آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:20 ص

من أسرار خلود الثورة الحسينية

علي محمد عساكر *

السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، وأناخت برحلك، عليكم مني سلام الله أبدا ما بقيت، وما بقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم أهل البيت، السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.

لم تكن ثورة عاشوراء التي فجرها الإمام الحسين على أرض كربلاء القداسة والجلال في وجه يزيد بن معاوية وحكومته الطائشة هي الثورة الوحيدة في التاريخ، بل كان قبلها كما حدثت بعدها الكثير من الثورات.

ولكن في المقابل لم يكتب الخلود لأية ثورة كما كتب لهذه الثورة العظيمة، التي ما زالت تنبض بالحياة في وجدان الشيعة خصوصا، وفي ضمير كل حر أبيّ، ينشد العزة والكرامة في الحياة، ويأبى حياة الّذل والخضوع على وجه العموم.

ولا شك أن هناك مجموعة من العوامل الكبيرة والمهمة أدت إلى هذا البقاء والخلود، ولأنه من الصعب جدا عرض جميع تلك العوامل والحديث عنها في هذه الكلمة المقتضبة، فلا بأس بالإشارة إلى عامل واحد منها، إن لم يكن هو أهم تلك العوامل على الإطلاق، فلا شك إنه من أهمها، ألا وهو عامل «القيم الإنسانية» بمعنى أن من ضمن عوامل خلود ثورة كربلاء أنها ثورة من أجل القيم الإنسانية عامة.

والذي نعنيه بهذا الكلام هو أن الإمام الحسين لم يفجر ثورته المظفرة طمعا في ملك، ولا منافسة في سلطان، ولا سعيا وراء حطام، ولا بحثا عن وجاهة... وإنما فجرها دفاعا عن المثل العليا، والقيم الإنسانية الفاضلة، كالعدل، والحق، والحرية، والعزة، والكرامة، والإصلاح في الأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا ما يتجلى لنا من خلال بيانات الإمام الحسين المتعددة، التي بيّن من خلالها أهداف ثورته، وأوضح غاياتها، والتي من أشهرها وأوضحها قوله في وصيتة لأخية محمد بن الحنفية قبل خروجه من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة: «إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي رسول الله، وأبي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين»

وبشيء من التأمل في هذا البيان الحسيني العظيم يمكننا أن نستخلص النتائج التالية:

أولا: لقد افتتح الإمام الحسين بيانه هذا بتنزيه ثورته المقدسة من كل شائبة، أو غرض دنيء، وذلك بأن أكد بأنه لم يكن هدفه من تفجيرها أن يستعلي ولا أن يستكبر في الأرض بغير الحق، أو أن يفسد في البلاد، أو أن يكون ظالما للعباد.

ثانيا: حصر الهدف من ثورته في أنه يريد الإصلاح في أمة جده، وأن يسير فيها بسيرته ﷺ، وسيرة أبيه أمير المؤمنين .

وقد أكد هذا الحصر بأداة «إنما» التي هي أقوى أدوات الحصر، وفي هذا زيادة منه في التأكيد على نفي أن تكون له أية غاية رخيصة من ثورته هذه، وأنه فعلا لا يهدف من ورائها إلا إلى الإصلاح.

ثالثا: بيّن أن ثورته الإصلاحية ليست على مستوى فرد أو أسرة أو مجتمع، بل هي ثورة كبرى، وعلى مستوى الأمة الإسلامية بكاملها.

وهذا يوضح لنا مدى حجم الفساد والانحراف، وأنه لم يكن بسيطا، ولا هو محصور في مجتمع واحد، أو بلدة واحدة، بل هو فساد عظيم، وانحراف كبير، انتشر انتشار النار في الهشيم، وتمدد وتوسع ليشمل الأمة الإسلامية بأسرها.

رابعا: كذلك يجب أن نلاحظ أن الإمام الحسين أطلق كلمة الاصلاح اطلاقا، مما يعني أن ذلك الفساد الذي بليت به الأمة الإسلامية لم ينحصر في أمر معين، بل هو واسع ومتشعب، ويكاد أن يكون شاملا لمختلف الحقول والميادين، فهناك انحراف ديني، وأخلاقي، واجتماعي، واقتصادي، وسياسي...

وكل هذا مما أثبته تاريخ تلك الحقبة الزمنية بما لا مزيد عليه، وهو أيضا ما أكده المصلح الأكبر، الإمام أبو عبد الله الحسين في بعض بياناته المتعلقة بثورته المظفرة، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: «أيها الناس إنّ رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً حرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غَيَّر»

وهذا البيان الحسيني كما يوضح لنا مدى حجم ذلك الفساد وسعته وانتشاره، كذلك يؤكد لنا أن ثورة الإمام الحسين ثورة إصلاحية كبرى وشاملة، هدفها القضاء على الفساد في كل أوطانه بكل أشكاله.

