الحوار الوطني وآفاق الوحدة الوطنية
في معنى الحوار
حين التأمل في المشهد السياسي بكل مستوياته، نكتشف أن الصراعات والنزاعات الدائمة، لا تنشأ بسبب وجود الاختلاف والتنوع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها. والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها.
وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجددا ومعا في النظر إلى الأمور. وإن عظمة أية ثقافة في انفتاحها، وقدرتها على تأصيل مفهوم الحوار والنقد في مسيرتها، فثمة أشياء ومعارف عديدة يتم الاستفادة منها من جراء الانفتاح والتواصل والحوار.
والثقافة التي تصطنع الانفصال والانغلاق تبتر التاريخ وتقف موقفا مضادا من الوعي التاريخي. كما أن الثقافة الحوارية، هي المهاد الضروري إلى التقدم الاجتماعي والسياسي والحضاري.. فالحوار يعيدنا جميعا إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوي خيارات التواصل والتعارف، ويدفعنا جميعا إلى التخلي عن تلك الخيارات العنفية والتي تمارس النبذ والإقصاء..
وعليه فإن الحوار بكل مستوياته، هو ضرورة لنا جميعا، وذلك من أجل تعميق وتوسيع المساحات المشتركة، وبلورة أطر وأوعية للفهم والتفاهم المتبادل، ولكي تتراكم أعراف وتقاليد حوارية تسود في كل دوائرنا الاجتماعية والوطنية.
ومن الضروري في هذا الإطار، أن نفرق بين مفهوم الحوار ومفهوم الجدل.. إذ أن الأخير لا يتعدى العمل على إثبات تفوق الذات على الآخر عن طريق مهاجمته أو الدفاع حيال هجمات الآخر.. بينما الحوار يتجه إلى تفكيك واقع سيئ يضغط على كلا الطرفين أو الأطراف المتعددة، لذلك فهو يستهدف معالجة مشكلة علمية أو عملية، فردية أو اجتماعية، راهنة أو مستقبلية. لهذا فإن عملية الحوار تسعى في مضمونها وأشكالها إلى توسيع المساحات المشتركة وضبط النزعات الاستئصالية الإلغائية، والعمل على بلورة الأهداف والتطلعات المشتركة.
وبهذا يبتعد مفهوم الحوار السليم عن المماحكات والسجالات العقيمة والتي تزيد من الجفاء والتباعد، ولا توفر مناخا نفسيا واجتماعيا للمزيد من التعارف والتواصل. فالحوار هو الاستماع الحقيقي للأقوال والأفكار والآراء والقناعات، وعقد العزم على إتباع الأحسن والأجود.. إذ يقول تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.. «سورة الزمر، الآية 17 - 18»..
فالسجال الأيدلوجي أو الفكري أو السياسي، هو هجوم ودفاع، إفحام ومماحكة. بينما الحوار فهم وتفاهم، تعارف وتواصل، اشتراك مستديم في صنع الحقيقة والرأي المشترك.
من هنا فإن الحوار ليس حلا سحريا لمشكلاتنا وأزماتنا، وإنما هو بوابة امتلاك الرؤية السليمة لمعالجة المشاكل والأزمات. وإننا كشعوب ومجتمعات، وكأفراد وجماعات، لا نمتلك أفضل من خيار الحوار لتفاهمنا المشترك أو لمعالجة مشاكلنا أو لضبط اختلافاتنا. فالبديل الحقيقي عن الحوار، هو المزيد من المماحكات والشحناء والبغضاء، والتي تفضي بدورها إلى الصراعات والحروب والتي تدمر كل شيء، ولا رابح حقيقي منها.
فالحوار قيمة إسلامية وحضارية، أرساها النص القرآني، وعمل المسلمون على ضوئها وهديها في علاقاتهم الداخلية ومع الآخرين. ويقول عز من قائل: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.. «سورة آل عمران، الآية 64»..
فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش. لذلك ينهي القرآن الحكيم عن المراء والجدال الذي لا يفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات والثوابت، ويوجد مناخا نفسيا يحول دون تنمية الجوامع المشتركة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾.. «سورة الأنعام، الآية 159»..
لذلك فإننا مطالبون، أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعا بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا. والحوار قبل أن يكون أطرا وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا.
لذلك فهو لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف، وإنما تضييق مساحات الخلاف والنزاع، وإبراز عناصر الوحدة والائتلاف. فمن ساحة الحوار تنتج الوحدة وتتعمق موجباتها، وبالحوار تضمحل الخلافات وتزول أسباب الصراع العنفي.
وبدون إرساء دعائم الحوار المتواصل مع تعبيرات الأمة ومؤسساتها وفعالياتها المتعددة، يتم التعامل مع العديد من القيم والمبادئ كتهويمات أيدلوجية مجردة عن وظيفتها الحضارية، وبعيدة عن كل البعد عن النسيج المجتمعي. وهكذا فإن الإنسان، لا يجسد قيمه إلا بالمزيد من الحوار. حوار الإنسان مع ذاته، وحواره مع دوائره الاجتماعية المتعددة، وحواره مع ظواهر الطبيعية لمعرفة أسرارها لتسخيرها بما يخدم العمران والتقدم الإنساني.
ولكي نصل إلى المستوى الأخلاقي لممارسة الحوار بعيدا عن المسبقات الفكرية أو المواقف الجاهزة، نحن بحاجة إلى مجاهدة النفس، والتغلب على الأهواء والنوازع الضيقة، والانعتاق من كل أشكال التعصب الأعمى للذات أو لأفكارها وقناعاتها، والسعي الحثيث نحو الاقتراب من الآخر، ومحاولة فهمه بشكل مباشر، وذلك من أجل أن يكون الحوار في الداخل العربي والإسلامي، هو الأصل والثابت الذي لا نحيد عنه، مهما كانت النوازع ومهما كانت المشكلات التي تحول دون ذلك..
