آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:20 ص

قبل أن تمضي قدما ‎

ياسين آل خليل

أغلب الناس مُرتابون من قادم الأيام، لكنهم على شكوكهم هذه يترقبون المستقبل بشغف ويتطلعون إلى ما يحمله لهم من مُفاجئات قد تقلب مرئياتهم رأسًا على عقب. إذا كان هؤلاء الناس أنفسهم عالقين في الماضي وما يحمله من دراما مؤلمة، فكيف لهم أن يخلّصوا أنفسهم من شباك الصيد هذه ويسترجعون حريتهم وسعادتهم التي تحولت الى شيءٍ من الوهم والخيال. الناس اليوم لا يمكنهم استرجاع مافقدوه من سلامهم الداخلي إلا بالخروج من حالة الهرولة بين الماضي والمستقبل والعودة إلى الاستكانة والهدوء الذي تجسده لحظة الحاضر.

نحن بأي حال لا يمكننا تخطي هذه المشكلة إلا بتعظيم قدرتنا على التطور والتعلم في عالم يسارع الخطى ويسابق الزمن لِيحجز لنفسه مكانةً تليق به بين الأمم. قبل كل شيء، علينا أن نتعلم كيف نقدر ما نحن فيه من حال. علينا أن نكون في حالة ذهنية حاضرة ونفس واعية تعيش اللحظة بتمعن وبصيرة وإدراك، دون أن تقفز الى المستقبل أو ترجع الى الماضي. هي مهارة ليس من السهولة تعلمها أو اكتسابها لكنها من الاهمية بمكان، كونك تحتاجها لتزدهر وتخرج من دائرة التوتر وصروف الدهر التي لم يسلم منها أحد.

لا أحد من الناس اليوم غير مهووس بالمستقبل وما سيحمله له. التحرز والتحوط بوضع الخطط والإستراتيجيات، قد يكون هو الحل الأمثل والأنجع لمُجمل الأزمات المالية والاجتماعية التي يعاني منها الفرد اليوم. أليس هذا أفضل من الإدمان على حديث القيل والقال والتفكير فيما قد يحمله المستقبل، الذي لن يُدخل الفرد إلا في مزيد من التوتر والاضطرابات النفسية الغير مبررة..! بدلًا من التشتت الذهني، على الإنسان أن يتعلق بالحاضر ليتمكن من تقييم وضعه الآني للحالة التي يشكو منها، وفهمها قبل القفز إلى المستقبل واستشراف سيناريوهات، هي أبعد من أن تمس الواقع في شيء.

قد لا يفهم الكثير ماهية مَلَكَة الحضور، وأنها ليست معنية بأناس دون غيرهم، لأن الحضور أمر مطلوب من كل الناس. تخيل أنك تصلي وبينما أنت في صلاتك نسيت أي ركعة أنت فيها، هل يمكننا القول أنك في تلك اللحظة كان لديك حضور - أو أن عقلك وأفكارك نقلتك الى أماكن عدة قبل أن ترجع الى صلاتك من جديد..؟ عندما تعيش اللحظة فإنه لا يفوتك شيئ، بل أنك في كل طرفة عين تعيد اكتشاف ذاتك، وتعلم ما تقول، وتفهم ما تسمع، وأكثر من ذلك كيف تستقر في مكانك الصحيح دون توجيه أو تدخل من أي أحدٍ كان.

اجترار أفكار الماضي هو نوع من التفكير شديد السلبية وقد يصل الى مرحلة من الإدمان المدمّر لحياة الفرد. عليك أن تتخيل، اذا كان عقل الإنسان يزدحم بآلاف الأفكار في اليوم الواحد، فما هو حال الناس الذين يقضون الكثير من الوقت في رؤوسهم..! كم نحن اليوم بحاجة ماسة لإيقاف هذه العادة ونحن نعلم علم اليقين أنها تتحكم في حياتنا وتتولى زمام أمورنا وتديرها كيف تشاء.

أن يكون لديك تواجد وحضور فهذا لا يعني أن يقتصر ذلك على الحضور الذهني بقدر ما هو تواجد جسدي تسعى من خلاله على التعرف على لغة جسدك وما يريد أن يوصله لك من إشارات، هي في غاية الأهمية، هدفها الرئيس هو العناية بك والحفاظ عليك من أي أذىً قد يلم بك. كلّما ازداد تقديرك لجسدك كلما استمتعت بالحياة أكثر.

قبل أن تمضي قُدُمًا، وبينما أنت عالق في رأسك تفكر في قضايا كثيرة، عليك أن تلتفت إلى سحر وجودك وعلاقتك باللحظة الآنية، لأنها بكل بساطة كل ما لديك، وأنها اللحظة الوحيدة التي تعيشها بالمعنى الحقيقي للعيش، وأنها الفرصة المنفردة لفعل أي شيء أو اتخاذ أي إجراء باستقلالية وقرار نهائي دون تدخلٍ مريب لأفكار الماضي أو تسللٍ مُبهَم لأَحلام المستقبل.