آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

مفاهيم نهضوية على ضوء آيات الذكر الحكيم

محمد المحفوظ *

المقدمة

حين التأمل في مشهد المجتمعات العربية والإسلامية، وإشكالياتها المزمنة وتحدياتها الطويلة، نكتشف أن ثمة مشكلات حقيقية تعاني منها هذه المجتمعات، وبين فترة وأخرى تبرز هذه المشكلات على السطح، ويتم الجدل والنقاش والصراع حولها، دون القدرة على معالجتها بشكل جذري وحقيقي. ولعوامل ذاتية وموضوعية، تتوارى هذه المشكلات عن السطح، وتنزوي، وينشغل الناس بهمومهم المختلفة، ومع أي مشكلة سياسية أو اجتماعية أو ثقافة، تعاود هذه المشكلات بالبروز مجددا.

ويبدأ الجميع حفلة الصراخ والصدام بدون وجود إرادة حقيقية مشتركة لمعالجة هذه الإشكاليات، وإنهاء موجباتها الفعلية والجوهرية.

وهكذا تستمر مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسيرة مشكلات مزمنة وأعباء حقيقية وثقيلة، ترهق راهن العرب والمسلمين وتشتت جهودهم وطاقاتهم دون طائل، ودون قدرة على التحليل والمعالجة الفعلية.

ويبدو أن واقع المجتمعات العربية والإسلامية، سيبقى أسير أعباءه المزمنة، وخضوعه الدائم لمتواليات هذه الأعباء، دون توفر القدرة المجتمعية على معالجة هذه الأعباء،

أو اتخاذ مواقف واعية وحضارية منها، تخلص راهن العرب والمسلمين من أعباء لا كسب لنا جميعا فيها. وانطلاقا من هذه الحقيقة المركبة والمرة في آن، ما هي أهم الأعباء التي تواجه العرب والمسلمين كل لحظاتهم التاريخية، وتدخلهم بإستمرار في أتون الصراعات العبثية، التي تدمر إمكانياتهم الذاتية، وتزيد من أسباب الإحن بينهم، وتتغذى نزعات العنف منها، دون قدرة فعلية على الحل والمعالجة.

حين تحليل وقائع العالم العربي والإسلامي وتحولاتهما السياسية والثقافية والاجتماعية، نرى أن ثمة أعباء ثلاثة، هي بمجموعها تشكل أزمات عميقة في الاجتماع العربي والإسلامي، وقادرة على تعطيل الكثير من الخطط والمشروعات على صعد الحياة المختلفة. وهذه الأعباء الثلاثة هي كالتالي:

1 - العبء القادم لنا من التاريخ:

لعلنا لا نضيف شيئا إلى علم القارئ حين القول: أن أهم الأزمات والمشكلات وأخطرها التي تواجه العرب والمسلمين بالأمس واليوم وغدا، هي تلك المشكلات والأزمات القادمة إلينا من عمق التاريخ وتطوراته وتحولاته المختلفة، فالدماء تسفك اليوم، والمنابر تؤجج وتحرض وتحث، والفعاليات والشخصيات والمؤسسات تنخرط في الصدام والحروب، ويعيش الجميع معركة على أكثر من صعيد، ويتم استخدام كل الأسلحة في هذه المعارك. ولكن حين فحص هذه المعارك، نجدها هي وبدقة تامة معارك معاصرة على قضايا تاريخية، لا نستطيع أن نغيرها أو نبدل المشهد فيها.

وتبقى هذه المشكلات والأعباء القادمة لنا من التاريخ، بمثابة القنبلة الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة وحينما تنفجر هذه القنبلة، فإنها تدمر الراهن، وتقضي على الكثير من الآمال في وحدة العرب والمسلمين وتعايشهم السلمي مع بعضهم البعض. لدرجة أنه قد لا يخلو عقد من عقود هذا الزمن المتطاول، من وجود أزمات ومشكلات هي في جوهرها قادمة من التاريخ. ولعل أمة العرب والمسلمين هي الأمة الوحيدة على وجه الأرض، التي يسفك دم أبناءها، وتدمر بنية مجتمعاتها المعاصرة، على قضايا ومشكلات تاريخية.

