آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:20 ص

عمر الإمام المهدي هل هو قضية طبيعية أم إعجازية؟

علي محمد عساكر *

تثار حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الكثير من التساؤلات، منها التساؤل حول إمكان أن يعيش هذا العمر الطويل الذي وصل الآن إلى «1186» سنة دون أن تؤثر فيه العوامل الطبيعة من مرض وشيخوخة وموت؟!

وقد تمت إجابة هذا السؤال بوجوه كثيرة، وأدلة وفيرة، منها - على سبيل المثال وليس الحصر - الدليل المنطقي، الذي يثبت أن إمكان أن يعيش الإنسان عمرا طويلا لا يلزم منه أي محذور عقلي. والدليل العلمي، المتمثل في ما توصل إليه العلم الحديث من إمكان أن يعمر الإنسان عمرا طويلا تحت شروط أو ضوابط معينة، مما يترتب على هذين الدليلين «المنطقي والعلمي» أن حياة الإمام المهدي هذا العمر الطويل هي ممكنة عقليا وعلميا، وإن كانت - إلى الآن - غير ممكنة عمليا.

وإضافة إلى ذلك فهناك الدليل العقائدي، المتمثل في الاعتقاد بالقدرة المطلقة لله تعالى، التي لن يعجزها حفظ حياة الإمام كل هذا العمر دون أن تؤثر فيه الحوادث، حتى ولو فرضنا أن هذا مخالف لنظام الطبيعة التي تقضي بالشيخوخة والمرض والموت... فإن في قدرته تعالى تعطيل هذا القانون - في حال فرضنا صرامته - وإلا لكان سبحانه عاجزا عن ذلك، مع ملاحظة أن هذا القانون ليس صارما كما ثبت علميا، وإنما كلامنا هنا فقط على سبيل الفرض لا أكثر.

وأيضا هناك الدليل التاريخي المتمثل في الاستشهاد بالمعمرين عبر التاريخ، مما يعني أن قضية طول عمر الإمام المهدي ليست بدعا في التاريخ.

وبعد كل هذا وقبله فهناك الدليل الإسلامي المتمثل في الروايات والأحاديث المتنوعة المتعلقة بالإمام المهدي، التي يُعد الكثير منها محل اتفاق الفريقين، كأحاديث الأئمة الاثني عشر، وأحاديث الثقلين، وأحاديث عدم خلو الأرض من حجة، وأحاديث وجوب معرفة الإمام... وغيرها من الأحاديث التي بعضها مدون في مصادر سابقة على ولادة الإمام المهدي، كما هو الحال في أحاديث الخلفاء الاثني عشر، الموجودة في صحيح البخاري، الذي هو قبل ولادة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، لأن مؤلف هذا الصحيح «وهو محمد بن إسماعيل البخاري» كان معاصرا للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري، حيث أنه ولد في «13 شوال سنة 194 هـ » وكانت وفاته بتاريخ «1 شوال سنة 256 هـ » أي بعد ولادة الإمام المهدي بشهر ونصف لا أكثر، حيث أن ولادة الإمام المهدي كانت بتاريخ «15 شعبان سنة 255 هـ » وهذا مهم جدا في الإثبات لأنه - كما يقول الشهيد الصدر رضوان الله عليه -: «يبرهن على أن هذا الحديث قد سجل عن النبي ﷺ قبل أن يتحقق مضمونه، وتكتمل فكرة الأئمة الإثني عشر فعلاً.

وهذا يعني أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الإثني عشري، وانعكاساً له، لأن الأحاديث المزيّفة التي تنسب إلى النبي ﷺ، وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً، لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له.

فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أن الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الأثني عشر، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الإثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أن هذا الحديث ليس انعكاسا لواقع، وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى، فقال: إن الخلفاء بعدي أثني عشر.

وجاء الواقع الإمامي الإثني عشري ابتداءً من الإمام علي وانتهاء بالمهدي، ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف» انتهى كلام السيد الصدر. وبسط الحديث في هذه الأدلة - عرضا واستدلالا - يدعو إلى الإطالة كثيرا، وهو ما لا أريده في هذا الموضوع بعد أن قمت ببسطها وشرحها في كتابي المخطوط «الإمام المهدي في سين جيم» وإنما كل ما أريد التأكيد عليه في هذا الموضوع، هو بيان أن قضية عمر الإمام المهدي قضية طبيعية جدا، وليست قائمة على الإعجاز، وليس فيها أي خرق لقانون طبيعي، كما لا يصح أن تثير أي استغراب لدى المؤمنين بالله عز وجل.

