ملامح الفقه السياسي في الإسلام
إن من الظواهر الثابتة واللازمة لكل وجود اجتماعي وإنساني، هي ظاهرة السلطة والدولة، إذ هي من مميزات الواقع الاجتماعي الإنساني.
إذ لا نجد كتلة بشرية ما، إلا وللسلطة «بمعناها العام»، دور في تسيير شؤون هذه الكتلة البشرية وتنسيق الجهود بين القوى المختلفة. ويشير إلى هذه الحقيقة الشهيد الصدر بقوله: ”إن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة، في حياة الإنسان، وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء،، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم، في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه، من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال في تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل، يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح“[1] .
والسلطة هنا ليست بمعنى التسلط القهري وهيمنة فئة اجتماعية على بقية المجتمع وكفاءاته، وإنما هي بمعنى تلك الصياغة المنظمة، لشؤون المجتمع، في حقوله المختلفة، ساعية بذلك إلى رفع المستوى الحضاري والأداء الإنساني للمجتمع، فهي قوة لتحريك المجتمع وتفعيله نحو البناء والتطور والتقدم، لا قوة كابحة لطاقاته وكفاءته، فدورها هو دور تقنين مسيرة المجتمع حتى لا يكون التصادم والصراع السلبي المدمر، لبنى المجتمع وركائزه، لذلك فهي: ”تمثل الأثر التابع لقدرة الإنسان على صنع الحياة وترتيب أوضاعها. ولا ريب أن الترتيب، إنما يتبع قدرة الإنسان على امتلاك زمام الأمور في أي تركيب، وعلى أية هيئة، ونعني بذلك إخضاع حياة الإنسان إلى تقنين منضبط، تحكمه الإرادة صاحبة التوجيه المدرك لمفاهيم الضبط القانوني“[2] .
والنظرية السياسية أو الفقه السياسي الإسلامي، يشكل ركيزة أساسية في البناء التشريعي الإسلامي، إذ يتوقف تطبيق الكثير من المفردات والأحكام على وجود السلطة والحكم الإسلامي، كما أن الإسلام، لم يأت لكي يكون في صدور أصحابه ومعتنقيه فقط. وإنما جاء في إطار إنقاذ الإنسانية وتحقيق تطلعاتها، والعمل على إنهاء المشكلات التي تعترض حياة الإنسان. ولهذا نجد أن في الإسلام كإطار تشريعي، مناهج وأطر، استيعاب متغيرات الحياة وتطوراتها. وبالتالي فإن للظروف «الشخص والواقعة»، وتبدل الأحوال وتغيرها دور في طبيعة الحكم الشرعي. وبهذا فإن الإسلام بمثابة الشعلة التي لا تنطفئ، والمعين الذي لا ينضب، الذي يمد البشرية باستمرار وفي مختلف مراحلها، بأحكامه وقوانينه ومواقفه من القضايا الجديدة، وهذا سر خلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان.
إضافة إلى هذا فإن للإسلام اختيارات وتطلعات كبرى «كالحرية والمساواة والعدالة والسلام»، لا يمكن أن تتحقق في الواقع الإنساني، بدون وجود سلطة سياسية نموذجية، تدافع عن الإنسان وتطلعاته، وتكافح لتحقيق تطلعات الإسلام الكبرى في الواقع الخارجي.
وتأسيسا على هذا، فان العملية السياسية الإسلامية ليست منفصلة عن مفهوم العبادة العام. بل تعتبر الحركة السياسية والفعل السياسي الذي يقوم به الإنسان المسلم، جزء من العبادة، التي يتقرب بها المؤمن إلى الله عز وجل. وبهذا يحدث الانسجام التام والتناغم المطلق بين مفردات التشريع الإسلامي كله. ويشكل بناء رصينا لا خواء ولا ثغرات فيه. ومن هنا فإن التمييز الحضاري بين أمة وأخرى، ينعكس على جميع المستويات والمرافق، كما أن حياة الإنسان الفرد أو المجتمع تختلف حضاريا من أمة إلى أخرى، في عملها، ونشاطها، وعلاقاتها الداخلية، وأعمالها التجارية والاقتصادية، ونظرتها إلى الذات والآخر.
وبكلمة أن كل كيان حضاري يتميز عن نظيره، في مجموعة من الصفات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
والسلوك السياسي أحد المجالات المهمة التي ينعكس فيها التمايز الحضاري بين أمة وأخرى، إذ أنه أحد الأطر الخارجية، التي تتعامل بها الأمة مع غيرها من الأمم وتعكس فيه فلسفتها للكون، ورؤيتها إلى الحياة والوجود.
وفي هذا الإطار نسأل: ما هي ملامح الفقه السياسي في الإسلام؟
أولاً: - الرسالة:
إن الطليعة المؤمنة الملتزمة بالتشريع الإسلامي، ومثله، حينما تدخل المعترك السياسي، لا بد أن تستقي إستراتيجياتها وخططها وبرامجها السياسي من قيم الحق والرسالة والمبادئ التي تحملها هذه الطليعة، لا من الظروف والواقع الخارجي. بالطبع إن الواقع الخارجي يؤثر في طبيعة الخطط والبرامج ولكنه تأثير إيجابي، يدفع بالطليعة باتجاه الاحتفاظ بالقيم والتسلح بالمبادئ، لتحقيق هذه القيم والمبادئ على الواقع الخارجي.
كما أنه لا ينبغي أن يحوّل السياسي الإسلامي موقفه ومبادئه، من أجل حفنة من المال، أو من أجل المنصب، كما فعل «فوست» الذي باع روحه لـ «ستوفاليس» مقابل الترف والبذخ، كما جاء في الأسطورة اليونانية. ومن هنا نجد التوجيهات الإسلامية تصف المؤمن بأنه أشد من الجبل، ليس في شكله أو ظاهره، وإنما في محافظته على قيمه وإصراره في حركته على تبني القيم التي يؤمن بها. ولقد جاء في الحديث الشريف: ”المؤمن أصلب من الجبل، فالجبل يستقل منه، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء“[3] .