والذي لا يعرفنا كعرب ومسلمين قد يصاب بالذهول، حينما يكتشف أن الكثير من الحروب الثقافية والإعلامية والاجتماعية التي نعيشها، تعود في موضوعاتها ورجالها، إلى موضوعات ورجال ينتمون إلى التاريخ البعيد لنا جميعا.

وسيبقى راهننا جميعا، ينزف بإستمرار، إذا لم نتمكن نحن جميعا من معالجة الأعباء القادمة لنا من التاريخ.

لذلك ثمة ضرورة قصوى اليوم لنا جميعا، للتفكير بجدية في إعادة بناء رؤيتنا وموقفنا من أحداث التاريخ ورجاله.

ولعل المدخل الضروري والأساسي لبناء هذه الرؤية والموقف هو قول الله عز وجل ﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون «البقرة 134»..

فأحداث الماضي ليست من صنعنا، ولا نتحمل مسؤولية مباشرة فيها. وتعدد وتنوع آراءنا وأفكارنا وقناعاتنا ومواقفنا من أحداث التاريخ، ينبغي أن يضبط بضرورة الاحترام المتبادل وعدم الإساءة إلى بعضنا البعض أو إلى مقدسات وثوابت بعضنا البعض. فمن حقنا جميعا أن نختلف في تقويم رجال التاريخ وأحداثه، ولكن ليس من حقنا جميعا الإساءة وتجاوز مقتضيات الاحترام المتبادل.

أحسب أن هذه الرؤية هي المدخل الضروري لصناعة وعي إسلامي جديد، يحول دون تحول التاريخ برجاله وأحداثه، إلى عبء حقيقي على راهننا ومستقبلنا.

ولقد جاء في تفسير الآية الآنفة الذكر: إن هذا التاريخ هو تاريخ الأمم السابقة فيما عملت وفيما كسبت، ولستم مسؤولين عن كل أعمالهم في قليل أو في كثير بل هم المسئولون عن ذلك كله، فيما استقاموا به وفيما انحرفوا عنه. أما أنتم فلكم تاريخكم المستقل المتمثل في أعمالكم التي تكسبون فيها الجنة أو النار فعليكم أن تواجهوا مصيركم من خلال ذلك، وتحددوا خطواتكم العملية من خلال دراستكم للنتائج المصيرية لخطوات الآخرين، لتأخذوا منها العبرة في طبيعة الأشياء ونتائجها في كل المجالات.

2 - العبء القادم لنا من الحاضر والراهن:

وثمة أعباء ومشكلات مزمنة قادمة إلينا من الراهن. بحيث أن كل طرف يرمي بالمسؤولية لما جرى على الطرف الآخر.

فالأنا بريئة من العيوب، وهي إيجابية دائما، والآخر هو الذي يصنع الأزمات والمشكلات، وهو يمارس السلبية مع كل مبادرات الذات الايجابية. فيتم التلاوم وتحميل المسؤولية الطرف الآخر، والكل يفكر أنه خارج نطاق المسؤولية على ما يجري في الساحة العربية والإسلامية.. فحينما نتحدث مثلا عن انزلاق أوضاع العراق الراهن إلى استخدام العنف والقتل العبثي. فإن كل طرف أو مكون من مكونات الشعب العراقي، يرمي بالمسؤولية الكاملة على الطرف الآخر. والجميع يبرئ نفسه من موجة العنف والقتل التي يعيشها الشعب العراقي اليوم. وكأن من يقوم بالقتل والتفجير هم شياطين الجن.

لذلك آن الأوان لنا جميعا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه الراهن الذي نعيشه. فالكل يتحمل مسؤولية ما يجري. ولا يمكن التعامل مع الأعباء القادمة لنا من الحاضر والراهن، إلا بعقلية المسؤولية المشتركة، التي تبحث عن حلول حقيقية تحول دون استمرار هذه الأحوال السيئة التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم.

وهنا من الضروري أن ندعو علماء الأمة ودعاتها وحكماءها، إلى التعالي على صعوبات الراهن، والتفكير الدائم في سبل الخروج من هذا الواقع السيئ، وليس تأبيده بخلق المبررات أو تغطيته دينيا واجتماعيا.