ومن الأهمية بمكان وعلى جميع الصعد والمستويات، أن لا تدفعنا اختلافاتنا الفكرية والسياسية إلى القطيعة والجفاء والتباعد، وإنما ينبغي أن تكون هذه الاختلافات مدعاة إلى الحوارات العميقة، لا لكي نتنقل في قناعاتنا، وإنما من أجل أن نتعرف على وجهات نظر بعضنا البعض، ومن أجل إزالة الاحتقانات النفسية المصاحبة للاختلافات الفكرية والسياسية، ولكي يتم تنشيط دور الجوامع المشتركة بين الجميع، بحيث الاختلافات لا تلغي المشتركات وتحول دون ممارسة دورها ووظيفتها في الحوار والتعاون والتضامن..
وإن ما نشهده من أحداث وتطورات في العديد من مناطق المجال الإسلامي، تدفعنا وتلزمنا إلى ضرورة التأكيد على قيمة الحوار بين مختلف مكونات الأمة ومؤسساتها المتعددة. لذلك فإننا ينبغي أن نتعامل مع مفهوم الحوار باعتباره خيارنا الوحيد لتعميق مشروع التفاهم والتعايش.
فالحوار هو طريق إجلاء الحقائق والوصول إلى صيغ لتفعيل المشترك الوطني والإسلامي والإنساني، وسبيلنا للحفاظ على مكتسبات الأمة والوطن. لقد عانت شعوبنا الويلات ومازالت تعاني من جراء التعصب وسوء الظن والنزوع الاستبدادي والعقلية المتحجرة التي تساوق بين أفكارها ومشروعاتها وبين الحق والحقيقية.
والدرس العميق الذي ينبغي أن نستفيده من تجارب العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، التي عانت ومازال بعضها يعاني من العنف والتطرف والقتل المجاني والحروب العبثية هو: أن الحوار بكل مستوياته، هو مشروعنا لصون الحرمات، وحل المشكلات، وإدارة التنوعات والاختلافات.
وبالحوار في دوائر الوطن والأمة، يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامية اجتماعية جديدة، تتجه صوب التطلعات الكبرى للوطن والأمة..
لذلك فإن المطلوب دائما، هو الانخراط في مشاريع وبرامج حوارية على المستويين الوطني والإسلامي، وذلك من أجل إرساء تقاليد للحوار والتفاهم والتعايش والتواصل، وحتى يتعمق خيار المنافسة السلمية وبوسائل ديمقراطية، لا تلغي ما عدانا، ولا تضخم ذواتنا، بحيث لا نراها إلا هي على مستوى الوجود والممارسة المتميزة.
وبالتالي فإن مفهوم الحوار، ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية.. والإنسان الذي لا يحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير، لن يستطيع أن يطور علاقاته وأنماط إنتاجه مع المتفقين معه. وذلك لأنه يفتقد للقدرة المؤهلة لترتيب علاقته مع كل الدوائر المحيطة به. مما يجعله فاقدا للإمكانية اللازمة لتنمية أسباب العلاقة وعوامل التعاون بينه وبين نظراءه على مستوى الفكر والمعرفة، وعلى مستوى الفعل والممارسة.
قواعد منهجية في الحوار الوطني
في إطار الوعي العميق بطبيعة التحديات والمخاطر التي تواجهنا، تتأكد ضرورة تصليب الوحدة الوطنية وإزالة كل الشوائب والرواسب التي تضر بشكل أو بآخر بمفهوم وحقيقة الوحدة الوطنية.
فالوحدة الوطنية ليست مقولة تقال أو خطابا يلقى، وإنما هي ممارسة متواصلة ومشروع مفتوح على كل والمناقبيات والمبادرات التي تزيد من رص الصفوف وتوحيد الكلمة وتمتين مستوى التلاحم الوطني.
وهذا بطبيعة الحال، لا يتأتى إلا بالمزيد من السعي والعمل والكدح على تكريس أسس هذه الوحدة ومتطلباتها في الواقع الاجتماعي. ولا ريب أن الحوار بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو من المدخل الأساسية التي تساهم في تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية. إذ بالحوار نستطيع أن نفهم بعضنا، وبه تتكرس قيم التواصل والتفاهم، ومن خلال تقاليده وآدابه ونتائجه نتخطى واقع الانقسام وحالات الجفاء والتباعد. وبالتالي فإن الحوار الوطني المستديم، هو الذي يمد واقع الوحدة الوطنية بالمزيد من الحيوية والفاعلية.
وذلك لأن الحوار المفتوح على كل القضايا والأمور والذي يدار بشفافية ونزاهة، فإنه يساهم في تجلية حقائق الوحدة الوطنية، ويجعلها على قاعدة صلبة من الوعي والمعرفة والإيمان.
والقرآن الحكيم ومن خلال العديد من آياته الكريمة، أرسى دعائم وأخلاقيات الحوار، وجعله من الحقائق المنبثقة في الكثير من الآيات القرآنية. وقد سجلت آيات الذكر الحكيم، الكثير من نماذج الحوار، فهناك حوارا مع رمز الشر والغواية «إبليس»، كما هناك محاورات مع رمز الخير «الملائكة». وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد إلى أن الحوار وفي كل القضايا العقدية والثقافية والاجتماعية والسياسية متاحا، ولا مانع من الحوار مع كل الأفكار والقناعات والتعبيرات.
