استثمارات إيمانية
منذ نعومة أظافرنا وعندما كنا أصغر عمرا، كنا نسمع ونشاهد تلك الاستعدادات المكثفة لقدوم شهر رمضان المبارك. وكانت تلك الاستعدادات على قدم وساق بل كانت جميعا تقام وتنفذ بشكل جلي وواضح للعيان. ونذكر منها - على سبيل المثال لا للحصر -: الأنشطة الرياضية كالمباريات سواء على المستوى الرسمي في الأندية، أو الفرق الأهلية وكذلك الاقتصادية مثل التنافس بين المحال التجارية من خلال إبراز الكثير من العروض وتخفيض الأسعار لجذب أكبر عدد من قبل التاجر للمتسوقين والمتبضعين لكسب ما يمكن كسبه لترويج سلعته وبالتالي الحصول على قدر ربحي كبير - من وجهة نظر ذلك البائع -. وهناك أيضا المناشط الترفيهية وغيرها من الفعاليات الاجتماعية والفنية كإقامة المسرحيات والمهرجانات ذات الطابع العائلي والشبابي. ولا ننكر هنا أن بعضها ذات قيمة أخلاقية وتربوية لا شك بل هناك من هو قائم عليها من الرجال والنساء المشهود لهم بالوقار واحترام الذات والإخلاص فيما يقدمونه لتثقيف النشء ورفع مستوى الوعي الفكري والأخلاقي لاشك وهم بذلك يستحقون وقفة إجلال وتقدير لكل الجهود التي تبذل من قبل تلك اللجان المباركة.
ولكن إن أمعنّا النظر والفكر قليلا؛ فسنجد سؤالا هنا يفرض ذاته بعمق وهو: ألا يستحق منا ذلك الشهر المعظم عند الله أن نفرغ ونهيئ أنفسنا قليلا لاستثمار ثواب ذلك الضيف المقدس والإقبال على العبادات وتلاوة القرآن وإقامة الصلوات؟! وأن نعطر أفواهنا بالأدعية والأذكار ونهذب سلوكنا بالإمساك عن القيل والقال! ولا ننسى صلة الأرحام والإكثار من الصدقات. وفرصتنا استغلال تلك الأيام التي يجزل فيها البارئ تلك المكرمات على سائر العباد. فكل ساعة من ساعات هذا الشهر الكريم هي فرصة إن ذهبت؛ ستذهب بلا عودة ولن يكون لها عوض! فأيامنا تنصرم، والعمر يهرول دون تراجع، والبدن يهرم وبأسنا يضعف. وكلما تقدم بنا الزمن يقترب رحيلنا وبعد الرحيل يبدأ حسابنا.
نعم حسابٌ لا هوادة فيه ولن يكون للعبد منه مفر. فعزاوك الأوحد أيها الضعيف ومن يحول دون ذلك هو عملك. نعم عملك فقط من سينجيك من مصيرك المخيف، مصيرك المظلم وأنت في تلك الدار الموحشة تلك الدار الضيقة وأنت وحدك غريب بلا ولد ولا صديق ولا عشيرة ولا مؤنسًا لوحشتك ولام هدئ لروعتك. وهناك ستواجه نتيجة طاعتك لشهواتك ونزواتك وشيطان هواك وبعدها يأتي نداؤك من خلال قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. «سورة المؤمنون الآيتان 99-100».
إذن فإن الدنيا دار غرور، بل هي دار اختبار. والإنسان يعيش في خضمها صراعا دائما ويتجسد ذلك من خلال ثلاثة عوامل هي: الشيطان والنفس والهوى. وجميعهم يمثلون معسكر تحدٍ للإنسان في هذا العالم عالم العبور. العبور إلى عالمٍ أخرٍ، عالم الخلود، عالم الجزاء والثواب.
إذًا أعمارنا قصيرة، وحياتنا فانية زائلة، وآجالنا قادمة بلا موعد وبلا استئذان. وهذه حقيقة واقعة علينا لا محال. قال جل في علاه: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾. «سورة الرحمن الآيتان 26-27».
لهذا يُعتبر شهر الله هو غنيمةٌ لا تعوض، وكل ما تتقرب به للخالق - تبارك وتعالى - مقبول بل ومضاعف من حيث الأجر والثواب شرط الإخلاص في النوايا والأعمال. فعن الإمام الصادق - - أنه قال: ”إذا أصبحت صائمًا فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة، والقبل، والقهقهة بالضحك، فإن الله مقت ذلك“ «ميزان الحكمة/ ص 472 الحديث رقم 10655».
فهل يُعقل بعد ذلك أن نسمح لشرور رغباتنا وميول أهوائنا أن تجرنا لطريق سوادُه الأكبر مهالك ودمار؟! طريقٌ كله آثام، طريق زائف لا يجلب لصاحبه إلا الحسرة والندم والخسران! لذا أحث نفسي وإياكم ضرورة الاستيقاظ من تلك الغفلة المظلمة. وكفانا سبات وتجاهل لوعد الله المحتوم وهو وعده الإلهي المحقق لا مناص منه ولا مفر. قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. «آل عمران: 185».
نسأل الله العفو والعافية، عافية الدنيا والآخرة.