3- العبء القادم لنا من أنفسنا وخياراتها:

إذا تجاوزنا المشكلات والأزمات القادمة لنا من التاريخ والراهن، نكتشف أنه ثمة أزمات ومشكلات، هي نابعة من أنفسنا وخياراتها. فبعض إخفاقاتنا وحروبنا، هي من سوء تقديرنا وغفلتنا وخضوعنا إلى مقتضيات الغضب الذي يقودنا إلى تقديرات خاطئة للواقع، فيدخلنا هذا الغضب ومتوالياته في معارك وحروب عبثية وأزمات مجانية.

فليس كل ما نعانيه هو من الآخرين ومؤامراتهم، بل بعض ما نعانيه هو من خياراتنا السيئة والخاطئة. وهذا الكلام ينطبق على عالم الأفراد، كما ينطبق على عالم المجتمعات.

لذلك ثمة حاجة ضرورية للتفكير في معالجة الأزمات والمشكلات القادمة إلينا من أنفسنا وخياراتها.

ولعل المدخل إلى ذلك هو امتلاك «النفس اللوامة»، التي تفحص باستمرار في سلوكها وخياراتها وتنتقدمهما، حتى تتمكن من تجاوز العيوب أو الثغرات المكتشفة في هذا الخيار أو تلك الممارسة.

وجماع القول: إننا اليوم بحاجة إلى عقلية جديدة على المستويين السياسي والثقافي من أجل التعامل الواعي والموضوعي مع تلك الأعباء التي ترهق واقعنا، وتجعلنا جميعا أسرى إلى معارك بدون أفق حضاري لها. وأمام هذه الأعباء ومتوالياتها المتنوعة، ثمة ضرورة للانعتاق أو بناء رؤية سليمة في كيفية التعامل مع هذه الأعباء. ونحسب أن وجود رؤية نهضوية متكاملة، هي القادرة على التحرر والانعتاق من هذه الأعباء. ونعتقد إن آيات الذكر الحكيم تتضمن مفاهيم نهضوية، قادرة حين الالتزام بها إلى تحرير الانسان المسلم من كل الأعباء والعراقيل التي تحول دون نهضة الانسان المسلم في لحظته الراهنة. واليك عزيزي القارئ جملة من المفاهيم النهضوية التي صاغتها ونحتت مضامينها آيات الذكر الحكيم.

أولا تحرير العقل المسلم:

حين التعمق في مفردات ومفاهيم المنظومة الفكرية الإسلامية، نكتشف أن هذه المنظومة تعمل على تحرير العقل المسلم من كل المعيقات المادية والمعنوية التي تحول دون استخدام العقل أو التفكير بدون قيود ومسبقات ذهنية أو تاريخية تعمل على تقييد العقل أو منعه من الانطلاق.

بل إن ذات المفاهيم الفكرية الإسلامية، تشكل رافعة ضد كل القيود والكوابح التي تمنع تحرير العقل المسلم.

وفي تقديرنا أن تحرير العقل المسلم من كل القيود والكوابح، هو من المفاهيم الأساسية لنهضة الأمة. لأن الخطوة الأولى في مشروع النهضة الحقيقية والفعلية في أي مجتمع، هو تحرير عقولهم من كل المعيقات والمبررات التي تحول دون استخدام العقل بشكل فعال، وانطلاقه في مشروع النهضة والتحرر من كل ما يعيق فعل النهضة وممارستها.

وحين التأمل في آيات الذكر الحكيم، نجد هناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤسس لمرحلة الانطلاق العقلي والثقافي بعيدا عن قيود الآباء وكوابح المسبقات الذهنية والعملية السابقة. فالتجارب والتاريخ بكل تطوراته هو لأخذ العبرة والاستفادة من دروسه وكيفية التحرر من كل المعيقات. فلا انحباس في التاريخ وقضاياه، ولا هروب من الراهن وتحولاته، بل ممارسة شهودية مستندة إلى عقل وفكر متحرر من كل القيود والمعيقات.