فالنشاط السياسي وتداعياته وآثاره لن تغير علاقة المؤمن بعقيدته ومنطلقاته الثقافية لأن:
”المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغيّر قلبه“[4] ..
فالحق هو الأساس، الذي يقوم عليه الفقه السياسي الإسلامي، فانطلاقا منه، تقوم العلاقات، وتبنى المعاملات، وتتخذ المواقف، وليس المصالح الشخصية، أو الميول العاطفية، ولا الانتماءات القبلية والإقليمية والقومية والفئوية والحزبية. فقط هو الحق الذي يحدد السلوك السياسي لدى المسلم. ويذكر لنا التاريخ أن الرسول ﷺ قد أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال لهم رجل منهم اسمه «بحيرة بن فراس» والله لو إني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك، فقال الرسول ﷺ الأمر لله يضعه حيث يشاء.
فالملمح الأول من ملامح التشريع السياسي الإسلامي، الرسالية، بمعنى أن القيم والمثل العليا هي مادة القوانين السياسية الإسلامية.
واستطرادا نقول إن «الرسالية» ليست فقط في القانون والتشريع، بل تتعدى ذلك إلى العمل السياسي الإسلامي. وتتضح مفردات الرسالية في العمل السياسي الإسلامي من نقطة جوهرية مفادها أن السياسة كحركة وممارسة لا تتعدى الفنون التالية:
أ - فن الممكن: لا شك أن الطليعة الملتزمة بالإسلام فكرا وحركة، تريد تغيير الواقع إلى الأحسن والأفضل، وتحمل الطموحات العالية، والتطلعات البعيدة، وتسعى جاهدة لتحقيقها. إلا أنه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكنها أن تحقق طموحاتها وتطلعاتها دفعة واحدة وفي حقبة زمنية وجيزة. وإنما هي تجاهد وتعمل وتسعى لتحقيق خطوات وإنجازات ومكاسب تقربها إلى أهدافها البعيدة وتطلعاتها القصوى، والعمل السياسي الذي تمارسه الطليعة الإسلامية ينبغي أن لا يخرج عن هذا الفهم الدقيق للسياسة من أنها «فن الممكن». إذ أن أصول السلوك السياسي يقرر، إنه لا يمكن لأية حركة اجتماعية مهما أوتيت من قوة أن تحقق طموحاتها دفعة واحدة.
ونظرة متأنية إلي سيرة الرسول الأعظم ﷺ في جانبها السياسي، نرى بوضوح أن حركة الرسول ﷺ لم تصل إلى أهدافها وتطلعاتها دفعة واحدة، وإنما قامت بتحقيق مجموعة من الإنجازات والمكاسب المرحلية التي أوصلت وقرّبت حركة الرسول ﷺ إلى الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.
ونحاول أن نوضح مجموعة من الأمثلة والنماذج من سيرة الرسول ﷺ حتى ندرك أن النشاط السياسي لا يتعلق في مراحله الأولى إلا بتحقيق الممكن والقريب من اليد دون إغفال التطلعات والأهداف البعيدة.
المثال الأول: حينما رجع رسول الله ﷺ من الطائف إلى مكة، بإجازة المطعم بن عدي، بدأ الرسول ﷺ يقصد القبائل والوافدين إلى مكة، ويعرض عليهم الإسلام، وفي تلك الفترة، قدموا إلى مكة جماعة من بني عفراء فإلتقوا برسول الله ﷺ، فسألهم إلى أي القبائل ينتسبون، فقالوا له من الخزرج، فقال لهم، أمن موالي يهود أنتم، قالوا نعم، بعد ذلك تكلم الرسول ﷺ مع أولئك النفر، ودعاهم إلى الإسلام، فأجابوه فيما دعاهم إليه، وقبلوا منه ما عرضه عليهم من الإسلام، ثم إنصرفوا راجعين بلادهم وهم مؤمنون بكل ما دعاهم إليه وكانوا ستة أنفار.
وفي العام الثاني وفد من الأنصار إلى مكة إثنا عشر رجلا، فإلتقوا النبي ﷺ بالعقبة، وبايعوا الرسول على ما جاء عن عبادة بن الصامت، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه بمعروف، وبعث رسول الله معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.
وفي العام الثالث خرج مصعب بن عمير مع جماعة من المشركين والمسلمين لأداء مناسك الحج، والاجتماع بالنبي ﷺ، ليعرضوا عليه إسلامهم، ويتذاكروا في أمر الدعوة، وإجتمعوا في ذلك العام بالرسول ﷺ وكانوا ثلاثة وسبعون رجلا ومعهم امرأتان وهم «نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء بنت عمر بن عدي» وتكلم فيهم الرسول ﷺ داعيا إلى الله ومرغبا في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبنائكم، فاخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر، وأمرهم رسول الله، أن يختاروا منهم اثني عشر نقيبا، ليمثلوا قومهم ويكونوا هم المسؤولين عنهم تجاه الرسول فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، ولما اجتمعوا للبيعة بعد اختيار النقباء، قال العباس بن عباد بن فضلة الأنصاري، يامعشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل، قالوا نعم، قال انكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس فان كنتم ترون أنكم إذا انهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة، إن فعلتم وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. وبدأ القوم يتسابقون إلى رسول الله لبيعته بقلوب يغمرها الفرح والثقة بالنصر. الملاحظ في بنود العقبة الأولى والثانية يجد فرقا نوعيا في بنود هاتين البيعتين، فالرسول ﷺ في البيعة الأولى أكد على المسائل الأخلاقية والاجتماعية واكتفى بذلك، باعتبارهم حديثي عهد بالإسلام، إلا أنه أرسل إليهم مصعب بن عمير لرفع مستواهم الديني والفكري، حتى يتمكنوا من استيعاب وإدراك حقيقة الإسلام كنظام شامل، وتكون نفوسهم مهيئة للدفاع عن الرسالة والرسول ﷺ. فالرسول الأعظم ﷺ بدأ معهم بالممكن، إلى أن أوصلهم بالتربية وإشاعة الوعي والمعرفة والزمن، إلى المطلوب والمفروض من قبل الإنسان المسلم.
