آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:42 م

رمضان.. شهر العفاسي

أثير السادة *

من ضجيج الباعة في سوق الدمام، تسلل صوته أول مرة إلى مسمعي في منتصف التسعينيات، أخذني يومها للبحث عنه والسؤال عن إسمه، الأصوات التي رافقتنا في تلاوة القرآن منذ الصبا قليلة، ما بين عبدالباسط والحصري والحذيفي توقفت بنا محطات العمر، بين طابور المدرسة الصباحي، ونداءات المغتسل في سفر الأرواح الطويل، وصباحات أمي والمذياع، كلها لم تكن تشبه هذا الصوت الذي يسقط على الأذن كلحن لذيذ، مبلل بروح النشيد الذي كان أكثر الأشياء قربا لأرواحنا آنذاك.

كان ذلك مشاري العفاسي الذي خرج من ساحة الترتيل إلى ساحة الإنشاد والترنيم، حتى بات كالجرس يرن في مختلف المناسبات، ومنها رمضان، تمدد طولا وعرضا في موجة جديدة عرفها الوسط المتدين، موجة تخرج الأصوات الدينية من حيز التدين إلى حيز الحياة، من حدود الوعيد والتبشير بالآخرة، إلى التغني بالوطن والإنسان وصولا إلى الاعلانات التجارية.

بالأمس كانت واحدة من المجمعات التجارية تختار صوته في“إلا صلاتي“ كتذكير بدخول وقت الصلاة، تستبق الأذان والدعوة إلى إغلاق المحلات بتهيئة القلوب لتلك اللحظة المربكة في عالم التسوق، واليوم تختار محلات التسوق ترتيله ليكون خلفية لمشهد التسوق في رمضان، فيما الإذاعات التي ستتخلى عن برامجها الغنائية والموسيقية ستفرد المساحة للعفاسي ورفاقه وهم يسخنون عناوين العبادة والخشوع في ساعات الصيام، إلى الحد الذي بات فيه رمضان شهر العفاسي بامتياز.

العفاسي هو صورة من صور التحولات في مشهد التدين عموما، داخل الوطن وخارجه، التدين الذي انفتح على انغام جديدة، وموضوعات جديدة، جعلت المسافة بين الغناء والإنشاد الديني تصاب بالهشاشة، فكلاهما يغرف من ذات المعين، ويتغزل ذات المعجم الغنائي، لغة ولحنا، وهو ما جعل من صور التعاون بين المطربين والمنشدين الدينيين أمرا مستساغا، كما في التعاون الأخير بين العفاسي والمطرب راشد الماجد والملحن أحمد الهرمي.

والحاصل أن في كل مشهد ديني ثمة أصوات تدير الدفة، وتفتح الآفاق، وتحرض على التجاوز، وتعيد ترتيب قواعد العلاقة مع الأنغام، وتترك خلفها ما تساقط من قديم الأسئلة، طالما وجدت في الطريق الجديد ما يهبها الحضور والتأثير في زمن يخاف الواحد منا أن ينتهي إلى مساحة الظل.