الصوم رائض وواعظ
يعد الصوم في شهر رمضان المبارك من أفضل الوسائل في تهذيب النفس، وتزكية الروح، وتنقية القلب؛ لما له من أثر فاعل ومؤثر في تغذية الصائم بالطاقة الروحانية والمعنوية والإيجابية.
وتؤدي هذه الطاقة المعنوية إلى الإقبال على العبادة، وتذوق لذة مناجاة الله تعالى، والشعور بالقرب منه عزّ وجلّ، وزيادة منسوب التقوى في شخصية الإنسان الصائم، وتلاوة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية المأثورة، والشعور بآلام الفقراء وحب مساعدتهم، وكبح جماح الضغوط الشهوانية والغرائزية والمادية.
والنفس كالأرض إن تركت نبتت فيها الأشواك والحشائش الضارة، وإن سقيت وروعيت ازدانت بالأشجار المثمرة والطيبة؛ وكذا النفس إن أهملت امتلأت بالذنوب والمعاصي والشوائب والعقد النفسية والسلوكية، وإن روضت ازدانت بالملكات والفضائل النفسية والأخلاقية، والصوم الكامل خير معين على ترويض النفس وتخليصها من ضغوط الشهوات والأغلال والشوائب وغيرها.
والصوم رائض؛ لأنه يروض النفس على التحمل والصبر لما فيه من إمساك عن المفطرات وامتناع عن الشهوات، ولذا ورد عن الإمام الصادق في تفسير قولِهِ تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾[1] قال: «يَعنِي بِالصَّبرِ الصَّومَ» وقال: «إذا نَزَلَت بالرجُلِ النازِلَةُ والشِّدَّةُ فَلْيَصُمْ؛ فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ يقولُ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ يعني الصِّيامَ» [2] .
والصوم واعظ؛ لأنه يذكّر الصائم بجوع وعطش الآخرة، لما روي عن رسول الله أنه قال: «وَاذكُروا بِجوعِكُم وعَطَشِكُم فيهِ جوعَ يَومِ القِيامَةِ وعَطَشَهُ» [3] .
وقد أشار الإمام الرضا إلى علة الصوم، وأنه رائض وواعظ في آن واحد، فقال: «عِلَّةُ الصَّوْمِ: لِعِرْفَانِ مَسِّ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ لِيَكُونَ الْعَبْدُ ذَلِيلًا مُسْتَكِيناً مَأْجُوراً مُحْتَسِباً صَابِراً، فَيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى شَدَائِدِ الْآخِرَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِانْكِسَارِ لَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَاعِظاً لَهُ فِي الْعَاجِلِ دَلِيلًا عَلَى الْآجِلِ، لِيَعْلَمَ شِدَّةَ مَبْلَغِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» [4] .
وعَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الإمام الرِّضَا أيضاً قَالَ: «إِنَّمَا أُمِرُوا بِالصَّوْمِ لِكَيْ يَعْرِفُوا أَلَمَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ؛ فَيَسْتَدِلُّوا عَلَى فَقْرِ الْآخِرَةِ، وَلِيَكُونَ الصَّائِمُ خَاشِعاً ذَلِيلًا مُسْتَكِيناً مَأْجُوراً مُحْتَسِباً عَارِفاً صَابِراً عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَيَسْتَوْجِبَ الثَّوَابَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ وَاعِظاً لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ، وَرَائِضاً لَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَا كَلَّفَهُمْ، وَ دَلِيلًا لَهُمْ فِي الْآجِلِ، وَ لِيَعْرِفُوا شِدَّةَ مَبْلَغِ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَ الْمَسْكَنَةِ فِي الدُّنْيَا؛ فَيُؤَدُّوا إِلَيْهِمْ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ» [5] .
فالصوم رائض للنفس وواعظ لها، فبه يروض الإنسان نفسه على مجاهدة الغرائز والشهوات، والتخلص من الضغائن والأحقاد، وبه يعظ الإنسان نفسه عندما يستذكر جوع وعطش وفقر الآخرة؛ فيستذكر آلام الفقراء والمساكين فيعطف عليهم، لأنه في الآخرة سيكون فقيراً إلى رحمة الله وعفوه، وكما قال الإمام الرضا: «فَيَسْتَدِلُّوا عَلَى فَقْرِ الْآخِرَةِ» فالإنسان في الآخرة أحوج ما يكون إلى أعماله الصالحة، ولن تنفعه أمواله وأولاده شيئاً.
