آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

من أجلك ياصغيري

عبد الله الناصر

لا توجد متعة تنافس متعة مراقبة طفلك وهو يكبر، فمنذ صرخته الأولى لهذه الدنيا وأنا أوثق بالصور وأكتب في مذكرته الخاصة كل تطوراته.

ولد حسن بوجه قمري جميل يجعلك تدمن النظر لبراءته، كنت أتنافس مع والده بترديد كلمة ماما وبابا أمام مسمعه بانتظار حسن سينطق باسم من أول بيننا؟؟ أعددت صفحة خاصة بمذكرته سأكتب فيها عن أول كلمة ستخرج من شفتيه الناعمتين.

مر عامان ومازالت الصفحة فارغة، كان جميع من حولي يخبرني أن هناك الكثير ممن تأخر بالنطق لسن الخامسة لكن حدسي الداخلي لم يكن مطمئنا، كان أول وجهتي عيادة السمع كانت لدي هواجس تراودني أن يكون ابني أصم، وكم كانت فرحتي باتساع السماء عندما أخبرني الدكتور أن حاسة السمع لديه ممتازة.

وأثناء خروجي وقعت على مسمعي جملة وجهها الدكتور لنا بصوت خجول «من الأفضل إجراء تقييم طيف التوحد لحسن» وكأنما الدنيا تدور أمام عيني، حينها اتجهت نحو الدكتور وسألته بقلق هل يوجد في حسن أعراض تجعلك تشك بذلك؟؟ كان الدكتور صريحا للغاية الصراحة التي صدمت قلبي بل أكثر من ذلك بكثير.

كان طريق الرجوع للمنزل مؤلم بين صمت زوجي ودموع عيني التي لم تتوقف، كان كل تركيزي بمشاهدة حسن كأنني أراه للمرة الأولى أراقب كل حركاته وسلوكياته، لمحاولة إقناع نفسي أن ابني سليم لا يعاني خللا، تلك الليلة لم أنم كنت أبكي بصمت وأنا أتصفح مواقع الإنترنت أقرأ كل ما يقع تحت اسم التوحد أفرح كلما شاهدت أعراضا لا توجد بحسن ويغطيني الحزن مرة أخرى كلما وجدت عكس ذلك. فقلة نوم حسن التي أقنعني الأهل أنها طبع يأتي الأطفال ومسألة وقت ونمو، هو عارض أساسيا للتوحد.

وفي اليوم التالي وبعد 6 ساعات من التقييم خرج المختص وبيده ورقة تثبت إصابة حسن بالتوحد. رجعت للمنزل ونصبت يوما من العزاء كأنني فقدت أحدا عزيزا ببكائي وشاركني البكاء أهلي الذين صدموا بالخبر فأصبح وجه حسن الملائكي الذي يرسم الفرحة بوجوهنا هو مصدر الدموع والحسرة كلما شاهدناه..

جلست ما يقارب الشهرين بحالة من الاكتئاب وعدم الرغبة بالكلام، أقرأ فقط ما يتعلق بالتوحد..

زادتني القراءة وجعا، سيعيش حسن طوال عمره برفقة التوحد. حتى وقعت تحت يدي قصة طفل توحدي فاقدا للبصر لكنه عازف بيانو بارع يجول العالم لنشر فنه. هنا كانت لحظة الولادة الحقيقة لي بحسن هذه المرة أنا مدركة تماما ما يعانيه

مدركة للعالم الخاص الذي يعيشه والذي قررنا أنا ووالده أن نعيشه معه سويا لنتسوعب حياة ابننا ونبدأ في رحلة البحث عن الإبداع في داخله.

أول خطواتي شراء مذكرة جديدة سأكتب فيها كل خطوة من خطواته نحو حياة أفضل له. وعندما يكبر سيقرأ حسن رحلة والديه معه من الفشل حتى الانتصار. كتبت في أول صفحة من المذكرة «ابني الحبيب حسن قد لا نكون أفضل والدين لكننا نتمنى أن ترى من خلال هذه المذكرات كل محاولاتنا لنكون أفضل والدين لك فأنت تستحق أن نتغير من أجلك يا صغيري»

التوحد ليس مرضا يصيب العقل بل هو إضراب في السلوك لذلك عاملت ابني بأنه طفل ذكي يجب تدريبه عن كثب، وكل ما سنسعى له قد لا يكون علاجا كليا لكن سيحسن حياته وتعاملاته مع المجتمع فلا أريد أن يكون ابني كرسي احتياط في هذه الحياة.

هي معركة مفتوحة لنا كوالدين نواجه طفلا يعيش عالما غير عالمنا وبسلوكيات يصعب الاعتياد عليها ونواجه مجتمعا يرى كل طفل مختلف طفلا غير مقبول ومن حسن الحظ أننا نعيش في دولة أوروبية بها مراكز متخصصة بالتوحد ونحن ممتنون للأخصائين هناك فقد كنت أعتقد أن ساعات التدريب لديهم بتدريب حسن لكنني صدمت عندما علمت أنه يخصصها لتدريبنا كوالدين لأنهم مؤمنون أن هذا الوقت بالمركز غير كافي لتعليم الطفل. فالقوة الحقيقة التي يحتاجها الطفل التوحدي تكون داخل أسرته أولا.

