آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

هل الضربة التي لا تقتلك تقويك: كيف، ومتى، ولماذا؟ 3

”كل شيء يصارع ويكابد من أجل البقاء. هلا نظرت إلى تلك الشجرة التي نمت بين شقوق الطريق المعبد بالأسفلت، أو في تربة سبخة أو في مكان لا تصله الشمس أو الماء إلا ربما حين تمطر السماء. صراعها المرير ضد صعوبات الحياة هذا أعطاها ميزة قوية للبقاء على قيد الحياة.“ النص مقتبس من كتاب لـ بتي سميثBetty Smith، عنوانه: ”شجرة تنمو في بروكلين“. A tree Grows in Brooklyn

في المقال السابق تطرقنا إلى أعراض وبعض مسببات اضطراب الضغط النفسي التالي للصدمة وذكرنا سبب اقتباس عبارة الفيلسوف نيتشة: ”الضربة التي لا تقتلك تقويك“، والتي نستخدمها هنا كعنوان لسلسلة مقالاتنا عن النمو التالي للصدمة، مستخدمين صيغة التساؤل عن ماهية العبارة، وختمناه بتعريف لخمس أوصاف للنمو التالي للصدمة. وفي هذا المقال نريد أن نستمر في التركيز على تفكيك المفهوم وإعطائه تعريفًا أوسع.

إضافة إلى عبارة نيتشة: ”الضربة التي لا تقتلنك تقويك“ يوجد في الموروث الشعبي أقوال مشابهة ومنتشرة على نطاق واسع، ومنها هاتان العبارتان: ”الشدائد تصقل الشخصية“ و”المحن تخلق الفرص“، وهناك غيرهما من العبارات المشابهة التي لفتت انتباه الباحثين وخاصة المشتغلين منهم في مجال علم النفس بشكل عام وعلم النفس العلاجي أو الإكلينيكي بشكل خاص. ومن بين الباحثين هناك باحثان ساهما في صياغة مصطلح: ”النمو التالي للصدمة“ وهما تيديشي وكلهون «Tedeschi & Calhoun» واللذان أطلقا هذه الصيغة على التغير الإيجابي الذي يلي التغيرات السلبية التي طرأت على شخصية المصاب بالضغط النفسي التالي للصدمة. تدرج هذان الباحثان في تعريفهما وتقديمهما للمفهوم الجديد، أولًا بالكتابة عن بعض الحالات الفردية والمتكررة، التي مرا بها في حياتهما المهنية، والتي كانت كلها تتميز بقاسم مشترك وهو التغير الإيجابي أو النمو بعد معاناة مريرة مع الصدمة. فكلمة ”نمو“ هنا تستبطن عملية المكابدة والصراع من أجل البقاء، كتلك الشجرة التي وصفتها بيتي سميث في كتابها المذكور.

في عام 1995، نشر الباحثان تيديشي وكلهون كتابًا بعنوان: " النمو بعد الصدمة: التغيرات الإيجابية بعد الأزمات Posttraumatic Growth: positive Changes in the Aftermath of Crisis. وبعد عام، صمم هذان الباحثان قياسًا «مؤشرًا» للنمو التالي للصدمة لمعرفة مقوماته الخمسة الرئيسية وطريقة قياسها بدقة. وبعد 8 سنوات «2004»، قدم الباحثان أسسًا ونتائج وأدلة علمية على النمو التالي للصدمة. وفي عام 2014، عاد الباحثان وطرحا تعديلات هامة وضرورية لمفهوم النمو التالي للصدمة وذكرا بنتائج بحوث ميدانية تدعم مفهوم النمو التالي للصدمة كعملية نشطة تؤدي إلى نتائج إيجابية كبيرة وعميقة. بمعنى آخر، مفهوم النمو التالي للصدمة لا يعني العودة للوضع الذي كان عليه المرء قبل الصدمة «عملية كهذه تعرف بالمرونة النفسية resilience» بل يعني الترقي إلى درجة أعلى وتغيير جذري في مجرى حياة الفرد الذي مر بتجربة الصدمة. الباحثان شجعا على أن يعكف الباحثون وخاصة منهم المهتمين بدراسة أنماط الشخصية على اكتشاف آليات التغير الشخصي بعد التعرض لصدمة نفسية ومعرفة أسباب التغيير الإيجابي وسر استدامته. وقدما الباحثان توصيات ثمينة تتعلق بانتهاج طرق إبداعية رصينة لدراسة النمو التالي للصدمة.

بعد أن تحدثنا عما قدما هذان الباحثان حول مفهوم النمو التالي للصدمة، نعطي الآن عرضًا مختصرًا للنظرية التي وضعاها حول المفهوم.

يعرف النمو التالي للصدمة بأنه ”التغير السيكولوجي الإيجابي الناتج من صراع مع تحديات حياتية قوية جدا“. هذه النظرة تعتبر أن النمو ينطوي على عملية إجرائية وعلى نتيجة. فالنمو عملية إجرائية لأن الإنسان يتصارع مع التحديات التي يواجهها بهدف الوصول إلى نتيجة تنطوي على تغيرات إيجابية تجلب معها الرضا وتقوي مهارات المرونة النفسية. ويضيف الباحثان نتيجة أخرى في غاية الأهمية وهي اكتساب المرء الحكمة المتمثلة في النظر إلى الشدائد والمحن كفرص لصقل الشخصية وتقويتها.

نكتفي هنا بهذا المقدار وسنتعرض إلى آراء ونظريات باحثين آخرين لكي نتعرف على أوجه التشابه والاختلاف حول مفهوم النمو التالي للصدمة وذلك في المقال القادم ان شاء الله.

راجعه عدنان أحمد الحاجي
رئيس سابق لقسم علم النفس التربوي في جامعة شمال ولاية أيوا بأمريكا، أكاديمي وباحث ومؤلف سعودي مقيم في أمريكا.