لماذا يحرقون كتبهم
من أشد أنواع إبادة الكتب غرابة هو أن يقوم الكاتب نفسه بإبادتها، لأن ذلك أشبه بمن يقوم بقتل أولاده بعد أن قام بتربيتهم. وهناك دوافع متنوعة تختلف باختلاف الكاتب، فمنهم من قام بذلك بسبب يأسه من المجتمع أو نقمته منه، أو بسبب اعتقاده بأن المجتمع لا يستحق فكره أو كتبه، ومنهم من قام به لأسباب فكرية وعقائدية كونه قد غير رأيه فيها، أو لخوفه من سطوة المجتمع أو السلطات. ونتحدث هنا عن إبادة الكتب وليس فقط حرقها كون البعض يقوم بتمزيقها أو طمرها تحت الأرض أو بإلقائها في البحر أو بتغطيسها في الماء حتى يذهب حبرها أو يلقيها في كهف بعيد.
ويعتبر أبو حيان التوحيدي أكثر هؤلاء شهرة، فقد عاش في القرن الرابع الهجري حيث كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية آنذاك ليست على ما يرام، بينما كان هناك ازدهار في الجوانب الثقافية. وقد ألف عددا من الكتب حتى سمي بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، وحاول التقرب من بعض الحكام ونجح في بعضها إلا أنه وبعد أن امتد به العمر شعر بالوحدة وتملكته حالة من الكآبة عندما شعر أن الجميع تركوه وتفرقوا عنه، فقام بحرق عدد من كتبه وقال بأنه ترك منها السيء فقط وحرق أفضلها.
وهناك عدد من العلماء والكتاب في مختلف العصور الإسلامية ممن قاموا بإبادة كتبهم أو إنهم أوصوا بذلك نذكر بعضا منهم. فهناك مثلا الفقيه المعروف سفيان الثوري الذي قيل إنه «مزق ألف جزء من الكتب وطيرها في الهواء، وقال ليت يدي قطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم اكتب حرفا»، وقيل إنه كان نادما على بعض ما كتب فيها. كما قام أبو سليمان الدارانى بحرق كتبه ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت احترق بك. وقام أبو عمرو بن العلاء التميممي بحرق كتبه وقيل إنه دفنها، وكان يقال عنه إنه أعلم الناس بالقراءات والشعر. أما داوود الطائي الذي كان عالما وترك طلب العلم وتوجه نحو العبادة ثم رمى كتبه في البحر وقال يناجيها «نعم الدليل كنت والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول». أما أبو سعيد السيرافي فقد قال لولده محمد «قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار». وقال أحمد بن الحوّاري «القرن الثالث الهجري» مخاطبا كتبه التي أغرقها «يا عِلم لم أفعل بك هذا استخفافا ولكن لما اهتديت بك استغنيت عنك»، وهذا سبب إضافي للتخلص من الكتب. أما أبو بكر السمعاني التميمي فقد قام بغسل ديوان شعره لأنه كان يعتقد أن ذلك سوف يؤثر في قيمة ما كتبه في الفقه، وهو ما فعله أيضا الشاعر أبو الحسين عاصم العاصمي الكرخي عندما مرض في أواخر حياته. وقام أبو عمرو الكوفي «توفي في القرن الأول الهجري» بطلب كتبه عند وفاته ومحاها قائلا «أخشى أن يليها قوم يضعونها في غير موضعها». لكن المحدث شعبة بن الحجاج أوصى ابنه سعد بأن تغسل كتبه بعد وفاته. وهناك أبو كريب الهمداني وأبوبكر الجعاني وعروة بن الزبير بن العوام وعشرات غيرهم ممن آثروا التخلص من كتبهم إما في حياتهم أو بعد وفاتهم ولكل منهم أسبابه الخاصة.