آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

هل وجود هدف لنا في الحياة يجعلنا سعداء؟ *

الدكتور أحمد فتح الله *

قبل أن تقوم حكومة جون ميجور بتحويل معاهد الفنون التطبيقية «Polytechnics» في بريطانيا إلى جامعات في تسعينيات القرن الماضي، كان التعليم العالي مكون من مستويين:

الأول: الجامعات، التي تعتمد نموذج الجمنازيوم اليوناني [1]  رغم أنها لا تزال متعالية على الأمور التقليدية والفنون الليبرالية، تقبل الطلاب الراغبين في الدراسة ”من أجل التعلم“.

الثاني: الفنون التطبيقية، والتي تصنف أدنى من الجامعات، كانت موطنًا تقليديًا لكليات الهندسة في البلاد، لكنها بقت متهمة بعيب التوجه نحو ”المنفعة العمليَّة“.

على مدار القرن العشرين، تم تطوير ”معاهد الفنون التطبيقية“ وتحديثها لتقديم دورات في الفن وتكنولوجيا التصميم والأزياء والصحافة وصناعة الأفلام وغير ذلك. ومع ذلك، تم تحويل المواد التي كان ينظر لها على أنها مواد جامعية بأبراج عاجية، إلى مواد مهنية، كما لو أن المعرفة والمهارات ذات الصلة بالعالم كانت أقل قدرًا، وأن التعليم له غرض معد سلفًا. باختصار شديد، التعليم العالي له وجهان: وجه لتفكر الناس فيه «أو به»، والآخر أمور لتفعلها. وهذا ما يعيد إلى الأذهان القول المأثور للكاتب ورجل الدين جورج واشنطن بيرناب في القرن التاسع عشر: ”الأساسيات الكبرى للسعادة في هذه الحياة هي: شيء يجب القيام به، وشيء تحبه، وشيء تتمنى تحقيقه“.

تم تطبيق المصطلح «vocational مهني» في الأصل على المؤهلين لدخول الكهنوت استجابة للنداء الإلهي «vocare»، وفي ”العبودية“ «servitude» يجدوا السعادة والمعنى «لحياتهم» [2] . في هذه الأيام، عندما نتحدث عن مهنة «vocation»، نفكر في الأطباء والمحامين والمعلمين والفنانين «المبدعين pieosis»، الأشخاص الذين هم، في الاستجابة لاستدعائهم، يجدون ”وجهة“ ولكن أيضًا ”صلة“ بمجموعة أعلى من الفضائل، كالشفاء، والعدالة، والتربية، والتوازن. في السعي لتحقيق هذه الفضائل، يتم التضحية بشيء من الذات، ويتم صهره في الجماعة من أجل المنفعة العامة.

لطالما شعرت بالتأثر بهذا النهج غير البديهي للسعادة، بمعنى أنه فقط من خلال التخلي عن الأشياء «الرغبات الأنانية، وربما الكماليات أيضًا» يشعر المرء برضًى أكثر، وليس أقل. الآن أكثر من أي وقت مضى أريد أن أتشبث بفكرة أن العثور على السعادة له علاقة بالهدف، أو حتى بالواجب. نحن نعيش في عالم يبدو فيه الكثير من الناس مقتنعين بأن واجبنا الأول هو نحو الذات ولها وأن السعادة والإنجاز «fulfilment» متلازمتان، فبالتالي أن كل ما تشتهيه الذات يجب أن يتحقق.

أفكر في هذه النزعة الاستهلاكية والدورة المتوحشة التي لا تنتهي من مطاردة مادية فارغة. أفكر في السعي الخاوي إلى ارتفاعات عابرة صدقنا المجتمع أنها بوابات للسعادة، في حين أنها ذاتها زائلة، وبالنتيجة بريقها الزائف.