وعلى ضوء هذا نستطيع القول: أن الحوار كقيمة ومبدأ وممارسة، ليس موقفا تكتيكيا ومرحليا في حياة الإنسان المسلم، بل هو خياره في الحياة ووسيلة للتواصل مع الآخرين وسبيله إلى الإقناع والدعوة. أن القرآن الحكيم جرد الحوار من ذاتية المتحاور، فلم يكن كما يقول المتحاورون: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. بل جعل المتحاورين لا يتبنيان شيئا، حتى لو كانا في العمق ملتزمين التزاما حاسما حول هذا الموضوع. فعلى لسان النبي ﷺ الذي جاء بالصدق وصدق به ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾. «سورة سبأ آية24» حيث يعتبر أن هناك حقيقة، وأن هناك شكاً مشتركاً، وأن الطرفين يريدان أن يحركا هذا الشك في طريق اليقين حتى يلتقيا بالحقيقة.
فالقرآن الحكيم يؤسس لمنهجية مثالية للحوار في الدائرة الإنسانية في كل همومها وقضاياها. فليس حواراً بين ذوات تحمل مسبقات وأعباء تاريخية وواقعية تجاه بعضها، وإنما هو حوار بين أفكار وقناعات بعيدا عن أصحابها، وبخلق المسافة الموضوعية بين الذات والأفكار وتوجه الحوار إلى الأفكار والقناعات، هو الذي يجعل الحوار هو الوسيلة الرائعة لتعميق التواصل الإنساني، ويتم التعاطي والتعامل مع مجموع الأفكار والقناعات بدون حساسية أو خوف.
وبهذا يمنحنا الحوار جميعا الوضوح والشفافية في النظرة والتعامل مع الآخر، كما يمنح الوضوح التام في نظرته إلى الذات. لهذا فإن الحوار في دوائره المتعددة قبل أن يكون أطرا وأوعية وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي صادق للتعاطي مع المختلفين بعقلية حوارية مستديمة بعيدا عن التشنج والتعصب.
فالأحاسيس والاستعدادات النفسية لدى كل أطراف الحوار، يجب أن لا تتجه إلى تصعيد الخلافات، بل إلى القبول بالآخر والاعتراف به على مختلف المستويات. وذلك لكي يتسم الحوار بالموضوعية الذي يتجاوز المشاعر والأمزجة الذاتية، ويعتني بالأفكار والقناعات المشتركة.
ولذلك نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد على أهمية العدل في القول والفعل، في حالات الغضب والرضا، وأن هناك علاقة عميقة بين العدالة والتزام جانب الموضوعية في تنوعنا وخلافاتنا ونزاعاتنا. إذ يقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.. «المائدة، الآية 8».
فحينما تختلف مع الآخر، ينبغي أن لا يدفعك هذا الاختلاف إلى اتهامه بما ليس فيه أو تحميله مسؤولية أخطاء الآخرين. وإنما ينبغي أن تلتزم بمقتضيات العدالة والموضوعية، وتتعاطى مع شؤون الآخرين وقضاياهم المتعددة وفق مقتضيات العدالة والمساواة.
لهذا فإن منهجية الحوار السليمة، تقتضي منا جميعا التخلص من كل الرواسب النفسية والثقافية التي لا تقبل الآخر، وتثير أمامه زوبعة من الشائعات والاتهامات بدون أي سند وبدون أي مبرر سوى اختلافه معه. فالاختلاف مهما كان شكله أو مستواه، لا يشرع للإنسان الظلم أو إطلاق الشائعات والاتهامات الرخيصة أو التنابز بالألقاب أو قذفه بأقذع الشتائم وألوان السباب.
فالعدالة والموضوعية في عملية الحوار، هي التي تخرجه من جانبه الجدلي السجالي الذي يستهدف تسجيل نقطة وإلزام الآخر دون أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة. وبذلك يعتبر كل طرف نفسه أنه مع الحقيقة التي لا يمكن أن يحيد عنها، ويعتبر الطرف الآخر خارجا عن نطاق الحق والحقيقة. ويتحول الحوار من جراء ذلك، إلى محاولة متبادلة لإقناع الآخر بقناعات الذات دون أن نعطي لأنفسنا جميعا فرصة الإنصات أو التفتيش عن الحقيقة لدى الآخر. فغياب الاستعداد النفسي للتعامل مع الآخر على حد سواء، هو الذي يفقد الحوار حيويته، ويحوله في حال وجوده إلى مماحكات وسجالات تشحن النفوس وتزيد من الحواجز والموانع وتحول دون التفاهم المتبادل.
لهذا نجد آيات الذكر الحكيم، تؤكد على ضرورة التقيد بالضوابط الأخلاقية والإنسانية، وأنه مهما كانت الخلافات والتباينات فإنها ليست مدعاة لتجاوز مستلزمات النيل مع الآخرين. قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾ «فصلت، الآية 34». وبالتالي فإن الاختلاف والتباين في وجهات النظر، لا يشرع لاستخدام الأساليب العدوانية كالشتم والسب والاتهام الرخيص. بل نجد القرآن يؤكد على رفض هذا الأسلوب «على حد تعبير أحد العلماء» في مواجهة الكافرين، في ما يختلف فيه الكفر عن الإسلام، ما يوحي بأن القضية تتجه إلى خطورة أكبر، عندما تتحرك التجربة في الواقع الإسلامي في خلافات المسلمين الاجتهادية في علم الكلام أو الفقه أو نحو ذلك.. وهذا هو ما جاء به قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.. «الأنعام، الآية 108». فإذا كنت ترفض فكرة ما أو ممارسة معينة، فلا يكون السباب هو أسلوب التعبير عن الرفض، أو التشنيع وسيلة المواجهة، بل لا بد أن تنطلق الأساليب في دائرة الحجة والبرهان من أجل تكوين القناعات على أساس ثابت بعيدا عن المماحكات والتنابز بالألقاب. فالخلافات في الدائرة الاجتماعية والثقافية والسياسية ومهما كانت قسوتها وطبيعتها، ينبغي أن لا تلغي حالة الإحساس العميق بالوحدة والمشترك الإنساني.
