التنوع اللغوي والتنوع البيولوجي
الفكر اللغوي إلى وقت قريب كان يعتبر اللغة البشرية ليس فقط مجرد وسيلة تواصل، بل أنها مستقلة عن صاحبها وعن بيئتها، في حين، على أقل تقدير، إن زيادة عدد الكلمات التي تصف قضايا البيئة في لغة ما تعني زيادة الوعي بها وبقضاياها.
بعد ورقة بحث لمايكل هاليداي، العالم اللغوي الإنجليزي، ظهر علم اللغة البيئي، أو اللغويات البيئية، في التسعينيات من القرن العشرين وتطور كفرع جديد للبحث اللغوي، مما وسَّع نطاق علم اللغة الاجتماعي، ليأخذ في الاعتبار ليس فقط السِّياق الاجتماعي الذي تندمج فيه اللغة، ولكن أيضًا السياق البيئي. وقد تكونت في ما بعد الرابطة الدولية لعلم اللغة البيئي، الذي من اهتماماته:
”يستكشف علم اللغويات البيئية دور اللغة في التفاعلات المستمرة للحياة بين البشر والأنواع الأخرى والبيئة المادية، بهدف: «1» تطوير نظريات لغوية ترى البشر ليس فقط كجزء من المجتمع، ولكن أيضًا كجزء من النظم البيئية الكبرى التي تعتمد عليها الحياة، و«2» إظهار كيفية استخدام اللغويات لمعالجة القضايا البيئية الرئيسة، من تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي إلى العدالة البيئية“ [1] .
وفي دراسة حديثة يقودها لاري جورينفلو «Larry Gorenflo»، أستاذ هندسة المناظر الطبيعية والجغرافيا والدراسات الأفريقية في جامعة بن ستيت «Penn State» في أمريكا، ويعمل مع عالمة اللغة سوزان رومين «Suzanne Romaine»، كلية ميرتون، في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، زار 48 موقعًا في إفريقيا صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» كمواقع للتراث العالمي الطبيعي. تستضيف هذه المواقع ”موارد طبيعية وثقافية ذات أهمية عالمية أو موارد طبيعية وثقافية مشتركة“، حسبما ذكر في مجلة ”بيولوجية المحافظة“ Conservation Biology [2] .
قام فريق البحث بتحليل بيانات نظام المعلومات الجغرافية الخاصة باللغات الأصلية في هذه المناطق ووجدوا أن 147 لغة متداخلة مع مواقع اليونسكو. ظهرت آثار لغات السكان الأصليين في جميع مواقع التراث العالمي الطبيعي التي تم فحصها باستثناء موقع واحد. يقول بروفيسور جورينفلو: ”إن الاستنتاح الأهم في القضية هو أنه في حال كنا مهتمين بالحفاظ على التنوع البيولوجي، فإن استبعاد السكان الأصليين، الذين من المحتمل أن يكونوا قد ساعدوا في خلق هذا التنوع في المقام الأول، قد يكون فكرة سيئة حقًا“، ويضيف: ”البشر جزء من النظم البيئية وآمل أن تستهل هذه الدراسة بجهد أكثر التزامًا لإشراك السكان الأصليين في الحفاظ على المواقع التي تحتوي على التنوع البيولوجي الرئيس“. في جميع مواقع التراث العالمي الطبيعي في إفريقيا القارية والجزر المجاورة، لا يعيش السكان الأصليون فحسب، بل يديرون إلى حد ما البيئة التي يعيشون فيها منذ فترة طويلة [3] .
”الدرس الأكبر من هذا الأمر“، في رأي الدكتور جورينفلو، هو أن ”هناك أدلة متزايدة على أن التنوع اللغوي والتنوع البيولوجي مترابطان، ووجدنا ذلك على نطاق جغرافي جيد إلى حد ما“. ويضيف: ”إذا كان هذا واقعًا، فإنه يقدم حجة قوية بأنَّ السكان الأصليون هم جزءٌ من إدارة النظام الإيكولوجي في المواقع التي يعيشون فيها. وحين يكون هناك أكثر من مجموعة لغوية مرتبطة بموقع معين، يبدو أن الإستراتيجية هي السماح للأشخاص المرتبطين بالمناطق الفردية بالتعامل مع تلك المجالات“.
بالإضافة إلى اكتشاف أن المتحدثين باللغات الأصلية غالبًا ما يعيشون في مواقع رفيعة المستوى حسب تصنيف اليونسكو، وجد الباحثون أيضًا أن عدد اللغات في هذه المواقع يرتبط بعدد الأنواع التي تشمل نطاقات إحداثيات هذه المواقع.
استخدم فريق البحث قاعدة إثنولوج «Ethnologue» للحصول على بيانات عن اللغات [4] . والمعلوم أن ”البيانات ليست صحيحة تمامًا“، حسب رأي جورينفلو، إلا إنها تظهر أنماطًا أساسيَّة. أمَّا بالنسبة لبيانات الأنواع الحيَّة، استخدم الباحثون قائمة الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض والتي تتضمن بيانات عن مدى الأنواع، التي شملت البرمائيات والثدييات والزواحف ومجموعة من أنواع المياه العذبة. إمَّا لأنواع الطيور فاستخدموا بيانات من ”حياة الطيور العالمية“ «Birdlife International» و”دليل الطيور في العالم“ «Handbook of the Birds of the World».
وجد الباحثون إرتباطًا إجابيًّا بين أرقام «عدد» اللغات وأرقام «أعداد» نطاق الأنواع، وفي هذا ربما إشارة، ليست على وجه اليقين بالطبع، إلى أن المزيد من التعقيد الطبيعي يولد المزيد من التعقيد الثقافي، حيث كشفت نتائج الدراسة أنه في مواقع اليونسكو في إفريقيا، تداخلت اللغات الأصلية مع أكثر من 8200 نوع في المجموعات التي شملتها الدراسة، مع ملاحظة أنه، حسب الدكتور جورينفلو، قد يكون هناك انخفاض في التنوع البيولوجي في هذه المواقع الأفريقية المهمة عالميًا إذا تم تهجير مجموعات السكان الأصليين أو بطريقة ما همش تأثيرهم على إدارة هذه المناطق.
يأمل فريق البحث في دراسة مجالات محددة مستقبلًا لزيادة فهم العلاقة بين التنوع البيولوجي والتنوع اللغوي، مع التركيز أولًا على جبال القوس الشرقي في تنزانيا «أفريقيا» حيث يحدث الكثير من التنوع اللغوي والبيولوجي هناك. كما يخططون لفحص فانواتو Vanuatu [5] ، وهي أرخبيل يقع في المنطقة الساخنة للتنوع البيولوجي لجزر الميلانيزيا الشرقية مع تنوع لغوي كثيف بشكل خاص. هناك نقطتان أخريان مهمتان للتنوع البيولوجي: الأولى تشمل الهند وبورما وكمبوديا ولاوس وفيتنام وميانمار وجنوب الصين، والثانية هي أمريكا الوسطى، في هاتين المنطقتين التنوع اللغوي مرتفع جدًا.
وفي الختام، يبدو أن التنوع البيولوجي، وفقًا للقائمين على هذه الدراسة، يرتبط مع التنوع الثقافي الذي يحمله التنوع اللغوي، وقد يكون هذا الارتباط هو أحد الطرق للحفاظ على كل من البيئات الطبيعية والسكان الأصليين في إفريقيا، وربما في جميع أنحاء العالم.