قصة قصيرة
ذئاب الذكريات نائمة
لم تكن عبير ابنة عمي خياري بين عدة بنات، بل كانت اختياري الوحيد، فأنا لم أعرف غيرها، بل لم أكن أرى سواها رغم كل فتيات الجيران والأقارب، كانت بمثابة غروب الشمس لصائم في صيفٍ حارق.
كنا نسكنُ في بيتٍ واحد ورثه أبوانا عن جدنا، وكبرنا سوية، كنا نلعب في البيت معاً، ونذهب برفقة والدتينا أينما ذهبتا، ونتنافس على الوصول للمنزل ركضاً عند العودة.
أتذكر ذات مساء كنت أعبث برأس «القدو» فأحرقت أصبعي، أمسكت يدي وجعلت تهف مكان الوجع وهي تنظر إليّ وهي تتوجع لوجعي، وقتها نسيت الألم وقمت أركض معها نقطع «حوش» البيت ذهاباً ومجيئاً.
ثم فجأة تغيرت عليّ عبير، فلم تعد تلعب معي، ولا حتى ترضى أن أمسك يدها، ولم تعد أمي تأخذني معها عندما تخرج، وألبستها أمها عباءةً كالكبيرات اللائي صارت ترافقهن أين ما ذهبن.. فزاد تعلقي بها والتلصص عليها، ومحاولة لفت نظرها، حتى أنني أصبح أحسن لاعب للكرة إذا رأيتها تمرّ قريباً من ساحة لعبنا.
صرت كالقمر يتبعها أينما طافت، وصارت كالسماء أينما وجهت قلبي ثمة وجهها.
وعندما توفيت أمها قررت أختها سعاد أن تأخذها لترعاها، فابتعدت عني وصرت لا أراها إلا قليلاً، ومن خلف الحُجب، فتلاقفتني أمواج الحب وأحرقت بنارها أوتار قيثارتي، فهربت إلى غاباته أبحث عن عبير ياسمينة يدواي عطشي، وكلما تهت فتشت عن قلبي فأعثر عليه في حيهم، وأعود كل ليلة أبى النوم أن يصالح مقلتي لأحدث عنها نجمة عبر النافذة.
وعندما قررتْ أمي أن تزوجني، سألتني: ”تبغى نخطب لك مِنْ؟“.. أجبتها فوراً: عبير.. ثم نكست رأسي خجلاً تحت قهقهات أخواتي وأمي.
بعد أيام دخلتُ البيت فوجدت الجوّ مكهرباً، وكأن حدثاً خطيراً سيقع، والوجوه تتلفت، والعيون تختبئ، قامت أمي وأشارت لأختي برأسها قبل أن تغادر، ثم تبعها من بقي، قالت أختي الكبرى وهي تسترق الكلمات: لقد جاء الجواب بالرفض.
⁃ ماذا؟ عبير ترفضني؟ لماذا؟
⁃ تقول أنك مثل أخيها
⁃ أخوها؟
⁃ نعم
⁃ وماذا يعني هذا الكلام؟
⁃ إنه رفض بأسلوب مهذب، ولا تنس أنها جامعية وأنت لم تكمل الثانوية.
بعد عشر سنوات من الانشغال والنسيان ظهرت أمامي طفلة تمسك بيد أمها.. طفلة تشبه تلك التي كانت تلعب معي، فانفتح باب الوجع، وهاجمتني ذئاب الذكريات.