المثال الثاني: تصفية وإنهاء الهيمنة اليهودية عن المدينة المنورة: كانت يثرب في بداية البعثة، تعتبر قلعة من قلاع اليهود في المشرق، وحينما هاجر رسول الله ﷺ مع أصحابه من مكة إليها، ووجد هيمنة اليهود على كل شيء في المدينة، ولضمان سيطرتهم عليها كانوا يغذوا باستمرار الخلافات والنزاعات بين قبيلتي الأوس والخزرج، وكانت آخر معركة خاضها الطرفان «معركة بغاث». والسيطرة اليهودية على يثرب تمنع بالطبع من انتشار الرسالة في ربوع المدينة، لذلك حينما وصل الرسول ﷺ إلى يثرب بدأ بصنع مجموعة من الخطوات، وكانت هدفها النهائي إنهاء السيطرة اليهودية من يثرب وهذه الخطوات كالتالي:
بناء المسجد وجعله محورا ونقطة انطلاق للمجتمع الجديد، وبدأ الرسول ﷺ من منبر المسجد يعرفهم الدين، ويعمق في نفوسهم مفاهيم الإسلام. ففي خطبته الثانية في المسجد، دعا المسلمين إلى التوحيد والتمسك بما عاهدوا الله عليه، فكان المسجد مركزا لصياغة المجتمع من جديد، في أخلاقه، وتعامله، ومواقفه، وما شاكل ذلك.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: كانت يثرب تعيش الاختلافات والفرقة، والنزاعات المتلاحقة التي تقضي على جميع مقومات المجتمع الواحد، وكان الرابح الأكبر من هذه الأجواء يهود المدينة.
ومع مجيء الرسول ﷺ بدأ عهدا جديدا في المدينة، وكانت المؤاخاة التي أعلنها رسول الله بين الأنصار والمهاجرين، قائلا لهم: «تآخوا في الله أخوين» بداية الانطلاق في العهد الجديد، وبهذا العمل استطاع ﷺ أن يشكل مجتمعا موحدا ويدا واحدة، يصعب على الأعداء اختراقه. وكانت لهذه المؤآخاة انعكاساتها العميقة على البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع اليثربي، حيث تمكن ﷺ من خلالها أن يسد الثغرات التي من خلالها، كان اليهود يسيطرون على مجتمع يثرب.
تشريع الآذان والإقامة: ولقد جاء في سيرة بن هشام أن رسول ﷺ حينما قدم المدينة، ورأى اليهود فيها يستعملون بوقا للإعلام عند حضور الوقت المعين لإجتماعاتهم وعبادتهم، عندما رأى ذلك فكر أن يستعمل البوق لإعلام المسلمين بأوقات الصلاة، وأشار عليه بعضهم باستعمال الناقوس لهذه الغاية، وظل المسلمون يتداولون الأمر بينهم، فبعضهم كان يرجح بوق اليهود والبعض الآخر يرجح ناقوس النصارى. وبعد ذلك نزل الآذان على رسول الله، وعلمه عبدالله بن زيد بن ثعلبة وأمر بلالاً فتعلمها وأذن لهما لأنه كان أحسن المسلمين صوتا. وبهذا استطاع المسلمون أن ينهوا أحد مظاهر السيطرة اليهودية على المدينة المنورة.
إصدار الصحيفة «الوثيقة» الدستورية التي تحدد علاقة المسلمين مع بعضهم وعلاقتهم بالأطراف الخارجية، وكان هذا الإعلان بمثابة المسمار الأخير في نعش السيطرة اليهودية على المدينة.
وخلاصة القول: أن العمل السياسي لا يعني التخلي عن المنطلقات الفكرية والالتزامات العقدية، وإنما تبقى ملتزمة بهما، متصلبة إتجاهما، وفي ذات الوقت تتفاعل مع الأحداث وتحاول في صنعها، بما يخدم الأمة والشعب. وذلك إن الحركة «أية حركة» لا تستطيع بين عشية وضحاها، أن تقول كل أفكارها، وتطبق كل عقائدها، وتصل إلى جميع أهدافها، وإنما هي تسعى عن طريق الخطط المرحلية أن تخطو خطوة إلى الأمام تقربها إلى أهدافها النهائية وتطلعاتها البعيدة.
ب - فن الإقناع: كما أن العملية الاقتصادية بحاجة إلى التسويق التجاري، وزرع الرغبة في المستهلك بشتى الوسائل والسبل لإقتناء تلك السلعة أو العمل على ترويجها، وبدون عملية التسويق التجاري، قد لا تقوم قائمة للشركة المنتجة لتلك السلعة. كذلك العملية السياسية فهي بحاجة إلى عملية تسويق سياسي تنقل المشروع والبرنامج السياسي من مستوى النخبة والطليعة، إلى مستوى الجماهير. لذلك لا بد من استعمال تقنيات ووسائل الإقناع والتسويق من أجل إيصال «الأفكار والعقائد والبرامج» إلى المجتمع والعالم وإقناعه بها وإدارة الصراع السياسي مع الأعداء بكفاءة وجدارة، لأن فن الإقناع يتيح القدرة لتوظيف جميع الكفاءات والقدرات في سبيل البرنامج والمشروع السياسي.
ج - فن الإكراه: إن العالم بأسره لا يعيش فراغا في الإرادات، وإنما هو مليء بالإرادات والقوى، التي تريد أن تفرض رأيها ونظرتها في العالم. عالم السياسة لا يشذ عن ذلك بل تتجلى إرادات العالم والقوى فيه بشكل واضح وجلي. من هنا فإن الحركة السياسية أيا كان قصدها ومؤادها ليس بالسهولة فرض مشروعها ورؤيتها على المجتمع أو العالم. وإنما هي لا بد أن تكافح، وتقيم العلاقات، وتتقاطع مصالحها مع الغير، وتعمل وتسعى حتى تستطيع بشكل أو بآخر، أن يكون لإرادتها تأثير في حركة الأحداث السياسية. وعلى ضوء هذا نعتقد أن الدخول في العمل السياسي من قبل الطليعة الملتزمة بالإسلام نهجاً وحركة ليس قرارا إستراتيجيا أو مرحلة ينبغي بلوغها في مسيرة الطليعة فحسب، بل هو مجموعة من المشاريع السياسية المتنوعة والمتداخلة التي بمجموعها تشكل واقعا سياسيا تعتمد عليه الطليعة، وتكره القوى السياسية الأخرى بقبول رأيها وتنفيذ برنامجها، لذلك ينبغي أن يتميز نشاط الطليعة الإسلامية بالتكاملية، وتعدد أسلحة الفعل السياسي، حتى تتمكن من تحقيق مفهوم «الإكراه» في الحركة السياسية.