ربما تكون حجتي أفضل إذا قلبنا الأمور وسألنا عما إذا كان من الممكن أن تكون سعيدًا بدون هدف؟

قد تشعر بالإثارة المؤقتة بالخروج من التوقعات التي ”يصورها“ الهدف، أو بكونك خارج المصيدة أو ضمن عجلة الإنتاجية الرأسمالية. قد يبدو أن عدم وجود هدف لديك قد يشعرك أنك حر. ولكن شباب حركة الهيبيز الذين أداروا ظهورهم للدنيا، معتقدين أن السعادة لا تكمن في الرغبة، بل في الوجود. «أنا بالتأكيد لست أول من لاحظ المفارقة في أن كثير من المتسربين من الستينيات أصبحوا رؤساء تنفيذيين للشركات في الثمانينيات والتسعينيات».

التقاعد «عن العمل» الذي قد يعد بالسعادة بسبب عدم الارتباط بنشاط هادف، يستحق التأمل. تتقاعد، ولا تهمك مصائب الدنيا التي حولك، تمارس رياضتك المفضلة، والتشمس على الشاطئ، وقراءة الروايات، وتأخذ نصيبك مما كنت لا تستطيعه وأنت على رأس العمل. أديت ما عليك وأنجزت وكوفئت، فلا حاجة إلى النظر إلى الوراء أبدًا.

ما أسهل الكليشيهات «التصورات المبتذلة». هل هذا هو واقع المتقاعدين؟ بالطبع لا. تربط الدراسات العديدة التقاعد التقليدي مع ارتفاع معدلات الاكتئاب عند المتقاعدين «ناهيك عن أنواع الإدمان والتبعية الكيميائية والعاطفية».

أثناء إعداده لدراسته الرائعة عن ”أواخر الحياة ومحدودية الإنسان“، أجرى الطبيب والكاتب أتول جاواندي مقابلات مع العشرات من كبار السن والمرضى الميؤوس من شفائهم في محاولة لاكتشاف العوامل، العقلية والجسدية، التي ساهمت في سعادتهم ورفاههم أثناء مواجهتهم الاحتمال الحقيقي للموت. وجد مرارًا وتكرارًا أن وجود هدف يؤدي إلى سعادة أكبر من وجود أحفاد يزورونهم أو الاستمتاع بالاتصال الاجتماعي أو الراحة المادية. قرب نهاية كتابه «Being Mortal ”أن تكون خالدًا“»، يتحدث جواندي إلى مدرسة الموسيقى ”بيغ“ «Peg»، التي غادرت دار المسنين لتموت في المنزل. بيغ، المصممة على مواصلة التدريس، كانت تقوم بالتدريس حسب ما تسمح به طاقاتها. قبل رحيلها، تقام لها حفلة موسيقية، يجتمع تلاميذها ليعزفوا الموسيقى ثم تعانقهم فردًا فردا. بفعلها الصغير المحدود، تركت بيغ بصمتها على عالم «من حولها» قبل أن تغادره.

في أزمة كورونا الحالية، شلّ الإغلاق «Lockdown» الكثير منا في الأشهر الماضية، وحبسنا داخل فقاعاتنا المحلية وسلبنا أهدفنا. بسبب ”المعاملة الوالدية“ «كما لو كنا أطفال أو غير ناضجين» تركنا حياتنا العملية، ورعاية الأسرة والأصدقاء وخارج منازلنا المباشرة، والخدمة العامة، إلا إذا كنا ”عاملين أساسيين“. لقد غرقنا في نوع من الفوضى الجماعية في بعض النواحي، وحولنا هذا التعليق عن نشاط العالم الحقيقي واقعًا إلى مختبر تجريبي، حيث يمكن اختبار بعض أحدث الأفكار حول السلوك الذي يحركه الهدف والسعادة.