وهذا ما حاولت بيانه وإثباته في كتابي المذكور، حيث قلت: «نحن نعلم أن النظام الكوني قائم على الأسباب والمسببات، فلابدّ لكل معلول من علّة يقوم بها ويزول بزوالها، وكلما تقدم العلم التجريبي كلما تعمّق العلماء في كشف الروابط الموجودة بين الظواهر الكونية بشتى أنواعها.

ولكن الذي يجب أن نعلمه أيضاً هو أن قانون العلّية - الذي يعني وجود الرابطة بين العلّة والمعلول - إنما هو من وضع خالق الطبيعة وموجدها، إذ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ» و«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ وهو سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ إذن فقانون السبيبة ما هو إلاّ من وضع الله وصنعه، إذ أنه عز وجل أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، فجعل لكل شيء سبباً، وهو سبحانه وتعالى سبب الأسباب، إذ أن جميع الأسباب منتهية إليه، عاملة بأمره، غير مستقلّة في التأثير عنه، بل ما هي إلاّ جندي من جنوده الخاضعين لأمره، العاملين بإرادته ﴿ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ.

وكما يقول الشيخ جعفر السبحاني: «فلو كانت الملائكة جنوداً لله تبارك وتعالى كما يقول سبحانه: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا فالأسباب العادية - التي تعتمد عليها الحياة الجسمائية للإنسان - جنوده سبحانه في عالم المادة، ومظاهر إرادته ومشيئته. وهذا ليس بمعنى تفويض النظام لهذه الظواهر المادية، والقول بتأصلها في التأثير، واستقلالها في العمل، بل الكل متدلّ بوجوده سبحانه، قائم به، تابع لمشيئته وإرادته وأمره» انتهى كلام السبحاني.

وكما أن في قدرته سبحانه وتعالى أن يوجد كل شيء - لو أراد - بدون سبب إذ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ كذلك في قدرته سبحانه وتعالى أن يخرق هذه القوانين الطبيعية التي هي من جعله متى شاء، ويستحيل لها أن تهزم مشيئته أو تغلب إرادته جل وعلا، وإلا لزم من ذلك العجز، وترتب عليه أن لا يكون إلها، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. والقرآن الكريم يحدثنا عن قضايا كثيرة خرق الله فيها القوانين الطبيعية، وتوصّل جل وعلا إلى ما يريد بقدرته المطلقة التي لا يحدها ولا يعجزها شيء تريده، ومن أمثلة ذلك أن وهب سبحانه وتعالى لزكريا وزوجته ابنهما يحيى بعد أن وهن العظم من زكريا، واشتعل الرأس منه شيبا، وبلغ من الكبر عتيّا، كما أن زوجته كانت عاقراً قبل أن تشيخ وتشيب، كما وهب سبحانه وتعالى لمريم عيسى من غير أن يمسسها بشر، وأسرى بنبيه المصطفى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه إلى السموات العلى، ثم أعاده إلى مكة في أقلّ من ليلة، وحفظ خليله إبراهيم من النار وجعلها عليه برداً وسلاما... وأمثال هذه الخوارق مما حدثنا به القرآن الكريم أكثر من أن نحصيها في هذه العجالة، وكلها مما آمن به وأذعن له جميع المسلمين، وإلاّ لأدى بهم الشك فيها إلى تكذيب القرآن العزيز، وعدم تصديق النبي فيما أخبر به عن ربه سبحانه وتعالى.

وعلى هذا الأساس نقول: حتى لو فرضنا صرامة القانون الطبيعي، وأنه يقضي باستحالة أن يطول العمر، وتمتدّ الحياة بالإنسان إلى قرون طويلة، فلا يتعارض هذا مع عقيدتنا بحياة الإمام المهدي، إذ لنا أن نقول: إن الله خرق هذا القانون وعطّله، وحفظ حياة الإمام المهدي، وأطال عمره بقدرته المطلقة التي لا يعجزها شيء تريده أبدا.