ففن الإكراه في العمل السياسي، ينطلق من مقولة أو فرضية أساسية ومعيارية في علم السياسية فحواها، إنه كلما تعددت وتنوعت أسلحة الفعل السياسي لدى المؤسسة السياسية «دولة أو معارضة»، كان بمقدور هذه المؤسسة أن توظف قدراتها وإمكاناتها لصالح أهدافها وتطلعاتها. والحركة القوية سياسيا ليست تلك التي تكتفي بالعمل السياسي البسيط، وإنما لا بد لها أن تصنع واقعا سياسيا، يدعم خططها، ويسند تحركاتها، حتى تستطيع بلوغ أهدافها ومراميها. وجماع القول: أن الرسالية في الفقه السياسي الإسلامي، تعني أن مرجعية التشريع السياسي هو القيم والمثل الإسلامية الخالدة، منها فقط نسن القوانين، وعلى هداها نبلور السياسات والمواقف.
ثانياً: العدالة:
إذ أن من مرتكزات الفقه السياسي الإسلامي، في جميع أطواره ومراحله أنه ينشد العدالة، ويسعى نحو تثبيتها في واقع المجتمع بكل شرائحه وطبقاته، حتى أن التشريع الإسلامي اشترط فيمن يتحمل مسؤولية قمة الهرم السياسي أن يكون عادلا. فالحكم بالمنظور الإسلامي ليس أداة للقهر والغلبة والكبت، وإنما هو أداة للعدل والعدالة.
وتتضح خاصية العدالة في وظائف الدولة، ككيان ذو قدرات متعددة في المنظور الإسلامي. ويقول الماوردي أن وظيفة الدولة «إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين». وقال ابن خلدون «حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي». وانطلاقا من هذه الخاصية، نجد أن الإسلام يحارب العنصرية، ويعتبرها مخالفة لأسس وبديهات الإسلام. إذ أعتبر الإسلام الإنسان كأخيه الإنسان في كل شيء، وجعل معيار التفاضل أمر كسبيا يتمثل في التقوى ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾[5] و﴿يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾[6] ومن هنا نجد الإسلام يحذر من إتباع الهوى، وطاعة السلطان الجائر بإعتبارهما نافذتان من نوافذ الابتعاد عن العدالة، وتعطيل لحركة التفكير السليم في حياة الإنسان. وقد قال تعالى ﴿أفكلما جاءكم رسول بما لاتهوى أنفسكم إستكبرتم﴾ [7] . ﴿وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين﴾[8] . ﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون﴾[9] . ﴿ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾[10] ﴿أرأيت من إتخذ إلهة هواه أفانت تكون عليه وكيلا﴾[11] .
وقد عبر الشاطبي في موافقاته عن ذلك بقوله «ما جاءت الشريعة إلا لتخرج الناس عن دواعي أهوائهم».
ونبذ الإسلام أيضا الاستعلاء والعدوان والفساد والبغي، واعتبرهما من المحرمات في الشريعة. إذ قال تعالى: ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا﴾[12] ﴿وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي﴾[13] .
فالعدالة هي روح الإسلام وجوهره، والفقه السياسي الإسلامي بجميع مفاهيمه وأدواته، قد ركز أهدافه وغاياته على ضوئها، ومن أجلها، وذلك في جميع أنظمة الإسلام وتشريعاته، من قوانينه الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وما أشبه.
وفي إطار الحركة السياسية نفهم، قيمة العدالة، في الانفتاح على جميع الاجتهادات الفكرية والثقافية والحركية في الأمة، لانتخاب أصوبها وأصلحها والابتعاد عن الاعتبارات الحزبية والاجتماعية أو ما شاكل ذلك، التي قد تمنع عملية الانفتاح على الاجتهادات الموجودة في الأمة. ولذلك يقول الإمام علي إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر «إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال، أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان على الله حربا حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد»[14] .
وفي فتح الجسور، وتكوين العلاقات، من جميع الشخصيات والقوى الموجودة في الساحة، والتي تعتبر رقما مؤثرا في الساحة «بصرف النظر عن الاعتبارات الشخصية والفكرية والحزبية»، لأنه عن طريق فتح الجسور، والتعاون البناء، نتمكن من جعل الرجل المناسب في المكان المناسب. وقد قال الرسول الأكرم ﷺ ”يوم واحد من سلطان عادل خير من مطر أربعين يوما يقام في الأرض وأزكى من عبادة سنة“[15] .
ثالثا: تبادل المسؤولية بين الحاكم والمحكوم:
إن الفقه السياسي الإسلامي قائم في جميع حركاته وأفعاله، على أن مسؤولية العمل والإدارة، ليست عملا مقتصراً على السلطة السياسية، وإنما هي عمل وإدارة مشتركة بين النخبة السياسية والقاعدة الشعبية، إذ كل منهما يتحمل مسؤوليته ودوره في الإدارة والنشاط السياسي. بينما نجد الفقه السياسي الغربي، وبالخصوص في القرنين الثامن عسر والتاسع عشر قائم على إقصاء القاعدة الشعبية عن ممارسة النشاط السياسي، وإن السلطة بمثابة غنيمة يسعى أقطاب السلطة والحكم إلى الاستفادة منها لصالحهم الشخصي أو العائلي أو الحزبي. ولذلك نجد أن الفضيلة عند ميكافيلي تتمثل في أمور ثلاثة يحصل عليها الحاكم الأعلى من السلطة «العظمة - الشهرة - القوة» ويقول ”هوبز“ «أن الحق والعدل، هو ما يؤمر به العملاق، وأن ليس ثمة قانون ثابت. ويضيف أن الإنسان كائن شرير حافل بالنقائض، جبان، فاسد، خبيث، تدفعه المصلحة الذاتية، وتتحكم فيه الغرائز الأولية من أنانية وجشع، وهو لا يذعن إلا إذا أضاف ولا يضحي بمصالحه إلا مرغما ولا يحب السلام ".
