آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

قصة قصيرة

قوارير جارحة

عبد الباري الدخيل *

1 - Tarot

في مدينة «برايتون» على ساحل بحر المانش في بريطانيا كان هناك كشك كتب عليه «Tarot»، أخذها الفضول أن تستكشف سرّ هذا الاسم الذي شابه اسم بلدتها تاروت.

وجدتْ داخل الكشك عرّافة تقرأ الطالع بالورق، أشارت إليها بالجلوس وبسطتْ ورقها وتأملته في صمت، ثم أمسكت بيدها وقالت: عيناك صافيتان كسماء بلد شرقي راقصها الصيف، ثم ضغطت عليها وحدّقت في وجهها وتابعت: على قلبك غبار معارك أفلت شمسها، وذهب وهجها، وهناك أثر جرح كسنام قبر.. وتركت يدها، وواصلت: لقد باح لي الورق بسرّك.. ودمعك المسكوب يكشف طالعك.. يا سيّدتي: العفو يطبب الجراح.

2 - حديث الطفولة

أدخلها حديث العرّافة في نفق الذكريات، ومشت خطوات إلى الوراء حيث الطفولة.

كنتُ في الثامنة عندما أحببتُ حسن، ابن صديقة أمي، كان ولداً حركياً يصعد شجرة اللوز «القضب» ليجلب لي ثمره، ويجمع لي التوت، ويحميني من القطط التي أخافها.

وفي المرحلة المتوسطة أحببت علاء، شقيق زميلتي رقية، كان شابّاً أنيقاً، يهتم كثيراً بهندامه وشعره، كانت السماء تتحول حين أراه للون الوردي، وتمطر الريحان، وكان يساعدنا في المذاكرة أحياناً؛ لأنه يسبقنا بسنتين أو ثلاث، فكنت أغتنم كلّ فرصة لأملأ سلالي من النظر إليه، حتى أنني كتبت على طاولة الصف أول حرف من اسمينا باللغة الانجليزية AF بطريقة فنية.

في المرحلة الثانوية وبالتحديد قبل امتحانات النصف الأول من الصف الثالث جلست أرتاح من تعب المذاكرة، كان البيت فارغاً؛ لأنني لم أذهب مع العائلة تلك الليلة لبيت جدّي، رنّ الهاتف ولم أسمع من الطرف الآخر أيّ صوت فأغلقت السماعة، وفي الاتصال التالي سألني: وين نجاح؟

فأحببت أن أحرجه فقلت: نعم.

قال: وينها؟

قلت: معاك.

فأنهى المكالمة.

ثم عاد واتصل وعدت للحديث معه حبّاً في الترفيه وتغيير جو المذاكرة، إلّا أنّ الحديث طال وتشعّب واستمرّ حتى نهاية العام، ولم ننقطع إلّا بسبب سفرنا إلى سوريا في إجازة الصيف، ثم سفري للرياض لإكمال دراستي.

3 - اليابان

قبل تخرجي بسنة كانت المفاجأة تنتظرني عند عودتي من الجامعة، فقد استدعتني أمي وأخبرتني أنّ شابّاً كان يدرس في اليابان تقدّم لخطبتي.

قلت لها: من دبّر أمر الخطبة؟ أختي أم جلال؟

قالت: نعم، فهو شقيق زوج جارتها.

المفاجأة ليست في الخطبة بل في اليابان، وبالذات بعد أن أخبرني أننا سنقضي أسبوع العسل هناك.

ولم أصدّقه حتى وطئت قدماي أرض مطار «طوكيو».

اختار لزواجنا وسفرنا نهاية شهر مارس حيث تتفتّح في اليابان زهرة «ساكورا» وتعرف بزهرة الكرز.

وصدق فيما قال عن جمالها، فكلّ الحدائق والشوارع تتزين بهذه الزهرة الجميلة.

في «طوكيو» زرنا حدائق «هاماريكيو» وكانت ال «ساكورا» سيّدة المسرح، بل طوال الطريق الذي طويناه مشياً من «غينزا» إلى الحدائق كانت هذه الزهرة تطلّ علينا مبتسمة فتشرح صدورنا وتبهجنا.

4 - هاماريكيو

بقينا في «طوكيو» يومين، أحدهما قضيناه في التسوق في «غينزا» التي تحتوي على عدد كبير من المحلات التجارية، وبها شارع يغلق يوم الأحد، ليكون للمتسوقين فقط.

في اليوم التالي زرنا حدائق «هاماريكيو» واستمتعنا بالجو اللطيف ومحتوياتها الجميلة، فهي تجمع بين الماء والخضرة والتاريخ، وبها شجرة صنوبر يصل عمرها إلى أكثر من 300 سنة، ومبانٍ تاريخية، وتضم ألف نوع من النباتات بما فيها 60 نوعًا من زهرة الفاوانيا، وهناك بركة «شيويري» التي تقع في قلب الحديقة، ويغذيها خليج «طوكيو» بمياه البحر.