فالأجواء المشحونة بالشك والريبة، لا يمكن تجاوزها إلا بالحوار المتواصل والتخاطب عن قرب والإنصات الواعي إلى الحجج والبراهين.
فالمسألة الحقيقية والجوهرية، ليست خلافاتنا وتباين وجهات نظرنا، وإنما في كيفية إدارة هذه الخلافات في كل القضايا والأمور. وإذا أردنا أن تكون إدارتنا لخلافاتنا بصورة منسجمة وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف التي توجهنا إلى ضرورة التركيز على الحجة والدليل والقول والدفع بالتي هي أحسن، فما علينا إلا الالتزام بالمنهجية السليمة للحوار، التي تتشكل من العناصر التالية:
1 - إخراج الذات من دائرة الاختلاف. وهذا يقتضي أن نعتبر أنفسنا جميعا مختلفين ضمن مختلفين. وتوفير مسافة موضوعية بين ذواتنا وأشخاصنا وأفكارنا وقناعاتنا، حتى يتم الحوار بانسيابية وبعيدا عن الحساسيات والمسبقات التي قد تجهض مشروع الحوار.
2 - الاستعداد النفسي الدائم للقبول بروحية وجوهر الحوار، الذي يتطلب الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا وروحا ومشاعر.
3 - الالتزام بمقتضيات العدالة والموضوعية، ونبذ الأساليب العدوانية التي تشحن النفوس وتمنع العقول من فهم المقولات والقناعات على نحو سليم.
4 - الاستناد على منهج الدليل والبرهان، ونبذ حالات الاتهام والتشنيع بكل مستوياته. حيث أن المنهجية السليمة للحوار، تقتضي أن لا نطلق الأحكام على بعضنا البعض جزافا، وإنما نحن بحاجة بشكل دائم إلى المعرفة والتعارف، وإلى الفهم والتفاهم القائم على الوعي والعلم.. فالحوارات العلمية المرتكزة على القواعد العلمية الدقيقة، هي التي تطور مستوى المعرفة المتبادلة، وتخرجنا من دهاليز الريبة وسوء الظن.
والتحديات الداخلية والخارجية، تلزمنا جميعا إلى تعميق خيار الحوار والتواصل في أجواءنا الداخلية، باعتباره هو الطريق الحضاري لتعزيز مفهوم الوحدة الوطنية، وتجاوز كل المخاطر التي تواجهنا في مختلف المجالات. من هنا فإن الحوار الوطني، لا يستهدف فقط التعارف بين مدارس المجتمع وتوجهاته المتعددة، بل يستهدف أيضا صوغ برنامج وطني متكامل، يتبنى العيش المشترك والسلم الأهلي واحترام حقوق الإنسان وتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
لذلك كله فإننا نرحب بكل مبادرة وطنية للحوار والتواصل، ونتطلع إلى أن تسود ثقافة الحوار والتسامح كل محيطنا وفضائنا الاجتماعي والثقافي.
وإننا اليوم بحاجة إلى جهود حقيقية لتعزيز هذا الخيار وتجاوز كل ثقافة ونهج استئصالي، لا يودي بنا إلا إلى المزيد من الإرباك والضياع.
ويخطأ من يتعامل مع مبادرات الحوار بعقلية الخاسر والرابح أو الغالب والمغلوب. وذلك لأن الوطن كله هو الرابح حينما تسود لغة الحوار وتتكرس تقاليد التواصل، وننبذ جميعا داء الاستئصال والعنف.
من الحوار المذهبي إلى الوحدة الوطنية
في البدء من الضروري أن نتساءل: كيف يتعمق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع تتعدد فيه المذاهب والطوائف الإسلامية، وذلك لأنه في بعض الحقب التاريخية من تاريخنا العربي والإسلامي، ولعوامل سياسية اجتماعية عديدة، تحول هذا التعدد المذهبي إلى حالة من الصراع المفتوح، التي استخدمت فيه جميع الأسلحة، بهدف قضاء كل طرف على الآخر..
ولا ريب أن التخلف كنمط عقلي وسلوكي، هو الذي يهيئ جميع الظروف، لاستنبات هذه الصراعات، وتجذير هذه التوترات في الساحة الاجتماعية. حيث إننا حينما نقرأ التجربة العربية والإسلامية من منظور سوسيولوجي، نكتشف أنه في زمن هيمنة التخلف وسيطرة عقلية الانحطاط، تسود وتبرز الصراعات المذهبية والطائفية، وتعود الانقسامات التاريخية إلى السطح. أما حينما يكون العرب والمسلمون في حالة اجتماعية وحضارية متقدمة، تتراجع الانقسامات التاريخية إلى الوراء، ولا يكون لها مفعول مباشر في الحدث الاجتماعي والسياسي.
