آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:34 م

السماك.. والسحور الأخير

أثير السادة *

كقنديل من قناديل الليل، يضيء ياسر السماك طرقات الذاكرة وهو يمنحها الحياة ثانية باستعادة صورة ”المسحر“، ذلك الذي نذر صوته لإيقاظ النائمين في ليالي الصيام، في يوميات لم تعرف السهر، ولا ضجيج القابعين خلف شاشات التلفاز، يستعيدها ويستعيد بريقها ساعة يطلق حنجرته لترديد مفردات جديدة وألحان بسيطة تتجاوز التذكير بوقت السحور، إلى الإشارة إلى تصرف الأحوال ومآل الأمور.

جسد نحيل يشبه تلك الأزقة التي يسير بها، يرافقه الطبل الذي يدوزن له إيقاع القصائد التي تخلع الصمت عن المكان، لا شيء يبرق في عينيه سوى الابتهاج بهذا الاحتفاء الذي أخذه إلى دائرة الشهرة في يوميات الكورورنا، كانت الأزمة بمثابة المرساة التي رمى بها في بحر الناس، وجعلته راسخا في ذاكرتهم.. ”غصبا عن الكورونا بناكل معكرونة“.. كان هتافه الشهير قبل أن يصاب بالمرض إياه في العام الماضي.

في هذا العام تنوعت الأفكار، والقصائد، وحتى المواقع، أصبح المسحر يتقمص دور الواعظ أحيانا، والراوي أحيانا أخرى، فتح نافذة النص على مدن وقرى البحرين، قبل أن تأخذه الحماسة إلى الإقليم المجاور، استعذب المشي مع نصه باتجاه نبرة غنائية، تتغنى بجماليات الأكل الشعبي، بمثل ما تتغنى بالشهر الكريم، غناء بسيط ينساب في قالب لحني لا تعقيد فيه.

اكتشف السماك في هوايته طريقا سالكا للشهرة، أصبح به محط تغطيات الصحف المحلية هناك، ومواقع التواصل الاجتماعي، بات عنوانا من عناوين رمضان للذين يقفون على حدود صوته ويستذكرون صورا توارت عن الأنظار، لم يكن فيها المسحر إلا كائنا متعبا، يجوب طرقات الليل، ليوقظ الليل من غفوته، والصائم من غفلته، هذه الحفاوة المستجدة بالمسحر لا تحكي الا عن افتتان بالقديم، وتسربل بأثواب الحنين، في زمن تكاد العفوية والبساطة أن تتقاعد منه.

ذات الحنين هو ما رفع من الصورة المستعادة للمسحر في مدينتي قبل سنوات، يومها حملت الفكرة حسا استعراضيا إلى جانب رسائل الحنين للزمن التليد، خرج فيها رضا السيهاتي وفرقته ليقرؤا على الناس كاتالوج العوائل وهم يطوفون بالأحياء وينادون بيتا بيتا للاستيقاظ وتناول السحور.. فرقة بأزيائها الشعبية تجوب الذاكرة كما تجوب الشوارع، وفي معيتها الجاري والحمار، لاستكمال اللوحة الاستعراضية التي مرت كحدث كرنفالي قبل أن تغيب وتدخل في حيز النسيان.

في المقابل سيظل السماك يحمل رسائل الفرح بين الأحياء، في موسم قصير، يخرجه من مساحة الظل إلى الضوء، ويهبه حب الناس، واهتماهم، قبل أن يعود ثانية إلى يومياته الاعتيادية، بانتظار عام آخر يروي به شجرة الأمل، ويحيي فيه ظلال المؤذن في رؤوس النائمين.