الحاجة إلى المسيحيين العرب
يتعرض المسيحيون وبقية الأقليات في المشرق العربي، إلى محنة جديدة، حيث القتل والتهجير وإخضاع مناطقهم بالقوة العسكرية الغاشمة للجهات الغالبة، التي تمارس كل فنون تجاوز مقتضيات العدالة في التعامل مع مختلف مكونات وتعبيرات شعوب منطقة المشرق العربي.
ولو تأملنا قليلا في تاريخ هذه الأقليات، نجدها إنها باستمرار تعاني الويلات والصعوبات من مصدرين أساسيين وهما:
الاستبداد السياسي الشمولي، والذي ينظر إلى وقائع التعدد والتنوع في المنطقة نظرة شوفينية، تتحول حين الغلبة السياسية إلى سياسات تطهير وإخضاع قسري لكل هذه الأقليات ومنعها بقوة الحديد والنار من التعبير عن خصوصياتها الدينية والثقافية لذلك حيثما سيطرت قوة الاستبداد السياسي على مقاليد دولة أو منطقة، فإن الناتج العملي لذلك على هذا الصعيد، يساوي دخول الأقليات في محنة الاستئصال والتعامل معهم بوصفهم طوابير خامسة لأعداء الأمة التاريخيين والحضاريين.
والمصدر الآخر هو جماعات التطرف والإرهاب الديني والذي تتعامل مع مغايرها الديني والسياسي بوصفه خصما يجب اقتلاعه وتدميره وإخضاعه بالقوة العارية إلى أجندة جماعات التطرف الديني.
وما تشهده العراق وسوريا من أحداث وتطورات تتعلق بالوجود المسيحي في هذه المناطق، يؤكد هذه الحقيقة وإن هذه الأقليات مع توسع وتمدد قوى التطرف الديني وعلى رأسها داعش في السيطرة على بعض المناطق في العراق، بدأت مهددة في وجودها، وأنها من الناحية الفعلية تواجه خطر الاستئصال وتدمير كل مناطقهم وتحويلهم إلى شتات بشري يهيم في أرجاء المعمورة.
وما نود أن نقوله في هذا السياق، هو أن هذه الوجودات بثقافاتها وتاريخها هي ضرورة من ضرورات الوجود والاستقرار في المنطقة العربية، وإن إنهاء أو محاربة حالة التنوع الديني والثقافي الموجود في المنقطة العربية، يعني المزيد من إفقار المنطقة ثقافيا وحضاريا، وهيمنة خيارات سياسية تمعن في تصحير الواقع العربي. لذلك فإن الدفاع عن راهن العرب ومستقبلهم الحضاري والسياسي، يقتضي الدفاع عن أقليات العالم العربي، ومنع كل محاولات استئصالهم أو تهجيرهم من المجتمعات العربية.
وإن الصمت أزاء ما يتعرض إليه المسيحيون والايزيديون في العراق، يفضي عبر التسلسل المنطقي إلى تفتيت المنطقة العربية على أسس دينية وأثنية وطائفية. وإن الوحدة الفعلية لدول المشرق العربي، لا يمكن أن تتحقق في ظل هذه التطورات والظروف إلا بحماية حقائق التعدد الديني والأثني الموجود في دول المشرق العربي.
لأننا نعتقد أن نجاح قوى الاستبداد والتطرف الديني في تهجير الأقليات الدينية والقضاء على أسباب الحيلة في مناطقهم، يساوي على المستوى السياسي المزيد من انكشاف هذه المنطقة سياسيا وأمنيا، مما يهدد استقرارها العميق ويدخلها في أتون الصراعات الدينية والطائفية. فالدفاع عن العراق الموحد وسوريا الموحدة، يقتضي من جميع القوى والتعبيرات الوحدوية الدفاع عن الأقليات الدينية والأثنية في العراق وسوريا.
لأن هذه الدولة بدون أقلياتها الدينية والأثنية، ستتحول إلى مجموعة دويلات طائفية متقاتلة مع بعضها على كل شيء.
ولا وقف للانحدار صوب التشظي الجغرافي والاجتماعي إلا بالدفاع وحماية حقائق التنوع الديني والأثني. فالوجود المسيحي في المشرق العربي، هو أحد مصادر الثراء الثقافي والأدبي والاجتماعي والحضاري، وإن التضحية بهذا الوجود يعني التضحية بالتاريخ المشترك والمصير المشترك وحيوية مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
فالمجتمعات الحضارية قائمة في جوهرها على قيم التفاعل بين مختلف الروافد الثقافية والحضارية والحوار بين الثقافات وهذا لا يمكن تحقيقه في الواقع العربي بدون حماية الوجود المسيحي في المنطقة العربية.
وخلاصة القول في هذا السياق: أنه لا وحدة حقيقية وصلبة لمجتمعاتنا بدون حماية حقائق التنوع والتعدد في هذه المجتمعات. وإن التضحية بحقائق التنوع يساوي على المستوى العملي التضحية بوحدة المجتمعات والدول في منطقة المشرق العربي.
وإن مجتمعاتنا بدون هذا التنوع الديني والثقافي والحضاري، ستتحول إلى صحراء قاحلة لا تنمو فيها المدنية وستخبو فيها إمكانية التقدم الحضاري والإنساني.
وإن جماعات الإرهاب والتطرف الديني التي تحارب حقائق التعدد والتنوع في مجتمعاتنا، هي الخطر المحدق والماثل التي تريد أن تعيد مجتمعاتنا إلى مرحلة الصراعات الدينية والطائفية لتدمير ما تبقى من العرب على المستويين السياسي والحضاري.
من هنا فإننا مع حماية الوجود المسيحي بكل وسائل الحماية، ومع تطوير نظام مشاركتهم في الحياة العامة ومع تفعيل القدرة السياسية والاجتماعية على التعايش والتفاعل مع التعدد الديني والأثني والمذهبي. فالوجود المسيحي في المنطقة العربية ضرورة قومية، يجب المحافظة عليه، وبدون هذا الوجود وتفاعله الإنساني والثقافي والسياسي والحضاري، تتحول المنطقة العربية إلى منطقة طاردة إلى احد عناصر قوتها وتميزها. والصمت أزاء تضييع احد عناصر القوة في المنطقة العربية، يعد خيانة قومية لايجوز السكوت عليها. وعليه فلتتجه الطاقات العربية المختلفة إلى حماية كل الأقليات الموجودة في البلدان العربية، ولابد أن يتذكر الجميع أن حماية الأقليات في المنطقة العربية هو في حقيقة الأمر حماية لوجودنا النوعي والحضاري. فالدفاع الحقيقي عن العالم العربي يقتضي في هذه اللحظة الدفاع عن كل التنوع الموجود في المنطقة العربية.