لا». في بداية المشوار سيعاني الشخص ولكنه بعد فترة سيصبح الأمر أكثرَ سهولة وسيتفهم من حوله استراتيجيته وأسلوبه وقناعاته ومنهجه الواضح وحدوده التي لايمكن تجاوزها، وسينال الاحترام لاحترامه وتقديره لذاته وأولوياته وأهدافه.

بالطبع ليست الدعوة للمواجهة والتمرد وقول «لا» من أجل قول «لا» فقط، والتنصل كليا من الخدمات الجليلة التي يقدمها كل شخص بل مراعاة التوازن حسب امكاناته وقدراته وظروفه وما يسمح به وقته وصحته في مختلف الأدوار التي يعيشها. ولا يُتوقع أن يكون أحد أحرص منه ويهتم بأولوياته وأهدافه إذا لم يتابعها ويهتم بها بنفسه. وكلما تأخر في تطبيق ذلك سيشعر بالأسى لتدني إنتاجيته وتفويت الكثير من الفرص والأهداف الشخصية التي كان بإمكانه تحقيقها خلال فترة زمنية ليس لمصلحته فقط بل لما يخدم الصالح العام الذي يشمل عائلته ومجتمعه ووطنه على المدى البعيد مستثمرا وقته وصحته كما ينبغي.

ولا بأس بأن نختم بموقفين مختلفين. يقول أحد المتقاعدين قبل كوفيد-19: تقاعدت من العمل للاستمتاع بالراحة والحرية ولكن الأعباء أصبحت أكثر من أيام العمل من طلبات العائلة والمجتمع للمشاوير الخاصة وغيرها من الخدمات العائلية والاجتماعية. الطلبات كثيرة ومزعجة ولكنني أخجل أن أرد طلب أحد فأضغط على نفسي وأتنازل عن الكثير من أولوياتي ووقتي وراحتي من أجلهم بالرغم من التلميحات المتكررة بالانشغال ولكن دون جدوى بسبب النظرة السلبية من البعض للمتقاعد بأنه متفرغ ورهن الإشارة وفي الخدمة في أي وقت.

موقف آخر مع أحد طلبة العلم عندما طُلب منه إمامة المصلين في مسجد الحي الذي يقيم فيه أثناء غياب الإمام الراتب قبل أكثر من عشر سنوات ولكنه اعتذر بقوة وبدون تردد وطلب البحث عن إمام آخر يمكنه القيام بهذا الدور وعلل بأنه قد وضع لنفسه استراتيجية ورسم له منهجا وهدفا يسعى لتحقيقه وقد كان يخشى من ضياع الكثير من وقته عند الالتزام بصلاة الجماعة ومايتبعها من جلسات وولائم ومناسبات اجتماعية. كما هو الحال لم يُقابَل رفضه بالقبول والارتياح في بداية الأمر ولكن قد تجلت أسباب رفضه لاحقا من خلال تحصيله المتميز ونتاجه العلمي الوافر. إنه يستحق جلَّ الاحترام والتقدير لتركيزه على أولوياته وعدم المجاملة بقول «نعم» لتقديم ما فيه خير ومنفعة للمجتمع في مجال آخر؛ وهناك من يمكنه القيام بدور إمامة المصلين وتخصيص جزء من وقته لهذه الخدمة التي يعتبرها جزء من أولوياته.