وهذا يجعلنا نقرر حقيقة أساسية وهي: أن الأرضية الحقيقية للانقسامات المذهبية التاريخية ودورها التمزيقي في الوطن والأمة، ليست في وجود مدارس فقهية وفكرية متعددة في الفضاء المعرفي والاجتماعي الإسلامي، وإنما التخلف بآلياته ومنتوجاته الاجتماعية والفكرية، هو الذي يشكل الأرض الخصبة لنمو هذه الانقسامات، وتمزيق أواصر الوحدة الإسلامية والوطنية..
لهذا فإننا نرى أن وجود مدارس فقهية ومذهبية متعددة في التجربة العربية والإسلامية سلاح ذو حدين.. فحينما يكون وضعنا السياسي والاجتماعي، يقع تحت تأثير نمط التخلف والانحطاط، فإننا ننظر إلى هذا التعدد في الاجتهادات الفقهية والفكرية كأحد العوامل الأساسية لواقع التقسيم والتجزئة الذي يعيشه عالمنا العربي والإسلامي. وفي المقابل إذا كان وضعنا السياسي والاجتماعي سليما، فإننا ننظر إلى هذا التعدد باعتباره ثروة ودليل حيوية الحياة العربية والإسلامية، التي استطاعت أن تنتج مثل هذه الأفكار، وتنجب مثل هؤلاء العباقرة والعلماء الأفذاذ.
لهذا فإن مربط الفرس في هذه المسألة، هو في طبيعة العقل والفكر السائد في المجتمع، الذي يحدد الموقف من واقع التعدد المذهبي والفكري. وبهذا يمكننا القول أن وجود الاجتهادات التاريخية المختلفة في التجربة العربية والإسلامية، بإمكاننا أن نجعله وسيلة فعالة من وسائل التأصيل لواقع التعدد والاختلاف في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر.
كما بإمكاننا أن نجعله وسيلة تدميرية لكل القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الوطن والأمة الواحدة.
وعليه فإن مهمتنا اليوم، ليس الانحباس والتقوقع في تلك الانقسامات التاريخية، وإنما مهمتنا الأساس تتجسد في بلورة الوعي الحضاري لدينا تجاه تلك الاجتهادات الفقهية والفكرية.. حتى لا تكون عاملا سيئا في واقعنا المعاصر.
فلا يمكننا أن نرجع عقارب الساعة إلى الوراء، ونصيغ أحداث التاريخ وفق ما نشتهي ونريد، وإنما الشيء الذي نقدر عليه، ويفيدنا في حاضرنا، هو النظر إلى التاريخ باجتهاداته المختلفة، ومدارسه المتعددة، وأحداثه المضطربة نظرة حضارية.
والنظرة الحضارية إلى الواقع التاريخي تعني:
أن واقع الناس هو وليد كسبهم ونشاطهم، ولا يمكننا نحن اليوم أن ننزوي عن حاضرنا أو نبتعد عن مسؤولياتنا الوطنية والحضارية. ونلجأ نفسيا وعمليا إلى أمجاد الماضي، ونعيش أحلامه وأحداثه، وإنما من الضروري التفكير الجدي من أجل أن نكون الامتداد الحضاري لذلك الكسب التاريخي.
فالوعي الحضاري هو الذي يوقف زحف العصبيات التاريخية، ويمنعها من التشكل والتجسيد الاجتماعي العصبوي المغلق. وإنما يستفيد منها في إثراء مفهوم الوحدة الوطنية، القائمة على التنوع الطبيعي والتاريخي..
وإن النواة الأولى لتعميق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع إرثه التاريخي متعدد، هو تعميق الوحدة الشعورية لدى أبناء الوطن الواحد.. حيث أن وحدة الشعور هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية.. لهذا ينبغي الاهتمام الجاد بمسائل احترام شعور الآخرين، وعدم العمل على استفزازهم والاستهزاء بمشاعرهم. لأن هذا الاستفزاز والاستهزاء هو الذي يؤلب النفوس، ويعمق الأحقاد، ويبني حواجز سميكة تمنع التلاقي والتعايش المشترك.
لهذا فإن واجبنا جميعا، هو العمل على تعميق وحدة الشعور الوطني، بحيث لا تكون التنوعات المذهبية حائلا دون وحدة الشعور الوطني. فالوحدة الوطنية لا تتأتى عبر إلغاء الحقائق المذهبية والاجتماعية، وإنما عبر احترام تلك الحقائق، والعمل على تهيئة الظروف الموضوعية التي تؤهل تلك الحقائق إلى إبراز مضمونها الوحدوي والتعايشي.
من هنا فإننا جميعا بحاجة أن نتعامل مع مبادرة صاحب السمو الملكي ولي العهد حول حوار المذاهب الإسلامية، باعتبارها من المبادرات الحيوية التي تزيدنا قوة، وتمنع كل المحاولات الحاقدة التي تسعى إلى دق أسفين بين مكونات مجتمعنا وأمتنا. وفي هذا السياق من الأهمية بمكان التأكيد على العناصر التالية:
إن تمتين أواصر الوحدة الوطنية، بحاجة إلى الانفتاح والتواصل النوعي مع مختلف المدارس والمذاهب الإسلامية المتوفرة في مجتمعنا، وذلك لإثراء واقعنا وتطوير وحدتنا وإنجاز فرادتنا في البناء والتطوير.
إن الحوار والتواصل بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية في الدائرة الوطنية، بحاجة إلى تشكيل مناهجنا التربوية والتعليمية على قاعدة هذه الضرورة والمنهجية. إذ أننا ندعو على المستوى المنهجي والتربوي الانفتاح على كل الاجتهادات والاستفادة من كل المنجزات المعرفية بصرف النظر عن منبتها المذهبي أو الفقهي. إننا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تسود فيه دراسات الفقه المقارن في معاهدنا ومؤسساتنا العلمية والتربوية.