ومن التوفيق أن يوفق الإنسان لصيام شهر رمضان كاملاً، ويمتنع عن جميع المفطرات المادية وغير المادية، ويفعل الخيرات والمبرات في هذا الشهر المبارك، ويتعرض لفيوضات الرحمة الإلهية، فتغفر له ذنوبه، فقد روي عن رَسول اللّهِ أنه قال: «فَاسأَلُوا اللّهَ رَبَّكُم بِنِيّاتٍ صادِقَةٍ وقُلوبٍ طاهِرَةٍ أن يُوَفِّقَكُم لِصِيامِهِ وتِلاوَةِ كِتابِهِ؛ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِمَ غُفرانَ اللّهِ في هذَا الشَّهرِ العَظيمِ» [6] .
وطوبى لمن قبل الله صيامه وغفر له ذنوبه وأعطاه ثواب الصابرين، فقد روي عن رسول الله: «مَن صامَ شَهرَ رَمَضانَ إيماناً وَاحتِساباً، وكَفَّ سَمعَهُ وبَصَرَهُ ولِسانَهُ عَنِ النّاسِ، قَبِلَ اللّهُ صَومَهُ وغَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وما تَأَخَّرَ، وأعطاهُ ثَوابَ الصّابِرينَ» [7] .
الصوم السلوكي
للصوم هدف وحكمة وغاية، وهي صناعة التقوى في شخصية الإنسان كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[8] ، والتقوى أصلها من «وقى» وهو حفظ النفس مما يؤذيها ويضرها. وتتحقق التقوى بحفظ النفس عما يؤثم المرء على فعله وذلك بترك ارتكاب المعاصي والذنوب والموبقات، ومعظم المعاصي والآثام مصدرها من الغضب والشهوة، والصوم يكبح حدة هاتين الغريزتين، فيحفظ الصائم نفسه عن كل ما يؤثم عليه ويعاقب مما يزيد من حالة التقوى عنده.
والصوم جنّة من النار، لما روي عن رسول اللَّهِ أنه قال: «علَيكَ بالصَّومِ؛ فإنّهُ جُنَّةٌ مِنَ النارِ، وإنِ استَطَعتَ أن يَأتِيَكَ المَوتُ وبَطنُكَ جائعٌ فافعَل» [9] .
وحتى تتحقق آثار وبركات وأهداف الصوم على الصائم أن تصوم جوارحه وحواسه كلها عما حرّمه الله كما يصوم عن الأكل والشرب، لما روي عن رسول الله أنه قال: «مَن صامَ يَوماً مِن رَمَضانَ فَسَلِمَ مِن ثَلاثَةٍ، ضَمِنتُ لَهُ الجَنَّةَ عَلى ما فيهِ سِوَى الثَّلاثِ: لِسانِهِ وبَطنِهِ وفَرجِهِ» [10] .
وعنه قال: «ما مِن عَبدٍ دَخَلَ عَلَيهِ شَهرُ رَمَضانَ فَصامَ نَهارَهُ وكَفَّ شَرَّهُ وغَضَّ بَصَرَهُ وَاجتَنَبَ ما حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ، إلّا أوجَبَ اللّهُ لَهُ الجَنَّةَ» [11] .
ولذا ينبغي أن ينعكس الصوم على سلوكيات الصائم وتصرفاته الخارجية، فلا يكفي أن يمتنع المرء عن الأكل ولكنه يأكل لحوم الناس، ويمتنع عن الشرب ولكنه يغرق في النيل من أعراض الناس، لما روي عن رسول اللّه أنه قال: «ما صامَ مَن ظَلَّ يَأكُلُ لُحومَ النّاسِ» [12] ، وعنه قال: «الصائمُ في عِبادَةِ اللَّهِ وإن كانَ نائماً على فِراشِهِ، ما لَم يَغتَبْ مُسلِماً» [13] .
وروي عن السيدة فاطمة الزَّهراء أنها قالت: «ما يَصنَعُ الصائمُ بِصِيامِهِ إذا لَم يَصُنْ لِسانَهُ وسَمعَهُ وبَصَرَهُ وجوارِحَهُ؟!» [14] .
فإذا لم ينعكس الصوم على أخلاقيات الإنسان وأفعاله فلا تتحقق مقاصد الصوم والحكمة منه، وقد روى الإمام الصادق فقال: «إنَّ أبي قالَ: سَمِعَ رَسولُ اللّهِ امرَأَةً تُسابُّ جارِيَهً لَها وهِيَ صائِمَةٌ، فَدَعا رَسولُ اللّهِ بِطَعامٍ فَقالَ لَها: كُلي! فَقالَت: أنَا صائِمَةٌ يا رَسولَ اللّهِ! فَقالَ: كَيفَ تَكونينَ صائِمَةً وقَد سَبَبتِ جارِيَتَكِ؟! إنَّ الصَّومَ لَيسَ مِنَ الطَّعامِ وَالشَّرابِ، وإنَّما جَعَلَ اللّهُ ذلِكَ حِجاباً عَن سِواهُما مِنَ الفَواحِشِ مِنَ الفِعلِ وَالقَولِ يُفطِرُ الصّائِمَ. ما أقَلَّ الصُّوّامَ وأكثَرَ الجُوّاعَ!» [15] .