وقد خرجنا منها بعد أن أدينا صلاة الظهرين، متجهين إلى «أساكوسا» عبر الباص المائي الذي مرَّ بسوق الأسماك الأشهر عالميًا الذي تمنيت زيارته لكن الوقت لم يسعفنا.

5 - أساكوسا

وصلنا إلى «أساكوسا» وتوجهنا مباشرة إلى معبد «سينسوجي»، وقد مشينا في الطريق المزدحم بالناس والمؤدي إليه بين المتاجر والأكشاك التي اصطفت على جانبي الطريق، تبيع المنتجات اليابانية التقليدية القديمة، وقد لفت انتباهي وجود مجموعة متنوعة من عيدان الطعام التي يسمونها «هاشي»، والمراوح اليدوية القابلة للطي المعروفة ب «سَنسو» بأشكال مختلفة وألوان زاهية، فلم أفوت فرصة شراء عدد منها هدايا أتحف بها أهلي وأحبّتي، وقد أوقفني الجوع عند بائع حلويات لكنّ زوجي أخبرني أنّهم هنا يضعون شحم الخنزير في المخبوزات،

وأخذني إلى بائع يشوي «أبو فروة/ الكستناء» فجلست في الحديقة القريبة من بحيرة تحتوي على أنواع ملونة من الأسماك أمتع عيني بالنظر إليها وأنا ألتهم الكستناء اللذيذ.

في المعبد رأيت بعض أتباع ديانة «الشنتو» يرمون النقود المعدنية، وينحنون ملصقين أيديهم أمام صدورهم وكأنهم يدعون بعد التصدق.

وقد حصل موقف لن أنساه ما حييت، فقد اغتنمت الفرصة وأخرجت جوالي استعداداً لالتقاط صور تذكارية، فسمعت سيدة من خلفي تتكلم وتشير إليَّ، فوجهت الجوال لها فارتفع صوتها، فجاء زوجي وأمسك بيدي وأنزلها، وقال: إنّها تقول لكِ: ممنوع التصوير، قلت له محرجة: ظننت أنّها تريد التقط صورة لها.

بعد خروجنا من المعبد مررنا بمحلات تبيع الملابس اليابانية التقليدية التي تسمى «كيمونو» وتعني الملابس، ولها اسم آخر لها «وافوكو»، أي الملابس اليابانية التقليدية.

عشت أكثر من نصف ساعة في حيرة بين أنواعها وألوانها الجميلة، فهناك أنواع من ال «كيمونو» خاصة لكلّ مناسبة، تختلف في مظهرها، والنقوش التي تزينها، ونوع القماش واللون.

ثم عدنا عبر مترو الأنفاق متجهين إلى «روبنقي» المعروفة بوجود المطاعم والأسواق، وقد قررنا تناول ما تعارفنا عليه ب «الغدعشا» أي الغداء وقت العشاء في المطعم الإيراني.

6 - كيوتو

في اليوم التالي سافرنا إلى «كيوتو» التي كانت تعرف ب «عاصمة السلام»؛ لأنّها كانت عاصمة الإمبراطورية حتى عام 1868م، والعاصمة الدينية لوجود أكثر من 2000 معبد فيها، وصلنا قبل انتصاف النهار، واستفدنا من دفء الجوّ لزيارة معلم تاريخي قريب من الفندق، وهو القصر الإمبراطوري الذي يتكون من عدة قصور وحدائق، هنا يمارس الناس الرياضات الصباحية كالمشي واليوغا والجلوس بهدوء تحت الأشجار العملاقة، ثم توجهنا بعده إلى نهر «كامو» لمشاهدة ممرّ السّلاحف الذي يقصده السّواح والمواطنون للانتقال للضفة الأخرى والتقاط صور تذكارية، ويحبّه الأطفال؛ لأنه يشعرهم بالسّعادة، ومن فرط بهجتي تخلّيت عن وقاري وعدت طفلة أركض من حجر إلى آخر، لا أخاف السقوط وزوجي يلتقط لي الصور.

في اليوم التالي كان موعد ذهاب زوجي لزيارة جامعة «كيوتو» حيث درس فيها، ولأنني خفت من الفراغ فضّلت مرافقته، وقد حذرني من جفاف الأجواء، فهي زيارة بروتوكولية، قلت له: أحبّ أن أشاهد المكان الذي درستَ فيه.