ولعمري هذا هو الاستبداد المطلق، والاستئثار بكل شؤون العباد والبلاد لصالح الحاكم الأعلى، وهذا لا يعني كما يرى «هوبز» وهو أحد أقطاب الفقه السياسي الغربي، على أنه ليس من حق الرعية وأبناء المجتمع، أن يحتجوا على الحاكم بالقانون الطبيعي.
وعلى العكس من ذلك نجد أن التشريع السياسي الإسلامي في كل أحكامه ونظمه يؤكد على دور الرعية «الشعب» والحفاظ على حياتهم المادية والمعنوية. وقد اشتهر على لسان الفقهاء: أن التصرف في الرعية منوط بالمصلحة. والذي يؤكد المسؤولية المتبادلة في الفقه السياسي الإسلامي أن السلطة السياسية هي نتاج المجتمع بقيمه ومنظوماته المختلفة. «كما تكونوا يولى عليكم»، لذلك فهناك علاقة صميمية بين السلطة والمجتمع، ولذا فإن محور تصرفات الحكومة بأجهزتها المختلفة هو مصلحة المجتمع.
والجدير بالذكر أن مصدر مبدأ المسؤولية في الإسلام، هو قيمة خلافة الإنسان في الأرض. إذ قال تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما إستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي إرتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾[16] .
إذ هي مصدر جميع الالتزامات والمسؤوليات الموكولة للإنسان، تحقيقا لمبدأ الإستخلاف في الأرض ﴿آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾[17] فالمسؤوليات الواقعة على كاهل الإنسان باعتباره هو سيد الكون ومسيطرا على جميع مواده، لذلك ينبغي تحمل المسؤولية للقيام بأعباء هذه السيادة، وقد قال تعالى: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾[18] .
وقال الرسول الأعظم ﷺ ”ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع عن أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته“[19]
وحتى تكون عملية التفاعل وتبادل المهمات والمسؤوليات، بشكل إيجابي وحسن منع الإسلام من تولى الحكم من به بعض الصفات الأخلاقية والسلوكية السيئة، إذ يقول الإمام علي ”وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام، وإمامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة“[20] .
فمؤدى نهج الفقه السياسي الوضعي، أنه يؤدي إلى تضخم دور السلطة ورجالها، بحيث تبتلع السلطة كل خيرات المجتمع وطاقاته وتختزل كل طموحات الشعب في شخص الرئيس أو الملك أو الحزب أو ماأشبه. بينما نهج الفقه السياسي الإسلامي، يؤكد على حضور الأمة ودورها في مراقبة السلطة وإبراز قيمها ورسالتها التي تنادي بها.
وقد قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾[21] .
ويقول الإمام القرطبي «أجمع العلماء، على أن على السلطان أن يقتص من نفسه، إن تعدى على أحد من الرعية. إذ هو واحد منهم وإنما مزية النظر لهم كالوصي والوكيل وذلك لا يمنع القصاص وليس بينه وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل»[22] .
واستطراداً نقول: إن أحد الأسباب الرئيسية لإخفاقات العلم العربي والإسلامي خلال هذه الحقبة من الزمن، إن السلطات التي حكمت هذه البلدان أقصت المجتمع من ممارسة دوره وأبعدته عن عملية الوعي والمواجهة، مما أدى إلى وجود حالة من البيروقراطية السياسية والإدارية التي قضت على إمكانات المجتمع وقدراته وفاعليته.
وفي إطار المسؤولية المتبادلة التي يوجدها الفقه السياسية الإسلامي، بين الراعي والرعية تأتي مسألة الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للمواطن، التي يكفلها التشريع السياسي الإسلامي. إذ يقرر أن من حق كل مواطن أن يعيش حياة كريمة، وينبغي توفير المأوى والمسكن له، وإن يكون له حق العلم والشورى والمشاركة السياسية والإدارية في الدولة.
وحتى لا تكون هذه المسؤولية المتبادلة فوضوية، أو بلا إطار محدد وواضح، جعل الإسلام تصرفات كلا الطرفين خاضعا لمبدأ سيادة التشريع الإسلامي وقيمه، وخدمة الأمة
. وبهذا يبتعد الفقه السياسي الإسلامي عن شبهة النظام الثيوقراطي أو ما يسمى بالحق الإلهي المقدس. فالحاكم أو الرئيس في الدولة الإسلامية مسؤول أمام رعيته لأنها صاحبة الحق والمصلحة، كما هو مسؤول أمام الله عز وجل، ويشير إلى هذه المسألة الأستاذ فتحي الدريني بقوله ”فالحاكم إذن فرد عادي، كأي حاكم مدني سياسي، هو نائب عن الأمة في تنفيذ شرع الله فيها، والعمل على استقامة أمرها وتعزيز سيادة الدولة داخلا وخارجا والأمة هي صاحبة الشأن الأول، فهي التي تنصبه بإرادتها العامة الحرة، عن طريق الشورى أو الإنتخاب الحر، ليتولى تسيير دفة الحكم بموجب دستورها الأعلى بما يحقق مصالحها وإقامة العدل فيما بينها، وهو لذلك مسؤول أمامها مسؤولية الوكيل أمام الأصيل، بل هو مسؤول شرعا حتى عن تصرفاته الشخصية العادية“[23] .