إن الحوارات المذهبية لا تستهدف المماحكة الأيدلوجية والمذهبية والدخول في متاهات التاريخ ودهاليزه، وإنما من أجل توفير مناخ ملائم من التفاهم المتبادل وتوسيع المساحات المشتركة وتطوير أسباب الوئام والالتحام الوطني.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم التطرق والحديث في المسائل العلمية والفقهية والتاريخية محل الاختلاف والتباين. ولكن ما نريد قوله أن التطرق إلى هذه المسائل وغيرها، يتم على قاعدة الحوار العلمي - الموضوعي الذي يبتعد عن لغة السجال، ولا يتوخى إلا المزيد من المعرفة المتبادلة.
لذلك فإن العمل على تهيئة الأرضية النفسية والاجتماعية للقبول بالآخر المذهبي والفكري، هو الخطوة الأساسية التي توفر إمكانية فعلية لإدامة الحوار وبعده عن مواقع السجال التي توتر الأجواء ولا توصله إلى آفاق حقيقية ومفيدة.
وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، عدم الشفافية في الحوار. وإنما نحن ضد التكلف في التواصل الحواري، لأنه لا يخلق الثقة المتبادلة، ولا يوصلنا إلى فهم مشترك.
إننا مع الصراحة والشفافية والحوار حول كل المسائل والقضايا بدون محذورات، إلا إننا في نفس الوقت نعتقد أن الوصول إلى هذا بحاجة إلى توفير مناخ نفسي اجتماعي مؤاتي لذلك.
لأن هذا المناخ هو الذي يساعدنا على بلورة الشروط الثقافية والعملية لنجاح الحوار واستمراريته. هذا المناخ هو الذي ينزع من نفوسنا جميعا حالة التعصب الأعمى لذواتنا وآرائنا، ويجعلنا نبحث عن الأفضل والأحسن دائما.. إذ يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾.. «الإسراء، الآية 53»..
وبهذا المنظور يخرج الحوار من دائرة المذهبية الضيقة، ونجعله منفتحا على كل قضايا الإسلام وقضايا الأمة في اللحظة الراهنة.
وعليه فإننا نتطلع إلى وحدة وطنية قائمة على أسس العدالة والمساواة. بحيث تشترك جميع مكونات وتعبيرات المجتمع في بناء الوحدة.
والحوارات المذهبية والوطنية، تفتح الطريق لكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكي تشارك بمسؤولية في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية. فالحوارات بمختلف عناوينها ومستوياتها، هي من أجل إثراء مضمون الوحدة، وإخراج هذا المفهوم من الرؤية الشوفينية، التي لا ترى في الوحدة إلا التوحيد القسري للناس في قالب ورؤية واحدة.
إن هذه الرؤية الشوفينية، ومن منطلق التجارب السياسية والاجتماعية العديدة، لم تنتج إلا المزيد من التشظي والتفتت والتجزئة.
فالوحدة لا تبنى عبر دحر الخصوصيات وخنق التنوعات، وإنما عبر خلق المناخ السياسي والقانوني لكل الخصوصيات والتنوعات المتوفرة في المجتمع، لكي تمارس دورها ووظيفتها في بناء وحدة الوطن وتعزيز لحمته الداخلية. فالعلاقة جد عميقة وصميمية بين مفهوم الوحدة وبين احترام الخصوصيات والتنوعات وتهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لمشاركتها في البناء والعمران.
وعليه فإن الوحدة بكل مستوياتها، لا تبنى بثقافة الإقصاء والتهميش، كما أنها لا تتحقق بالتعصب الديني أو المذهبي أو القومي.. إن هذه العقلية وممارستها، تطرد من الواقع إمكانية الائتلاف والوحدة. وإذا أردنا الوحدة في مجتمعنا ووطننا، فعلينا نبذ ثقافة التهميش والتعصب، وبناء ثقافة الحوار والتسامح واحترام حقوق الإنسان. فهي طريقتنا لتوطيد العلاقة الحسنة والإيجابية بين مكونات المجتمع والوطن، وهي سبيلنا لبناء واقع وحدوي على أسس حضارية وإنسانية دائمة.
من أجل ميثاق جديد للوحدة الوطنية
هناك مقتضيات وضرورات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد إلى أن طبيعة الظروف والمرحلة التي يمر بها وطننا العزيز، تقتضي من جميع الفعاليات والنخب الوطنية التفكير الجاد في بلورة وصياغة مشروع ميثاق للوحدة الوطنية. نبلور من خلاله ثوابت الوطن التي نعمل جميعا من مواقعنا المتعددة على تعزيزها وحمايتها، كما يجيب هذا الميثاق على أهم الأسئلة والتحديات التي تواجه حاضر الوطن ومستقبله.
ولا شك أن حضور المجتمع بقواه المتعددة في الساحة، وإصرارها ومطالبتها المتواصلة بتطوير الأوضاع وإصلاح الأحوال، هو مربط الفرس وحجر الزاوية في مشروع الإصلاحات السياسية.
إذ إنها تحتاج إلى حضور متواصل ومتميز في مختلف الساحات والمواقع، وإلى تنظيم صفوفها وتكثيف جهودها من أجل خلق كل الظروف المفضية لعملية الإصلاح والتطوير.
وإن الوحدة الوطنية اليوم، بحاجة إلى رؤية جديدة وميثاق وطني حديث، يستوعب متغيرات الواقع، ويستجيب إلى تحدياته وهواجسه.