الموقف من التاريخ وأحداثه:

حينما يذكر النص القرآني الكثير من أحداث التاريخ وتطوراته، لا يستهدف النص القرآني الانحباس في أحداث التاريخ وقضاياه المختلفة، وإنما الاستفادة من دروسه وعبره، حتى لا يكرر الإنسان الفرد والجماعة أخطاء من سبقه، أو الخيارات الخاسرة التي التزم بها السابقون.

فالتاريخ مدرسة متكاملة للاستفادة منه على مختلف المستويات، وليس بديلا عن الراهن بل تطوراته وتحولاته.

فحينما نعود إلى التاريخ، نعود إليه، لا بمعنى الهروب من الراهن، وإنما لاستنطاقه، وأخذ العبر والدروس من أحداثه المختلفة.

يقول تبارك وتعالى ﴿أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [الروم9]، ﴿إذ مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون [الروم 33]

﴿يعطي القرآن الحكيم المؤمنين البصيرة الإلهية في التاريخ لينظروا من خلالها إلى الغابرين ويعتبروا بمصيرهم. ذلك بأن الإنسان تشده حوادث التاريخ بقدر ما تستثيره ظواهر الحياة الراهنة. وهو مفطور على النظر إلى الماضي. إذا فلينظر إليه من خلال بصيرة إلهية ليزداد إيمانا بربه وتسليما لسنته وشرائعه كلما نظر في أحوال الغابرين[1] 

فكل أحداث التاريخ تعلمنا، أن الخضوع لمتواليات بعض اللحظات، تفضي إلى نتائج كارثية. فحينما يخضع المجتمع إلى سيطرة المترفين، فإن مؤدى هذه السيطرة، هو اضمحلال الطبقة الوسطى وتلاشيها التدريجي، وهذا بدوره يفضي إلى ضعف التماسك الاجتماعي، الذي يؤدي بدوره إنهاء التجربة الاجتماعية الخاضعة لسيطرة وسياسة المترفين.

يقول تعالى ﴿إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم واتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين [القصص 76]. وتكون نتيجة هذه السيطرة هي: ﴿فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [81 القصص].

فالضعف البشري بكل دوائره ومستوياته، لا يمكن تجاوزه إلا بتنمية روح الإيمان، فالإيمان بكل متوالياته النفسية والسلوكية، هو القادر وحدة لمواجهة الضعف البشري المركوز في نفس وعقل الإنسان..

فالروح الإيمانية هي التي تجعل الإنسان يقتحم الصعوبات ويواجه المعضلات. ولولا هذه الروح لبقي الإنسان خاضعا لمقتضيات الخوف من المجهول ومن المستقبل القريب والبعيد.

وحينما يزيل الإنسان حجب الأهواء والشهوات والظنون، تتجلى قدرة الإنسان في عمران الأرض والحياة.

فالتاريخ بالنسبة إلى الإنسان المسلم الذي يمتلك الوعي والبصيرة، ليس نهاية الحياة، وليس السقف الذي يجب أن تقف عنده كل الإرادات والإبداعات الإنسانية. بل هي تجربة إنسانية فيها كل الصور والاحتمالات، ومهمتنا أخذ العبر والدروس من هذه التجارب الإنسانية سواء كنا أفرادا أو مجتمعات.

مفهوم المفاصلة مع الظلم والظالمين:

هناك العديد من آيات الذكر الحكيم، التي تحذر من الظلم والظالمين، وتحث المؤمنين في كل زمان ومكان إلى إبقاء جذوة الرفض النفسي والاجتماعي للظالمين.. إذ يقول تعالى ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الظالمون [المائدة 45]، ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون [هود 113]

وفي تقديرنا أن امتلاك الإنسان حساسية مفرطة تجاه الظلم والممارسات الظالمة، هي التي تبقي الإنسان متحررا من ربقة وأحابيل الظلم.

كما أن هذا التحرر سيدفع الإنسان فردا وجماعة للعمل في الفضاء الاجتماعي لمنع نفاذ الظلم والظالمين أفرادا ومؤسسات في البنيان الاجتماعي.

وملحمة النهضة تتشكل في خطواتها الأولى، من جراء رفض الواقع السيء رفضا نفسيا واجتماعيا، والتحرر من ربقة قوى الواقع السيء، والانطلاق في بناء كل القيم والحقائق المضادة لذلك.