رابعا: الشمولية
إن من سمات الإسلام الأساسية، أن عقائده وأحكامه مبنية على حقائق الكون والإنسان، ولذلك اعتبر الدين الإسلامي، التفكير في حقائق الكون ومظاهره. وفي نفس الإنسان، من أدوات الإيمان والمعرفة ووسائلها. إذ يقول تعالى:﴿إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض﴾[24] و﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾[25] . ومن هنا حارب الإسلام التقليد الأعمى، وإتباع الآباء والماضين بغير هدى وبصيرة ووعي، لما تعنيه من تثبيت عقائد الإنسان على خرافات وأوهام قديمة. إذ قال تعالى: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون﴾[26] . ”لأن المنطلق الأساسي للسعي الحيوي، ينبغي أن يكون ثابتا - مفهوما وغاية - بيقين، وإن الظن خرص فيما يتعلق بالحقائق الدينية والكونية ومقومات الفطرة الإنسانية، والسنن الاجتماعية الثابتة التي تصرف الله تعالى فيها وضعا وتكوينا، كتصرفه في خلق السموات والأرض، حقا وباطلا، تلك الحقائق التي هي سبيل الاعتقاد الحق، تنهض بالأصالة والذاتية والظن لا يغني من الحق شيئا“[27] .
وذم العصبية للآباء والأقارب. إذ قال تعالى: ﴿لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم﴾[28] .
وعلى هذا فإن الحقائق التي يبني عليها الإسلام أحكامه ونظمه وتشريعاته ليست حقائق مجزأة أو مبتسره ومنتزعة من سياقها الطبيعي، بل هي حقائق كونية - فطرية خالدة وشاملة للإنسان زمانا ومكانا.
لذا فإن من خصائص الفقه السياسي الإسلامي وملامحه إنه شامل بشمول الحقائق التي إبتنى عليها الفقه السياسي. وعلى ضوء هذا فإن المفردة السياسية الإسلامية ليست سياسية محضة بل تمتزج فيها العقيدة والمثل الأخلاقية والإنسانية، وعلى هذا فإن السياسة في الإسلام هي عبارة عن أداة من أدوات تحقيق الخير في المجتمع. فالفقه السياسي الإسلامي لا يعني فقط مجموعة القوانين والأطر التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم فقط، وإنما هي عبارة أيضا عن عنصر إيماني - عقائدي يتوزع في شتى شؤون الحياة ويأخذ سمة العبادة لله عز وجل. وبهذا فإن النظرية السياسية الإسلامية تختلف اختلافا جذريا عن الدولة الثيوقراطية، أو المعنى اللاهوتي أو الكنسي للحكم والسياسة. لأن الشريعة الإسلامية تؤسس أحكامها وقوانينها على قاعدة العالم والمعرفة لا الجهل والظن ﴿قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا﴾[29] و﴿ لا تقف ما ليس لك به علم﴾[30] . وبهذا نجد أن الإسلام لا يقبل ذلك الإيمان والاعتقاد الذي يعتمد في مصادره على الأمور الظنية أو الأدوات التي لا توصل إلى الحق واليقين. ولذلك فإن القرآن الحكيم، وبخ أولئك الناس الذي لا يستجيبون لأوامر عقولهم وأفئدتهم، بل اعتبر إن أحد الأسباب الرئيسة لدخول الناس نار جهنم هو تعطيل عقولهم، وعدم الإصغاء إلى ندائه وأوامره ﴿لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾[31] و﴿ أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون﴾[32] .
وبهذا الفهم الخاطئ والمغلوط للكثير من المبادئ والقيم، استطاعت بعض الأنظمة السياسية الفاسدة، أن توظف الدين لصالح تمرير سياساتها الخاطئة والبعيدة عن الإسلام نصا وروحا. كل ذلك بفعل الإيمان القشري، الذي اعتمد على منطلقات سيئة وأدوات ظنية، مضللة لا توصل إلى الحق واليقين.
وعلى هدى هذا نقول: بأن الإسلام جاء لتحرير العقل البشري من الظنون والأوهام سواء فيما يرتبط بعقائد الإنسان، أو العلم الذي يتوصل إليه.
«وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً». ومن هنا قرر الباري عز وجل لأعضاء الإنسان من السمع والبصر والفؤاد، وظائف ومهمات ينبغي القيام بها. ووبخ في قرآنه العزيز أولئك النفر الذين لا يقومون بتأدية هذه الوظائف. إذ يقول تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون﴾[33] .
ولذلك فإن إلغاء وظائف ما أنعم الله يُعد حمقا وغفلة عن سنن الله في الكون والخليقة. ويستلزم ذلك القول بعبثية الخلق لأنها على هذا الزعم، خلقت لا لشيء. " فبطل القول بالتعطيل، لبطلان لوازمه، وثبت نقيضه، وهو التأثير والاختيار، هذا فضلا عن استحالة تبرير المسؤولية، أو لإقامة العدل في الجزاء، مع عدم التمكن والاختيار، ولأن الجزاء ينقلب مع التعطيل والجبر جورا، ﴿وما الله يريد ظلما للعباد﴾[34] و﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة﴾[35] .
لذا فإن المنطق السليم المنسجم مع عقائد الإسلام وسنن الكون ونواميس الخلق، هو أن الإنسان ينبغي له استخدام ملكاته وأعضاءه الممكنة في سبيل تعميق الإيمان بالباري عز وجل، لتجسيد قيمة الشمول على مستوى النظر والحركة العملية.
فالفقه السياسي الإسلامي شامل في منطلقاته وبواعثه، كما هو شامل في غاياته وأهدافه، بحيث أنه يتحرك في جزئياته ومفرداته، في كل المناطق والأبعاد، بما يخدم الإنسان جسداً وروحاً.
خامساً: ضمان الحريات ونظام الشورى
من الثابت تاريخيا، أن التشريع الإسلامي، هو منشأ الحريات العامة للإنسان، إذ أن أحكام التشريع وقوانينه، ما هي إلا مصادر ومصاديق للحريات التي منحت للإنسان من قبل التشريع الإلهي. كما أن في الفقه السياسي الإسلامي لا توجد سلطة أو سيادة على تقييد حرية الإنسان وضبط تصرفاته سوى سيادة الله عز وجل. ومن هنا فإن ممارسة الحريات والحفاظ على الحقوق، ما هي إلا امتثالا وطاعة لله عز وجل. لذا فإن الحفاظ على الحرية وممارستها عبادة بالمنظور الإسلامي، لأنها التزاما بشرع الله وقوانينه. وتأسيسا على هذا فإن الإسلام يحارب كل القوى الضاغطة باتجاه تغييب الحريات، أو تشويه مسيرتها بتحكيم الهوى والشهوة والتقليد الأعمى للآباء والماضي.