في ”مركز علوم الخير الأعظم“ «The Greater Good Science Center»، اختصارًا «GGSC» بجامعة بيركلي في ولاية كاليفورنيا في أمريكا [3] ، ينشغل خبراء السعادة بدراسة سلوكنا أثنا الإغلاق هذا، بهدف معرفة ما إذا كانت الخطوات الصغيرة، في هذه الأوقات العصيبة، يمكن أن تؤدي إلى تحقيق أهداف أكبر في الحياة.

ليس من قبيل المصادفة أن الناس كانوا يخيطون الأقنعة، ويخبزون الخبز، ويأخذون دورات عبر الإنترنت، ويتبنون استراتيجية ”افعلها بنفسك“ «Do It Yourself»، اختصارًا DIY، وهي الأنشطة التي يوصي به علماء النفس في المركز، مثل سونيا ليوبوميرسكي، كجزء مما تسميه ”هندسة السعادة المستدامة“، والتي تدعم وتبني مشاعر الرفاهية الذاتية. بالإضافة إلى مجازات علم النفس الإيجابي، والدوافع الخيرية «اليودايمونية» [4]  الموجهة نحو الهدف التي يؤيدونها، يعيد علماء النفس في بيركلي اكتشاف الفضائل التقليدية. في حين أن عملهم على ”النشاط الهادف“ يعود إلى ما لا يقل عن عقد من الزمان، فإن أحدث أبحاثهم تشير إلى أن ممارسة الامتنان والتسامح والعمل الجاد، إضافة إلى تلبية النداء المهني، تعزز مستويات سعادتنا بنفس الفعالية. وأخيرًا، يبقى الأمل في أن نفهم «جميعًا» أن مكونات الحياة السعيدة ليست في الأنانية.

*النص المترجم «بتصرف» ومصدره:

Does having a purpose in life make us happy? by Marina Benjamin

https://www.newphilosopher.com/articles/does-having-a-purpose-in-life-make-us-happy/

[1]  الجمنازيوم Gymnasium تاريخيًّا، كانت صالة للألعاب الرياضية تستخدم للتمارين الجماعية، والجدالات العلمية والفلسفية. تم استخدام الكلمة في اليونان القديمة، مما يعني مكانًا لكل من التربية البدنية والفكرية للشباب. استمر المعنى الأخير لمكان التعليم الفكري في اللغات الأوروبية الحديثة، إلا في اللغة الإنجليزية حيث تم الاحتفاظ بمعنى مكان للتربية البدنية، وبشكل أكثر دقة صالة الألعاب الرياضية المختصرة «المترجم».

[2]  كلمة ”معنى“ «meaning» لها عدة تصورات في المعجم الإنجليزي، منها: الاعتبار، الهدف، المقصد، ميزة، قيمة «المترجم».

[3]  يدرس ”مركز علوم الخير الأعظم“ علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأعصاب للرفاهية، ويعلم المهارات التي تعزز مجتمعًا مزدهرًا ومرنًا ورحيمًا «المترجم».

[4]  استخدم المؤلف هنا كلمة ”اليودايمونيك“ «eudaimonic»، من ”اليودايمونيا“، وهي كلمة يونانية تتكون من ”eu“ «يو: جيد» و”daimon“ «دايمون: روح» وتُترجم عادة إلى السعادة أو الرخاء، بينما تم اقتراح ”الازدهار الإنساني والرفاهية“ كترجمة أكثر دقة «علم النفس الأرسطي، دانيال روبنسون»، وقد خرج منها ما يصطلح عليه الآن: ”السعادة اليوديمونية“ Eudaimonic Happiness. تُعتبر يودايمونيا مفهوما مركزيًّا في الأخلاقية الأرسطية، حيث استُخدمت في أعمال أرسطو، بناءً على التقاليد اليونانية القديمة، كمصطلح يشير إلى قمة الخيرية البشرية، وبالتالي فهي غاية الفلسفة العملية بما في ذلك علم الأخلاق والفسلفة السياسية. «المترجم»
تاروت - القطيف