صدق الولاء والانتماء:

حينما يعلن الإنسان أنه ينتمي إلى مدرسة الإسلام، وأنه يمتلك كل الاستعداد للالتزام بكل مقتضيات هذا الانتماء والولاء، فهو في حقيقة الأمر يطرد من نفسه وعقله نزعة الوصولية ومفارقة الباطن مع الظاهر. لذلك نتمكن من القول: أنه لا نهضة حقيقية في أي واقع إنساني، إلا بصفوة تأخذ على عاتقها الالتزام بكل قيم النهضة وثوابتها، وترفض مهما كانت الضغوطات أو التهديدات أو الإغراءات بيع التزامها أو التنصل منه.

إن صدق الانتماء والولاء، ووجود كتلة بشرية ملتزمة بذلك قلبا وقالبا، ظاهرا وباطنا، هو من أهم الحقائق والمفاهيم الأساسية لإحداث نهضة حقيقية في واقعنا الاجتماعي والإنساني.

التحرر من الأهواء الشهوات وعدم الخضوع إلى متطلباتها:

لعلنا لا نضيف شيئا إلى علم القارئ حين القول: أن التحرر المعنوي من الحاجات والشهوات، هو سبيل نيل الحرية في دوائر الحياة المختلفة. ومن يعيش عبدا لشهواته وأهوائه وحاجاته البيولوجية أو الاجتماعية، لن يتمكن من نيل الحرية في السياسة والمجتمع. لأنه ببساطة شديدة من يخضع لأهوائه وشهواته وحاجاته، لن يتمكن التحرر من كل هذه القيود وبالتالي فإن هذا الإنسان سيعبر في كل مقولاته عن خضوعه التام بكل تلك الحاجات والشهوات.

من هنا فإن تحرير العقل المسلم من كل القيود والمعيقات، تقتضي تحرر العقل المسلم من أهوائه وشهواته وحاجاته التي تضغط عليه جوهريا وتجعله على مستوى المواقف والممارسة خاضعا لكل متواليات عدم التحرر المعنوي.

وعليه فإن تحرير العقل المسلم المعنوي، الذي يكبح الإنسان ويقيده بفعل علاقته غير السليمة مع غرائزه وشهواته وحاجاته.

كذلك تقتضي التحرر من كل القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحول الإنسان إلى عبد أعمى لكل هذه المفردات.

وإن الطريق للتحرر من كل هذه القيود، هو التحرر المعنوي، وعدم الخضوع القسري لكل الأهواء والشهوات التي تحول الإنسان إلى كائن شهواني، غرائزي.

لذلك فإن من يتحرر من شهواته وأهوائه، قادر على التحرر من الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي وأشكال الحيف الاقتصادي. ومن لا يستطيع التحرر من شهواته وحاجاته فإنه تبعا لذلك سيكون غير قادر على التحرر من كل القيود الخارجية. من هنا ينبغي أن نربي أنفسنا على المستويين الروحي والعقلي، أن لا تكون هناك حاجة لدينا تلبيتها. كما أن علاقتنا المتوازنة مع سيطرتها وهيمنتها علينا.

فلا حاجة تأسرنا، ولا شهوة تخضعنا، ولا قوى غاشمة مهما كانت غطرستها قادرة على إخضاعنا والسير الأعمى خلفها.. ولو تأملنا في آيات الذكر الحكيم نجدها باستمرار توجهنا إلى ضرورة التحرر من الأهواء والشهوات.

رفض هيمنة الآباء:

لعل من أهم العقبات والمعيقات، لتحرر العقل المسلم من حالة التقليد وإتباع أثر من سبقونا، هو طبيعة الموقف المتخذ من أقوال وأفعال الآباء والأجداد..

دائما المجتمعات التي لا تبحث عن جديد وتطور، هي تلك المجتمعات الخاضعة لأجيال الآباء لديها. لأنها تعتقد أنهم السقف الذي لا يمكن تجاوزه، والموروث الذي لا يمكن الاستغناء عنه.

لذلك قبلت هذه المجتمعات لنفسها، أن تبقى مقيدة ومكبلة بأعراف وتقاليد تميت جذوة الفعل الحضاري لديها.