قال تعالى: ﴿وأما ما خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾ [36] وينكر القرآن الحكيم على أولئك الرهط الذي قلدوا غيرهم دون تدبر وتأمل. إذ قال تعالى ﴿بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾[37] . ومن هنا فإن منشأ الحريات، هو التشريع الإلهي لا القوانين الطبيعية للإنسان كما يزعم البعض. ووضع هذا التشريع نظما وقوانين لممارسة هذه الحريات بما يخدم الإنسان وتطوره في الحياة ولذلك فلا حكم ولا سلطان على هذه الحريات الممنوحة للإنسان إلا سلطان الشرع وضروراته. ومنح هذه الحريات ليس لكي يتحول الإنسان الفرد، إلى كيان أناني، لا يفكر إلا في ذاته ومصالحها. وإنما منحت هذه الحريات بشكل تحافظ فيه على مصالح الإنسان الفرد والمجتمع، بحيث تزيل جميع العقبات التي تعترض سبيل التطور والتقدم. لذلك فإن الأصل " أن المعنى الاجتماعي والإنساني عنصر جوهري في مفهوم الحق والحرية ثابت شرعا بالاستقراء، وهو مناط المشروعية في التصرف أو الاستعمال، والمشروعية أساسها العدل، إذ لا عدل حيث تنتفي المشروعية ضرورة، فكان هذا الأصل منافيا للفردية في مفهوم الحق والحرية، والإطلاق في التصرف فيهما، مما استقرأ أصلا في الديمقراطية السياسية ذات النزعة الفردية.
إن المعنى الإنساني أو الاجتماعي عنصر جوهري في ملاك مفهوم الحق أو الحرية، وثابت في الإسلام قطعا، إلى جوار عنصره الذاتي، بحيث غدا ذلك المعنى الإنساني جزءا من مناط مشروعيته "[38] .
فالأصل في الإنسان الحرية في قبال أخيه الإنسان، إذ لا يحق لأي إنسان، أن يسلب حرية وإرادة غيره أو يقيدهما. وقد قال الإمام علي ”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا“.
فالحرية في الفقه السياسي الإسلامي واسعة بوسع الإنسان وآفاقه، ولكنها تنتهي عند حدود العبودية لله تعالى. التي ليست بدورها سوى التسليم لقوانين وسنن الكون والطبيعة من أجل الاستفادة منها.
والحرية في التشريع السياسي الإسلامي لا تعرف لونا معيناً، وإنما هي قيمة دينية مقدسة، تشمل جميع الألوان والشعوب، حيث أن الناس سواسية كأسنان المشط.
وعلى هدى ما ذكر أعلاه، يربي وينمي الدين الإسلامي في نفوس المؤمنين به قوة العقل ويبلورها حتى تتميز عن الأهواء ودواعي المصلحة السيئة، ويبني المقاييس والمعايير الثابتة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرة الإنسان، من الإيمان بالحق والعدالة والكرامة والحرية، وبذلك يحصل الإنسان المسلم على وعي كاف لكل ما يجري حوله وفي محيطه، ويمكنه بعد ذلك من تقويم الأفكار، والأقوال وتمييز أحسنها وإتباعه.
﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾[39]
وعن طريق هذه العملية الواعية، تتأسس اللبنة الأولى في المحافظة على حرية الإنسان في الحياة. إذ تشكل هذه العملية حصنا منيعا، يمنع ذوبان الإنسان في بحر المجتمع الذي لا يقدس قيمة الحرية ولا يراعيها في قوانينه وحركته العامة. وبهذا يمتلك الإنسان المسلم جهازا داخليا حساسا ضد الإنحرافات التي تحدث في شخصه أو مجتمعه.
ويدعم قيمة الحرية في التشريع السياسي الإسلامي، فريضة الشورى باعتبارها ضرورة أساسية لإدارة المجتمع في أبعاده المختلفة، وتطويره وتحقيق طموحاته وتطلعاته المشروعة. لذلك فإن صيغة الشورى متغيرة ومتطورة بتطور الشعوب والأمم، ويقول الشيخ محمد المبارك " أن الإسلام حين أقر مبدأ الشورى في ميدان الحكم وألزم به، ومنع الاستبداد والتصرف الفردي وحرمه، ترك للبشر تحديد طريقته وأسلوبه توسعة عليهم ومراعاة لاختلاف الأحوال والأزمان. وعلى هذا يمكن أن تأخذ الشورى أشكالا متعددة وصيغا مختلفة باختلاف العصور بل في العصر الواحد والدولة الواحدة، كأن تكون الشورى في مجال تعيين رئيس الدولة منوطة بمجلس خاص بذلك توضح شروطه ونظمه، وتكون في المجال السياسي والداخلي منوطة كذلك بمجلس آخر أو بالمجلس السابق نفسه، وتكون الشورى في مجال التشريع الاجتهادي منوطة بأهل الاختصاص بالشريعة وأهل الخبرة والاختصاص والمعرفة بأحوال المجتمع بالنسبة لموضوعات التشريع.
إن هذا كله متروك تحديده، ولكن المهم إن ممارسة الحكم ابتداء من تعيين الحاكم نفسه إلى التشريع والسياسة والإدارة يشترك فيها الشعب وجمهور الأمة أو من يمثله من أهل الرأي والمعرفة، كما يشترك فيها الحاكم بعد اختياره وتعيينه عن طريق الشورى وبذلك تتحقق المشاركة بين الحاكم والرعية أو الشعب ويتم بذلك تقيد الحاكم بقيدين: ”الشريعة والشورى أي بحكم الله ورأي الأمة“[40] .
وفريضة الشورى في الفقه السياسي الإسلامي ليست طارئة عليه أو مقتبسة من النظريات الوضعية الحديثة، وإنما هي أصيلة بأصالة الإسلام وفقهه السياسي. لذلك نجد أن سيرة الرسول ﷺ وهي مصدر تشريعي مليئة بنماذج التشاور مع الناس والتزام الرأي الذي يُتوصل إليه من خلال فريضة الشورى. وهذه بعض النماذج لذلك.