لذلك كله هناك ضرورة ملحة على مختلف الصعد، لصياغة ميثاق للوحدة الوطنية، يأخذ بعين الاعتبار العناصر التالية:
1 - طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والمرجعية الإسلامية، حيث أنها من الثوابت العليا التي تستمد كل القوى والتعبيرات شرعيتها ووجودها من قبولها بالمرجعية الإسلامية واحترامها إلى مقتضياتها ومتطلباتها. ولكن من الضروري أن ندرك جميعا أن استناد الجميع إلى المرجعية الإسلامية بما تشكل من قيم ومبادئ خالدة، لا يعني بأي حال من الأحوال قسر الناس على رؤية وفهم واحد لهذه المرجعية.
إن الميثاق الوطني المطلوب، ينبغي أن يؤكد ويثبت مرجعية الإسلام «الكتاب والسنة»، ولكن هذا لا يعني عدم القبول بقراءات متعددة ومنضبطة بضوابط الاجتهاد والفهم السليم للإسلام.
لذلك وبعيدا عن المزايدات، فكل مجتمعنا بمختلف أطيافه وتعبيراته يقبل بالإسلام مرجعية عليا لأحواله وقضاياه، ولأنظمته ومؤسساته. ولكن الاختلاف يبدأ حينما نعمل على فرض فهم واحد ومعين للإسلام، ونجعله هو المعيار والضابطة.
من هنا فإن الميثاق الوطني الذي يعزز مشروع الوحدة الوطنية، هو الذي يقر بمرجعية الإسلام واحترامه التام لكل الاجتهادات الفقهية والثقافية المتعددة في الدائرة الإسلامية.
فمجتمعنا يحتضن سبعة مذاهب فقهية إسلامية، وإن مقتضى المشترك الوطني يلزمنا بتوفير كل مستلزمات الاعتراف والاحترام لهذه الاجتهادات والتعبيرات الإسلامية، وفسح المجال القانوني والثقافي والاجتماعي لها، لكي تمارس دورها في إثراء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية.
كلنا مع الإسلام مرجعية وقيما وأخلاقا، ولكننا ضد قسر الناس على رؤية واحدة باسم الإسلام.
ولا بد من الإدراك أن الاندماج الوطني، لا يتأتى بنفي الخصوصيات المذهبية والثقافية المتوفرة في مجتمعنا، وإنما بصياغة أوضاعنا وعلاقاتنا على قاعدة الاعتراف والقبول بالتعددية المتوفرة في فضائنا الاجتماعي والوطني.
وإن الطريق الصحيح لذلك، هو إقامة حوارات وطنية، علنية وجادة، تساهم في بناء واقعنا على أساس احترام التنوع والإيمان العميق بالمواطنة ومقتضياتها.
2 - إن من أهم التحديات التي تواجه فضاءنا الاجتماعي والوطني، هي طبيعة العلاقة والموقف من منجزات العصر السياسية والثقافية والحضارية.. إذ ما هي الإمكانية الفعلية للاستفادة من هذه المكاسب مع الاحتفاظ بمرجعيتنا وأصالتنا الإسلامية. ولا ريب أن هذا التحدي، لا يمكن مواجهته إلا بمصالحة حقيقية وجادة بين الإسلام والديمقراطية. إذ بدون ذلك ستتفاقم مشاكلنا، وتزداد أزماتنا ولا خروج من هذه المآزق على الصعيد الوطني، إلا بإعادة تنظيم وصياغة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية. وذلك لأن الإسلام هو المكون الأساسي لهويتنا ووحدتنا، كما أن الديمقراطية بقيمها وإجراءاتها وآلياتها، هي خيارنا الممكن للانعتاق من مآزقنا وأزماتنا.
والديمقراطية هنا ليست حلا سحريا، وإنما هي سبيلنا لتنظيم اختلافاتنا، وضبط نزاعاتنا، وتطوير حياتنا السياسية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية.
فهي ضرورة سياسية ووطنية، وإن أي تأجيل لهذه الضرورة تحت أي مبرر أو مسوغ كعدم نضج مجتمعنا أو أن الديمقراطية لا تناسب مجتمعنا، لا يفضي إلا إلى المزيد من تدهور أوضاعنا على مختلف المستويات.
فنضجنا الاجتماعي لا يتحقق إلا بممارسة الديمقراطية. وإن أي محاولة إصلاحية أو تطوير، تستثنى لممارسة الديمقراطية، لا تجنى إلا التراجع والتقهقر. ونرتكب جريمة كبرى بحق حاضرنا ومستقبلنا، حينما نصور الإسلام وكأنه يناقض الديمقراطية ومتطلباتها. وذلك لأن الديمقراطية ليست تفلتا من القيم أو خروجا على مقتضيات الصراط المستقيم..
وإنما هي منجز تاريخي إنساني، وفر للإنسانية جمعاء إمكانية الانعتاق من الأنظمة الشمولية والاستبدادية، وتنظيم أوضاعها الداخلية على أسس المسؤولية والمشاركة والمراقبة الدائمة.
لذلك فإن الديمقراطية ليست شعارا يرفع، بل هي برنامج عمل متكامل، يتواصل مع كل حقائق المجتمع، ويحملها مسئولية العمل على تصحيح الأوضاع وتطويرها الدائم نحو الأحسن.
لذلك كله فإن الخيار الديمقراطي، الذي يمارس القطيعة الحقيقية مع النزوع الاستبدادي والشمولي، هو أحد مرتكزات الميثاق الوطني المنشود. لأن الديمقراطية بمقتضياتها الثقافية والسياسية، هي القادرة على تجسير الفجوة وردم الهوة بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع والوطن، وهي عتبة الانتقال إلى عصر وطني جديد.