من هنا نجد أن المجتمعات المتوقفة عن التطور والبناء الحضاري، هي تلك المجتمعات التي تخضع بشكل تام لتقاليد وأعراف آبائها. أما المجتمعات الحية الباحثة عن صناعة مجدها وامتلاك أسباب القوة واكتناز عومل الصلابة والمنعة، هي تلك المجتمعات القادرة من التحرر من القيود والمعيقات وعلى رأسها التحرر من فكر وتقاليد الآباء والأجداد، إذا كانت هذه الأفكار والتقاليد مانعة عن التقدم وكابحة عن التطور. ليس ثمة موقف قيمي من تراث الآباء والأجداد، بمعنى ثمة مواقف وأقوال من الآباء، هي مشجعة للتطور والتقدم والإبداع كما أن هناك مواقف أو أقوال رافضة للتقدم ومانعة من الإبداع ومحاربة للجديد والتجديد.

المرفوض من حكم وثقافة الآباء، هو الصنف الثاني، لأنه يشكل قيدا ضد التقدم والتجديد والإبداع. لهذا نجد أن القرآن الكريم، وفي أكثر من موقع ومناسبة، يقف موقفا واعيا من تراث الآباء، ويحدد معايير الرفض أو الخضوع لهذا التراث المتراكم عبر حقب الزمن المتطاولة.

فقدم الشيء ليس مؤشرا على تخلفه ومعارضته للتقدم والتجديد. كما أن جدة الشيء ليس مؤشرا على نجاعة هذا الشيء وحاجتنا الدائمة إليه.

فثمة جديد بالمعنى الزمني هو ضد التقدم والإبداع. كما ثمة قديم بالمعنى الزمني لا زال بحيويته على تحريك المياه الراكدة. قال تعالى ﴿وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا أبائنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه أباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون [الزخرف 23-24]. ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [الإسراء 16]

ثانيا﴿وتعاونوا على البر والتقوى:

لو تأملنا في آيات الذكر الحكيم، لوجدنا أن من أهم المفاهيم النهضوية، التي تساهم في تشكيل قوة مجتمعية، رافضة للتخلف وساعية نحو سد الثغرات وردم الهوة الفاصلة بين ما هو قائم وبين ما ينبغي أن يكون. لوجدنا مفهوم [وتعاونوا على البر والتقوى] من أهم المفاهيم النهضوية، التي تتطلب امتلاك قدرة على تجاوز كل الأنانيات للتعاون مع شرائح وفئات المجتمع المتعددة على البر والتقوى.

وهذا الشيء الذي نتعاون من أجله، ليس محددا بشيء محدد، فكل ما هو من البر والتقوى، ينبغي لنا وفق هذا المفهوم أن نتعاون فيه. فالمجتمعات الإسلامية وفق هدي هذه الآية الكريمة، هي منارات لعلوم الإسلام، تضيء العقول، وتشحذ الهمم وتهدي الأفئدة إلى الخير وصناعته.

ووفق هذه الرؤية فإن الإنسان المسلم، ينبغي أن يمتلك قدرة نفسية لقبول التعاون مع غيره من المسلمين من أجل أهداف البر والتقوى.

كما أنه بحاجة إلى ثقافة تشجعه على التعاون، وتحرضه على رفض كل أشكال الأنانية.

فالأمم المتقدمة والتي تجاوزت حقبة النهضة، هي تلك الأمم، التي تمكنت من اجتراح تجربتها وفرادتها في التعاون بين جميع أطرافها ومكوناتها لإنجاز أهدافها وتذليل كل العقبات التي تمنع عملية التحقيق والإنجاز.

والتعاون المطلوب يتجه صوب:

1 كل المعيقات والموانع التي تحول دون تقدم الأمة. بحيث نتعاون مع بعضنا البعض من أجل إزالتها أو رفعها عن طريق تقدمنا وتطورنا.

2 في بناء حقائق البر والتقدم في مجتمعنا، بعد إزالة كل ما يعيق نهضتنا وتقدمنا وإبداعنا.