بل في القرآن الكريم ما يؤكّد لنا أن موت الإنسان - أعني أي إنسان - ليس خاضعاً للأسباب الطبيعية فقط، وإنما هو خاضع للتقدير الإلهي أولا وقبل كل شيء، فمتى ما قدّر الله عز وجل الموت على ذلك الإنسان مات حتى ولو كان في مهده، أو صباه، أو شبابه... وكان متمتعا بكامل قواه وصحته، ومتى ما أراد الله عز وجل حفظ حياة ذلك الإنسان حفظه، ولم تؤثر فيه الأسباب الطبيعية شيئاً، حتى ولو كان شيخا بلغ من الكبر عتيا، أو كان مصابا بأخبث الأمراض وأخطرها، أو وقع عليه الكثير من الحوادث الدنيوية... فكل ذلك لن يجعله يموت قبل أن يصل إلى العمر المقدر له من الله عز وجل.

وهذا ما يشير إليه قوله تبارك وتعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ وليتضح لنا هذا المعنى ويكون جليّا، نذكر ما يقوله السيد الطباطبائي عند تفسير هذه الآية الكريمة، فقد قال: «تدبير أمر الخلق - بجميع شؤونه وخصوصياته - من لوازم الخلق، بمعنى إفاضة الوجود. فوجود الإنسان المحدود بأوّل كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصياته التي تتحول عليه بتقدير من خالقه عز وجل، فموته أيضاً - كحياته - بتقدير منه، وليس يعتريه الموت لنقص من قدرة خالقه أن يخلقه بحيث لا يعتريه الموت، أو من جهة أسباب وعوامل تؤثر فيه بالموت فتبطل الحياة التي أفاضها عليه خالقه تعالى، فإن لازم ذلك أن تكون قدرته تعالى محدودة ناقصة، وأن يعجزه بعض الأسباب، وتغلب إرادته، وهو محال، كيف؟! والقدرة مطلقة، والإرادة غير مغلوبة؟! ويتبين بذلك أن المراد بقوله: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أن الموت حق مقدّر، وليس أمراً يقتضيه ويستلزمه نحو وجود الحي، بل هو تعالى قدّر له وجوداً كذا ثم موتاً يعقبه.

وأن المراد بقوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ - والسبق هو الغلبة، والمسبوق هو المغلوب - ولسنا مغلوبين في عروض الموت عن الأسباب المقارنة له، بأن نفيض عليكم حياة نريد أن يدوم ذلك عليكم، فتسبقنا الأسباب وتغلبنا، فتبطل بالموت الحياة التي كنا نريد دوامها» انتهى كلام السيد الطباطبائي.

بل إن الموت ذاته مخلوق، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ وكان في قدرته عز وجل أن يخلق حياة بلا موت، وبالتالي لن يموت أحد أبدا وعلى الإطلاق. وبهذا نفهم أن عمر الإنسان ليس خاضعاً للقوانين والأسباب الطبيعية فقط، بمعنى أنه يعيش عمراً معيناً - كخمسين أو تسعين سنة - ثم تقضي عليه تلك الأسباب - مستقلة - بالموت، وإنما هو خاضع للتّقدير الإلهي، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُقدّر عمر الإنسان، ويعطيه من السنين ما يشاء قلّت أو كثرت، فقد يعطي سبحانه وتعالى «زيداً» من العمر سنة، ويعطي «عمراً» مائة سنة، ويعطي «بكراً» ألف سنة، ويعطي غيرهم ما هو أقل أو أكثر من ذلك بكثير ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ فيقضي الله عليهم بالموت كيفما شاء، وبأي سبب أراد سبحانه وتعالى.

وعلى ضوء هذه الحقيقة - التي استفدناها من القرآن الكريم - نفهم أنه حينما يطول عمر الإنسان - أي إنسان - فليس في ذلك أي خرق للأسباب الطبيعية، أو تعطيل لقوانينها، ذلك أن الموت والحياة غير خاضعين لهذه الأسباب، وإنما هما خاضعان للتقدير الإلهي، فكل إنسان لابدّ أن يعيش ما قدّر الله له من العمر طال أو قصر، ثم يتوفّاه الله إليه عن طريق ملائكته الذين أوكل إليهم قبض الأرواح.

ونخلص من كل ما تقدم إلى أن هذا العمر الطويل للإمام المهدي هو أمر طبيعي جداً، وليس فيه خرق للنواميس الطبيعية، وكل القضية هي: أن الله تعالى قدّر للمهدي عمراً طويلاً جداً، يخالف ما ألفناه واعتدتنا عليه، وبما أنه سبحانه قدّر له هذا العمر الطويل، وهو قادر على أن يفعله به، فلا توجد مشكلة من الناحية العقائدية في الاعتقاد ببقائه حيّا كلّ هذه السنين.