«1» قال رسول الله ﷺ لأصحابه في معركة بدر أشيروا عليّ في المنزل، فقال الخباب بن المنذر: يا رسول الله أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال ﷺ: بل هو الرأي والحر ب والمكيدة، قال الخباب: فإن هذا ليس بمنزل! إنطلق بنا إلى أدنى ماء القوم فإني عالم بها وبقلبها بها قليب قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح ثم نبني عليها حوضا ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونفوّز سواها من القليب.. فقال الرسول ﷺ الرأي ما أشار به الخباب وقال يا خباب أشرت بالرأي "[41] .
«2» جاء في معركة الخندق أن الرسول ﷺ استشار أصحابه عن كيفية أخذ الإجراءات الوقائية والحربية مع العدو، فأبدى الصحابة آراءهم في المسألة وقال الصحابي الجليل سلمان المحمدي يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي «سلمان» المسلمين وعمل النبي ﷺ برأي سلمان "[42] .
”فالشورى ليست فقط سلوكا أخلاقيا ضيقا، وإنما هي آلية من آليات الارتقاء النوعي للمجتمع الإسلامي في الإطار السياسي، ووسيلة من وسائل تحصين القرار والتوجه من الوقوع في محاذير الأوهام والأهواء الشخصية للحاكم“[43] . وخلاصة الأمر: إن قيمة الحرية وفريضة الشورى من ثوابت الفقه السياسي الإسلامي، ولصقه به بحيث لا يمكننا تحقيق قيم الدين في الواقع الخارجي بدونهما.
سادسا: الإيجابية
بمعنى أن الفقه السياسي الإسلامي، يربي الإنسان المسلم على فعل الخير، وأن لا بد أن يكون له موقف واضح وصريح من الأحداث والقضايا التي تجري حوله. ويحدثنا القرآن الحكيم في سورة الروم عن حدث دولي أنداك «الحرب بين الروم والفرس» ويعدنا بانتصار الروم في آخر الأمر. إذا جاء ”عن ابن عباس في قوله تعالى «ألم، غلبت الروم …» قال غلبت وغلبت حيث كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ: إما إنهم سيغلبون، فذكره أبو بكر لهم فقالوا: أجعل بيننا وبينك أجل فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله ﷺ فقال: ألا جعلته أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله «ألم، غلبت الروم..»، فغلبت ثم غلبت بعد“ [44] .
فالفقه السياسي الإسلامي ليس فقها طوباويا، وإنما هو فقه واقعي بمعنى إنه يستجيب استجابة إيجابية وواعية لمكونات الواقع السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي، ويسعى للتعاطي مع هذا الواقع بما يتناسب وقيم الفقه الإسلامي، ويحقق مصلحة المجتمع والأمة.
وتتضح الإيجابية كملمح أساس من ملامح الفقه السياسي الإسلامي في مفهوم الدولة حيث أنه «الفقه السياسي الإسلامي»، ينظر إلى الدولة بما أنيط بها من مهمات ومسؤوليات ووظائف تخدم حركة الإسلام في الواقع الداخلي والخارجي، لا باعتبارها قوة كابحة للمواطنين أو قاهرة لتطلعاتهم أو مقيدة لحرياتهم. فالدولة كيان في المنظور الإسلامي موجهة إلى القيام بأعباء ومسؤولية المواطنين في كل الحقول والمجالات، قبل أن تكون هذه الدولة عبارة عن قدرة وقوة ومصدر إكراه للمواطنين. وبهذا يلتزم جهاز الدولة برسالة الإسلام وأهدافه وتكون رحمة للجميع تجسيدا لوظيفة النبي الأكرم ﷺ ومهمته ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾[45] .
ومن هنا نرى أن الفقه السياسي الإسلامي حاكم على الأعراف والعادات والتقاليد لا العكس.
وثمة مسألة ضرورية في إطار الإيجابية، ألا وهي ضرورة إعطاء موقف للمجتمع من مجريات الأحداث والتطورات التي تمر عليه. ونرى هذه المسألة بوضوح في سيرة أهل البيت ، إذ مع كل حدث يحددوا موقفا ويبينوه لحوارييهم أو لعموم المجتمع، وهذا التفريق يرجع إلى طبيعة الحدث وزمانه ومكانه، فمثلا بعد ثورة زيد بن علي ضد الأمويين تضاربت الآراء والمواقف حول سلامة ما قام به زيد بن علي، وكاد المجتمع الإسلامي أن تتضارب آراؤه ومواقفه تجاه هذه الثورة لو لا تدخل الإمام الصادق وبيان موقفه الرسالي من الثورة. فقد روي عن الفضيل إنه قال انتهيت إلى زيد بن علي صبيحة خروجه بالكوفة فسمعته يقول من يعينني منكم على قتال أنباط أهل الشام، فوالذي بعث محمدا بشيرا لا يعينني على قتالهم أحد إلا أخذت بيده يوم القيامة فأدخلته الجنة بإذن الله. قال فلما قتل إكتريت راجله وتوجهت نحو المدينة، فدخلت على الإمام الصادق فقلت في نفسي لا أخبره بقتل زيد بن علي، فيجزع عليه، فلما دخلت قال لي يا فضيل ما فعل عمي زيد قال فخنقتني العبرة فقال لي قتلوه قلت أي والله قتلوه، قال فصلبوه قلت أي والله صلبوه فأقبل يبكي ودموعه تنحدر على ديباجتي ضره كأنها الجمان ثم قال يا فضيل شهدت مع عمي قتال أهل الشام فقلت نعم قال فكم قتلت منهم قلت ستة قال فلعلك شاك في دمائهم قال فقلت لو كنت شاكا ما قتلتهم، فسمعته وهو يقول: أشركني الله في تلك الدماء، مضى والله عمي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب "[46] .
ونصل بعد كل هذا إلى أن، التشريع السياسي الإسلامي يهدف بالدرجة الأولى، إقامة الحياة الإنسانية الصالحة، بكل مبادئها وأطرها وقيمها المادية والمعنوية، وإقامة الحق وإشاعة العدل والعدالة في ظل عبودية خالصة لله عز وجل..