المثقف : بائع للأوهام أم نموذج للعطاء
ثمة إدراك واعتراف ضمني بالتأثير الكبير للمثقف على الساحة الاجتماعية وبقدرته على تغيير الأفكار وشحذ الهمم، هي ظاهرة قديمة من العصور الجاهلية، فقد كان الشعراء وزراء الإعلام في القبائل بالماضي والناطقين باسمها والمدافعين عن كيانها.
المثقف والثقافة - لغةً - مشتقتان من مادة ”ثقف“ والتي تدل حسب ما جاء في معاجم اللغة العربية على عدة معانِ منها: سرعة الفهم، والفطنة، والذكاء، وسرعة التعلم، وتسوية المعوج من الأشياء، والظفر بالشيء، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ﴾ [الأنفال: 57].
وعُرفت كذلك بأنه " كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع، وتذهب إحدى الدراسات إلى: أن اللفظين العربيين «مثقف» و«ثقافة» يقابلان على التوالي اللفظين: «intellectual» و«culture» ذوَي الأصل اللاتيني، المستخدمينِ في اللغة الأوربية، وعلى الرغم من أن الاشتقاق العربي يُعِين على فهم العلاقة بين المثقَّف والثقافة، التي تمثل مجال فعله وتأثيره، ويشدد على الترابط بين الاثنين، فإن التفكير في دور المثقف وعلاقته بالثقافة لا يزال يتبع المعانيَ المولَّدة في الأدبيات الغربية ويحذو حذوها.
فالمثقف بالمصطلحات العرفية هو ناقد اجتماعي، مهمته وهمته أن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تعوق وتقف أمام بلوغ الأهداف المثالية للنظام الاجتماعي والبيئي، فهو قوة مجتمعية مطورة للمجتمع وللنظام الاجتماعي الإنساني من خلال أفكاره المتطلعة الشمولية، بيد أن الأزمنة تتغير وتتبدل فخفت حضورهم، فكانت أشبه بالعزلة ولم يكن لممارساتهم السابقة وأدوارهم التي كانوا طلائعها حاضرة ومؤثرة مما حذا بهم للحضور بخلفية المشهد، فتأكلت أفكارهم وتبخرت أحلامهم، وأصبح التنظير مرافق لهم، فالخوف من وهم العزلة الثقافية شكل أكبر الأدوات الأساسية للكتابة كتحدي، ”تقول الكاتبة الإنجليزية“ أدالاين فيرجينيا وولف ”- إحدى أيقونات الأدب الحديث بالقرن العشرين“ الجمل العظيمة ننتجها في أوج العزلة ”، أما الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير فقال“ أكتب إليك حتى لا أظل وحيداً مع نفسي، كمثل من يشعل قنديلاً من الخوف ليلاً".
فغاية الكتابة هي العيش لا لنعتاش عليها، فكان أمام مثقفينا إما الانسحاب من صدارة المشهد والاعتراف بالهزيمة وبلا جدوى الكتابة، أم البقاء في دائرة الضوء والارتهان لشروطها الباهظة والرضى بإكراهاتها المختلفة، هي مراجعة لدور المثقف والصورة النمطية للثقافة للوقوف على أفق أوسع لدوره الطبيعي بالمجتمعات والبيئات المتعددة التي ينتمي إليها، لا لكونه بائع للأوهام وحارس للأفكار، بل لكونه لسان حال المجتمعات يتبنى قضاياها ويدافع عنها ولا يتقاعس أو ينظر إليها نظرة فوقية تفوت عليه دوره الحقيقي في الوسط الاجتماعي فهو أول مضحي لمجتمعه وأشد التزاماً بالقيم وأكثر تعهداً بالمبادئ الحقة.