والتعاون هنا ليس له آلية محددة، وبالتالي فنحن جميعا معنيون في اكتشاف كل الإبداعات الإنسانية التي التزمت بالتعاون، بحيث نتمسك بأحدث النظريات والآليات التي تحقق [وتعاونوا على البر والتقوى] فالتعاون هنا ليس مشروعا ناجزا، بل هو من المشاريع الإنسانية الفردية والاجتماعية المفتوحة على كل الإبداعات والمنجزات الإنسانية.

ثالثا: استنفار العقل:

وكل هذه القضايا المذكورة أعلاه تسند وفق الرؤية الإسلامية  القرآنية باستنفار العقل المسلم لكي يعمل على تحصيل الوعي والمعرفة وتجاوز غبش الرؤية وجعل حياة الإنسان المسلم في كل جوانبها وأبعادها قائمة على العلم والمعرفة.

والأدوات المذكورة في القرآن لاستنفار العقل هي مفاهيم [النظر  التدبر  التعقل  البينة  البرهان  الجدل] وكلها أدوات أو آليات أو مفاهيم تؤدي إلى فقه الواقع بكل جوانبه ومآلاته.

ففي أكثر من [ثمانين آية قرآنية نتلوا، في الحض على [النظر]، شواهد من مثل: ﴿فلينظر الإنسان مما خلق.. ﴿أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض.. ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.. ﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها.... ﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.. ﴿فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها..

وفي آيات أخرى نطالع الحث على [التدبر]، فنتلو: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.. ﴿أفلم يتدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين.. ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب..

وتنتشر في سور القرآن الآيات التي تحض على التعقل، والتي تستنفر العقل أداة للوعي والمعرفة، حتى لقد صار شرط التكليف ومناطه، ولب جوهر إنسانية الإنسان.. ﴿إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله في السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون.. وغير هذه الآية، من مثلها، تسع وأربعون آية يأتي فيها هذا المصطلح بلفظه..

وفي [المجادلة]  بمعنى المناظرة  يحض القرآن الكريم على إحسانها والإحسان فيها مع الخصوم: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن.. ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. ويطلب أن تكون المجادلة والمناظرة [بالبينة] ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.. و[بالبرهان] ﴿قل هاتوا برهانكم.. معالم المنهج الإسلامي 54 - 55]..

لذلك نجد أن آيات الذكر الحكيم تعيب على الذين يقفون على مادون علم. قال تعالى: ﴿وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا [النجم 28] ويحذر القرآن الكريم من الوقوف على أي شيء بدون علم ومعرفة. قال تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك بع هلم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا[الإسراء 36]..

والأقوال التي نسمعها ويطلقها الآخرون سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات فإن آيات الذكر الحكيم توجهنا إلى ضرورة الالتزام بمشروع [فتبينوا].. قال تعالى: ﴿يا أيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين [الحجرات 6] [فالمنهج الذي استنفر العقل والنظر والتدبر، والذي جعل التفكر فريضة شرعية، هو الذي علم الإنسان أن نطاق عمله محدود بنطاق مكانته في الكون  مكانة الخليفة  ووظيفته هي أعمال وتأدية رسالة الاستخلاف، ولذلك كانت خشية علماء هذا المنهج من الله هي خشية المدرك لنسبية أدوات الخليفة وحصيلته بالقياس إلى الكلي والمطلق واللانهائي الذي تنفرد وتتفرد به ذات الله: ﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله عزيز غفور.. ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم[2] ..

ونستطيع القول في هذا السياق إن القرآن الحكيم فرض على الانسان المسلم فريضة التفكير، فالباري عزوجل يثيبنا على يقظتنا، ويحاسبنا على غفلتنا. إذ قال تعالى: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [أل عمران 190-191] وعليه نستطيع القول إن استنفار العقل، يستهدف تحريك العقل وتنمية قدراته، وجعله حاضرا في حياة الانسان المختلفة.

[1] السيد محمد تقي المدرسي، الفكر الإسلامي في مواجهة حضارية، ص8، الطبعة الرابعة - المركز الثقافي الإسلامي - طهران.
[2] الدكتور محمد عمارة - معالم المنهج الإسلامي - ص59 - الطبعة الأولى - العهد العالمي للفكر الإسلامي - دار الشروق - القاهرة 1991
كاتب وباحث سعودي «سيهات».