جامعة «كيوداي» صرح معماري ضخم وجميل يميزها برج الساعة القريب من شجرة الكافور الضخمة، يقال إنّها ثاني أقدم جامعة في اليابان، حيث أسست عام 1869م، وقد تنقّلنا بين كلّياتها نبحث عن هذا الدكتور وذاك البروفيسور ونسلّم عليهم.

في المقهى وقد جلسنا نستريح هجمت علينا فتاة يابانية وهتفت باسم زوجي واحتنضته وسط دهشتي وإحراجه، وقد انتبهت لوجودي متأخراً، فقال: زوجتي فاطمة، وأشار إليها: يووكي زميلتي في الدراسة.

فأمسكت بيده والتصقت به وسددت لها ابتسامة صفراء وأنا أقول: أوهايو يووكي، فقالت: أوهايو.

ثم تحدثا باللغة اليابانية، وغادرنا جميعاً نحن للفندق، وهي إلى جهنم.

أحسست بالغثيان كأنّي تناولت وجبة غداء فاسدة، واسودّت الدنيا في وجهي، وأغلقت السماء أبوابها، واشتعلت نار الغيرة، وهطلت الأسئلة تغرق قلبي، ولم يقنعني ما ترجمه لي من حديثها.

لم أستطع الإمساك بالنوم، وإن حاولت الهروب من مشهد العناق الآثم، حاصرني أنين الوسادة الذي رقّع ثوب ليلي بالوجع، وعقلي مستباح للأفكار السيئة أحاول ترويضها لكنها متمرّدة، لذا لم أشاركه الإفطار، بل لم أفتح فمي لأردّ تحيته عندما عاد.

حاول فتح موضوع معي بعد أن قابلته بالصّدود منذ عدنا من الجامعة.

قال: هل تذكرين «أبو حسين» الشاب الذي قابلناه بالأمس وقال إنه جاء لليابان لحضور زواج صديقه الياباني، رأيته اليوم مع زميله «أبو سارة» وقد شكراني على المقترح الذي قدّمته لهما أمس لزيارة مدينة «نارا» فقد أعجبا بها كثيراً، كما ستعجبين بها أيضاً يا عزيزتي.

7 - نارا

وفي «نارا» عاصمة الإمبراطورية القديمة حاولتُ أن أقشع غيوم الألم، وأن أنسى ما حدث في الجامعة، وأن أستمتع بهذا الجمال لكنني لم أستطع، فقد هاجمتني ذئاب الوحدة حتى شعرت كأني قطرة ماء في صحراء الربع الخالي.

حتى عندما سألته عن سبب قصّ قرون الغزلان الطليقة في الحدائق اكتفيت بجواب قصير منه: ”فيما مضى طعن غزال رجلًا بقرونه فقرّروا قصها“ وتركته ومشيتُ أشغل نفسي بإطعام الغزلان.

وعند تمثال بوذا الضخم الذي يعرف ب «Big Buddha» جلست أقيس بين ضخامته التي قد تصل إلى دورين ارتفاعًا وضخامة خيبتي.

لهذا انتهت الرحلة بصمت كما بدأت.

8 - حديث الجراح

في اليوم التالي، وهو الأخير لبقائنا في اليابان، كنّا في طوكيو، وكان في برنامجنا زيارة جبل «فوجي»، لكنّ الأمطار الغزيرة ونفسي المنكسرة، وصدودي عنه سبّبا إلغاء الرحلة.

وقد عرض عليّ أن نخرج لتناول العشاء فلم أستجب لدعوته، حين ذاك سألني: ما بكِ؟

قلت وقد تكسّرت الكلمات في فمي: عندما أحببتك أصبحتُ امرأة لها قلب كالنّهر يتدفّق بالمشاعر، كانت كلماتك تلامس قلبي فتنبت حدائق الياسمين.

حدق فيَّ مندهشاً فأكملت: هل يرضيك أن أقابل حبيبي السابق وأصافحه كأنك غير موجود؟

قال: ليس الموضوع كما تتصورين.

قلت والنار تستعر في قلبي: بل هو كما أعتقد، لقد كنتَ مصرًّا على عدم ذهابي للجامعة؛ لأنك واعدتها أن تلتقي بها هناك، لقد أحسست بذلك.

قال: لقد كانت صدفة!

حاولت إخفاء ارتباكي وقلت: نعم صدفة.. وقهقهتُ.. بل إنّها صدفة مدبّرة..

ثم أسكتُّ أصوات الضجيج في رأسي وأكملتُ بحزم: إياكَ أن تكسرني فإنّ القوارير تجرح إن كسرت.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ابو محمد
[ صفوى ]: 14 / 4 / 2021م - 2:58 م
انتقال سربع ورائع قصة قصيرة مليئة بالمعلومات مليئة بالمشاعر يا ليتها طالت اتمنى يكون في جزء ثاني.