وروي عن رسول اللّه أنه قال: «مَن لَم يَدَع قَولَ الزّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهلَ، فَلَيسَ للّه حاجَةٌ أن يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ» [16] .
فالمطلوب من الصائم ليس فقط الامتناع عن الأكل والشرب والجماع وبقية المفطرات العشرة؛ وإنما أيضاً اجتناب كافة المعاصي والمحرمات حتى ينال الصائم ثواب وأجر وبركات الصوم.
الصوم وتثبيت الإخلاص
من فوائد وحكم الصيام أيضاً: تنمية الإخلاص في شخصية المؤمن، وقد أشارت السيدة فاطمة الزهراء إلى ذلك بقولها: «فَرَضَ اللَّهُ الصِّيامَ تَثبِيتاً لِلإخلاصِ» [17] فالصوم إنما يكون بإرادة الإنسان واختياره، فهو يمتنع عن جميع المفطرات في السر والعلن لله تعالى، مما يقوي ويثبت روح الإخلاص في نفس الإنسان؛ إذ بالإمكان أن يتظاهر الإنسان بالصوم أمام الناس ويفطر في الخلوات.
فالصوم من أفضل الوسائل في تقوية وتثبيت الإخلاص لله سبحانه، ولذا ورد في الحديث القدسي المروي عن رسول اللَّهِ: «قالَ اللَّهُ تباركَ وتعالى: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ هُو لَهُ، غَيرَ الصِّيامِ هُو لي وأنا أجزِي بهِ» [18] .
وروي عن الإمام الصّادق: «إنَّ اللَّهَ تبارَكَ وتعالى يقولُ: الصَّومُ لِي وأنا أجزِي علَيهِ» [19] .
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على المكانة الرفيعة والمنزلة العالية لعبادة الصوم في منظومة التشريعات الإسلامية.
التسامح عن الأخطاء
التسامح عن أخطاء الآخرين وزلاتهم والعفو عن هفواتهم أمر مطلوب في كل وقت وحين، ولكنه في شهر رمضان أكثر تأكيداً، فعلى الصائم في شهر مضان المبارك أن يكون متسامحاً مع أرحامه وأقاربه وأصدقائه ومعارفه وعموم الناس فيعفو ويصفح ويغفر، وحتى لو سبّك شخص فلا ترد عليه بالمثل، بل ردّ عليه بقولك: اللهم إنّي صائِمٌ، ويشهد على ذلك جملة من الروايات، ومنها: ما روي عن رسول الله أنه قال: «ما مِن عَبدٍ يُصبِحُ صائِما فَيُشتَمُ فَيَقولُ: إنّي صائِمٌ سَلامٌ عَلَيكَ، إلّا قالَ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى لِمَلائِكَتِهِ: استَجارَ عَبدي بِالصَّومِ مِن عَبدي، أجيروهُ مِن ناري، وأدخِلوهُ جَنَّتي» [20] .
وروي عنه أنه قال: «ما مِن عَبدٍ صالِحٍ يُشتَمُ فَيَقولُ: إنّي صائِمٌ سَلامٌ عَلَيكَ لا أشتِمُكَ كَما شَتَمتَني، إلّا قالَ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى: استَجارَ عَبدي بِالصَّومِ مِن شَرِّ عَبدي، فَقَد أجَرتُهُ مِنَ النّارِ» [21] .
وروي عنه أنه قال: «إنَّ الصِّيامَ لَيسَ مِنَ الأَكلِ وَالشُّربِ فَقَط؛ إنَّمَا الصِّيامُ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، فَإِن سابَّكَ أحَدٌ أو جَهِلَ عَلَيكَ فَقُل: إنّي صائِمٌ» [22] .
ومن صور التسامح أيضاً: أن ينزع الصائم ما في قلبه من ضغائن وأحقاد بحق إخوانه المؤمنين، لما روي عن الإمام الرضا أنه قال: «ولا في قَلبِكَ حِقداً عَلى مُؤمِنٍ إلّا نَزَعتَهُ» [23] .
إن شهر رمضان المبارك فرصة سانحة للتسامح مع الآخرين، والتواصل معهم، والانفتاح عليهم، والصفح عن زلاتهم وهفواتهم وأخطائهم؛ فكما قد يخطئ بحقك بعض الناس إما عن جهل أو غضب أو سوء خلق أو سوء فهم، فقد تخطئ أنت أيضاً بحقهم، فكن مبادراً في التسامح، فالمتسامح محسن وكريم، ويعبر عن طيب النفس، وصفاء الروح، وطهارة القلب.