وإن طبيعة الظروف والتحديات التي تواجهنا، تتطلب تجديد الوفاق الوطني، وتفعيل الحياة السياسية، وتطوير تجربتنا باتجاه الديمقراطية والحرية..
وذلك عبر إدخال نظام الانتخاب المباشر للكثير من مؤسسات وهياكل الدولة والمجتمع، وصياغة دستور وطني، يحدد الحقوق والواجبات، وينظم عمل المؤسسات، ويوفر الأرضية القانونية والدستورية لانطلاقتنا الوطنية الجديدة.
ولا بد من الإدراك العميق، أن تحسين قدرات الدولة وتطوير مؤسساتها، مرهون بقدرة الدولة على تجاوز كل العقبات التي تحول دون انطلاقتها في مشروع الإصلاح السياسي..
3 - إن بناء دولة حديثة، عصرية، مدنية، تجسد قيم الإسلام الأصلية ومنجزات الحضارة الحديثة، بحاجة إلى تطوير علاقة مؤسسة الدولة بمواطنيها. بمعنى أن تكون الدولة دولة للجميع بدون استثناء، وتكون مؤسساتها وهياكلها ومناصبها ومسؤولياتها متاحة للجميع دون تحيز لفئة أو تهميش لأخرى. بحيث تكون مؤسسة الدولة على علاقة مباشرة بمواطنيها بدون وسيط قبلي أو مناطقي أو مذهبي. فهي دولة جميع المواطنين بصرف النظر عن أصولهم القبلية ومنابتهم الأيدلوجية والمذهبية.
من هنا فإن الدولة بمؤسساتها المتعددة، تتحمل مسؤولية كبرى في تعزيز مشروع الوحدة الوطنية. فإذا كانت دولة منحازة لفئة أو منطقة أو شريحة، فإنها ستساهم من خلال مشاريعها ومواقفها وإجراءاتها المنحازة في دق إسفين بين مكونات وتعبيرات الوطن. أما إذا كانت دولة لكل مواطنيها، وتخطط وتنفذ مشروعات التنمية والرعاية لكل المناطق وفق مقتضيات المساواة والعدالة، فإنها ستغرز كل موجبات الوحدة الوطنية.
فعدالة الدولة وانفتاح مشروعاتها ومؤسساتها على كل المواطنين، هو أحد أعمدة تعزيز الوحدة الوطنية.
لذلك فإن مشروع الميثاق الوطني، ينبغي أن يبلور مسؤوليات الدولة تجاه مواطنيها. بحيث تكون العلاقة بين الدولة والمواطن علاقة مباشرة وبدون وسائط مناطقية أو مذهبية، وتنصت بشكل متساوي لكل الحاجات والمتطلبات.
من هنا وعلى هذا الصعيد تحديداً، نجد أن الدولة بحاجة أن تمارس عملية نقد ذاتي لأدائها وممارساتها في هذا المجال، حتى يتسنى لها تطوير أداءها وانفتاحها وتواصلها الدائم مع مختلف تعبيرات الوطن.
ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن قوة الدول وعزتها، يقاس بمدى تمثيلها لمواطنيها. فإذا كانت دولة المواطنين جميعا، فإنها ستمتلك كل أسباب القوة والمنعة والعزة. أما إذا مارست الإقصاء والنبذ لبعض مواطنيها، فإنها بذات القدر ستخسر من قوتها ومنعتها. لذلك فإننا نتطلع إلى أن تكون الدولة دولة للجميع في الحقوق والواجبات والمسؤوليات والخدمات.
فالميثاق الوطني المنشود، هو الذي لا يلغي خصوصيات المواطنين، كما أنه لا يضخمها إلى حدود التنافر مع الآخرين وخصوصياتهم. وبهذه الصيغة المعتدلة والواعية، تتشكل علاقة رشيدة بين خصوصيات الوطن قوامها الاحترام والانفتاح والتفاعل. وبهذا يزيل مشروع الميثاق الجديد عناصر التوتر المفتعلة بين بعض مكونات الوطن. حيث الخصوصيات منفتحة ومتفاعلة مع بعضها، ووطن يسع الجميع ويستفيد من كل الإمكانات والقدرات، ويحترم كل التنوعات، وينجز وحدته على قاعدة أن الاختلاف والتنوع ليس انقطاعا عن الوحدة، كما أن الوحدة، كما أن الوحدة ليست توقفا عن الاختلاف والتنوع.
وحده الوطن المنفتح والمتفاعل مع خصوصيات مواطنيه، القادر على تأسيس وحدة وطنية صلبة ومتينة. ولعل الخطوة الأولى لإنجاز ذلك، هو عقد مؤتمر وطني عام يضم جميع الفعاليات والقوى والتعبيرات، ويناقش بحرية وشفافية كل القضايا والأمور المتعلقة بحاضر الوطن ومستقبله. ويتوج هذا المؤتمر حواراته وأنشطته ببناء ميثاق جديدة للوطن في دوائره المتعددة، حيث يحدد نمط العلاقات الداخلية المأمول بين مكونات المجتمع، ويعزز ثوابت الوطن، ويبلور استراتيجيات البناء الوطني في حقول الحياة المختلفة.
فميثاق الوحدة الوطنية، المبني على أسس المواطنة والمساواة والعدالة، هو سبيلنا لمجابهة التحديات وبناء منجزنا الوطني على هدى الإسلام ومنجزات العصر ومكاسب الحضارة.