خامسا: لقد بيّن الإمام الحسين أن سبب قيامه بهذه الثورة الإصلاحية المباركة إنما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتكليف شرعي، وواجب اجتماعي، به يكون صلاح المجتمعات، وحفظ القيم الإنسانية، وكذا من أجل إحياء الدين، والسير في الأمة بسيرة جده خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، إذ أن ذلك الدين العظيم وتلك السيرة المطهرة هما الجامعان والحافظان لتلك القيم الفاضلة، وبهما يتحقق ذلك الإصلاح الاجتماعي العظيم.

سادسا: إنما ألحق سيرة أبيه المرتضى بسيرة جده المصطفى، وأوضح أنه يريد أن يسير بهاتين السيرتين الطاهرتين، ليبيّن أنهما - واقعا - سيرة واحدة، إذ أن الوصي هو نفس النبي بشهادة آية المباهلة، وأنه كان يتبع رسول الله إتباع الفصيل أثر أمه في كل شؤونه، ولم يجد له رسول الله كذبة في قول، ولا خطلة في فعل.

سابعا: أكد أنه لا يريد من أحد أن يلتحق به ويسير في ركابه لشخصه، وإنما لسمو رسالته، وقدسية ثورته، وسمو أهدافها، وشرف غاياتها، كونها ثورة محقة، لأنه سيفجرها نصرة للحق الذي هو من أقدس القيم الإنسانية وأعظمها.

وهذا مما يؤكد نزاهة الثورة وطهارتها، وأن مفجرها لم يفجرها إلا من أجل أن يقدم نفسه قربانا، ويذهب شهيدا في سبيل نصرة الدين، وحفظ كرامة الإنسان، وصون شرفه وحريته.

ثامنا: أكد أنه في حال ردت الأمة عليه، وتخاذلت عن نصرته في ثورته التي لم يقم بها إلا من أجلها، فإنه سيصبر حتى يحكم الله بينه وبين القوم وهو خير الحاكمين.

وهو تأكيد يبيّن مدى عزم الإمام الحسين على تفجير ثورته الإصلاحية الكبرى، وثباته على موقفه في مواجهة يزيد وحكومته الطائشة، التي هدرت كرامة الإنسان، وسلبته حريته، حتى لو أدى الأمر إلى أن يستشهد هو وأهل بيته وأصحابه في سبيل استعادة تلك الكرامة المهدورة، واسترجاع تلك العزة المنهوبة، والحرية المسلوبة، وهو ما عبّر عنه بقوله : «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»

وكل هذا يؤكد لنا - وبما لا يدع مجالا للشك والريب - أن ثورة الإمام الحسين هي فعلا ثورة مثل عليا، وقيم فاضلة، ومبادئ كريمة، عنوانها «الحق» وهويتها «الصدق» وغايتها «العدل» وشعارها «العزة والكرامة والفضيلة» بكل ما لهذه القيم الإنسانية الفاضلة من معنى جامع مانع.

وهذا - كما أشرنا - من أهم عوامل وأسرار خلودها منذ تاريخ تفجيرها سنة «61» للهجرة وإلى يوم الناس هذا، وستبقى حية وخالدة في الضمير الإنساني، يتغنى بها كل الأباة والأحرار في العالم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك أن مما تتصف به القيم الإنسانية العليا الخلود والبقاء، فهي لا تبلى ولا تفنى، ولا تؤثر فيها عوامل الزمان والمكان، فمهما تقدم الإنسان وتطور في حياته سيظل محتاجا إلى تلك القيم، متيما بحبها، لميله الفطري إليها، وجبلته الإلهية عليها، ولعلمه اليقيني بأنها زينة الحياة الدنيا، وأن الحياة من دون قيم ولا أخلاق تتحول إلى جحيم لا يطاق.

ولأن ثورة أبي عبد الله هي ثورة هذه المثل والقيم، خلدت بخلودها، وبقيت ببقائها، وجذبت الناس إليها كالمغناطيس، وحظيت بما لم تحظ به أية ثوة أخرى في التاريخ من الاحتفاء والاهتمام.

ولم يكن الاحتفاء بهذه الثورة المظفرة منحصرا في لون دون آخر، ولا في طائفة دون أخرى، ولا في أصحاب دين دون آخر، بل تمّ الاحتفاء والاهتمام بها تاريخيا وفكريا وثقافيا وأدبيا وفنيا... من مختلف الطوائف والملل والنحل، فتم توثيقها في المؤلفات التاريخية العامة والشاملة، وفي المؤلفات التاريخية الخاصة بها المقصورة عليها، كما كتبت حولها وفيها المقاتل والمجالس، وقدمت عنها الدراسات الثقافية والتحليلية والنقدية، وصولا إلى الروايات والمسرحيات والرسم والشعر والأدب... سواء باللغة العربية أو غيرها، حتى استطاعت هذه الثورة العظيمة أن تغني الفكر الإنساني على مختلف الأصعدة والمستويات بما لم تغنه أية ثورة أخرى في التاريخ، كما حوالنا تأكيد ذلك وإثباته في عدة أطروحات لنا سابقة، منها موضوعانا «الإمام الحسين: حياة دائمة وملك عاملي» وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.