قد لا يستطيع تمييز الحروف لكنه يستطيع تمييز الحب الصادق والمحبة لذلك سرعة تطور الطفل تعود لكمية المحبة التي يتلقاها، فعندما تأتي نوبة هز الجسم للطفل حلها احتضانه ليشعر بوجودك بعالم هو يخاف الاختلاط فيه.

يبلغ حسن اليوم سن الثامنة ويستطيع التحدث بكلمات كثيرة باللغة العربية والإنجليزية متميز بالرسم وناجح به أكثر مما يرسمه زملاؤه في المدرسة التي لم يكن سيستطيع الالتحاق بها لولا جهد والديه وصبرهم المستمر له.

كان يجلس حسن في حظني عندما كان والديه يقصون لي قصته حيث كانت صدفة لقائهم على متن طائرة متجهة إلى أمريكا لتسجيل حسن في كورس في أحد مراكزهم لتطوير اللغة، أعجبت بقصتهم وإرادتهم ومسيرتهم التي ما زالوا مستمرين بها لم يكونا والدين خجولين بل كانا واثقين وسعداء فما انجزاه عجز عنه الكثيرين.

أشارككم هذه القصة لنعيد التفكير جميعا لأحبابنا المصابين بالتوحد فكل وقت نخسره في تعليمهم هو مكسب قيم لك ولهم.

في ظل هذا الإهمال وقلة الوعي تجاه هذه الفئة هناك من يعاملهم كأنهم معتقلين داخل المنزل، هناك من لا يكف عن الصراخ تجاههم غير مدركين أن الصراخ أكبر هادم لهم فهو يزيد من مخاوفهم.

لنسعى اليوم لمنحهم الحب فلا نجعل حبنا لهم مشروطا بأعمالهم ولنجعل كل ذاكرتهم سعادة.

ستفشل وستنهض وستفشل وستعاود النهوض خلال تعليم طفل التوحد لكنك بالنهاية ستريه النور آخر النفق المظلم الذي يعيشه ستكون قادرا على إخراجه للعالم الخارجي الذي يخاف الخروج له، وسيختلط بأقرانه وأهله عندها سيكون جهدك مثمرا بالخير..

أن تملك طفلا متوحدا هو اختبار والاختبارات لم توضع لتكون سهلة فلا بأس إذا حزنت أو بكيت لكن لا تستسلم أبدا في رحلة الانتصار لابنك فهناك من يقتله داخل جدران منزله وهو حي فقط ليتجنب خجل أسئلة الناس نحو سلوكياته.

المستحيل مجرد كلمة فلا تيأس مهما انعطفت بك الطرق هي مسؤولية عظيمة تحتاج إلى مزيد من العطاء والصبر هناك من لا يريدون أن يظهروا بمظهر التقصير فيشترون لهم أفضل الملابس والألعاب ويشاركونهم بأفضل المراكز العلاجية المكلفة بالمال وينسون أهم علاج وهو محبة وتقبل الأهل لهم واحتوائهم.

لكل أم وأب يملكون هذه النعمة الجميلة بحياتهم أدعوكم بالثابت والصبر والمحاربة معهم لاستخراج الإبداع والتميز بداخلهم، ليعيشوا أسوياء بمجتمع يراهم ناقصين، أثبتوا لهم العكس، ولتكن غايتكم تلك الجوهرة التي بين أيديكم اجعلوها لامعه دائما.

اتخذوا طرقا مختلفة مبدعة بالتعامل معهم بمناهج متطورة من السلوك حتى التغذية.

قد لا نرى الجهد الذي تبذلونه لجعل الطفل ينام مبكرا أو يجلس بالساعات دون حراك أو ينطق جملة من خمس كلمات لكنكم تعرفون الفرق تدركون الجهد وستعيشون فرحة الانتصار.

ونحن لأننا مؤمنين بالله ندرك أنه لن يعطيك الله ما لم تستطع تحمله فهو يثق بك وبقدرتك فكونوا القوة التي يستمد منها طفلك المتوحد القوة وليس الضعف.

هذي الفئة بالذات تحتاج الحب

وإذا وجد ضمنا أهم شيء وهو سعادتهم حتى لو كان تطورهم بسيطا. الحب بداخل الأهل المتعلمين والغير متعلمين هو أهم ما يملكه الناس أحيانا الحب هو أقوى من العلم والدواء.

ممكن حبة دواء الاكتئاب تخليك تنام لكن احتضان المكتئب ممكن يخليه ما يحتاج هذي الحبه لينام.

نحن نفرح بتفوق الأبناء المتفوقين ونجتهد بتوفير وسائل العلم والراحة ببيئة تعليمية صحية لهم. بالنسبة لي التوفق الأكثر سعادة هو ما يناله الوالدين بطفلهم المتوحد عندما يختلط بالتعليم مع أصدقائه بالمدرسة هذا الهدف يحتاج رحلة من الوالدين تبدأ من العام الأول لولادته فكل فخري واعتزازي لهؤلاء الآباء.

نحن اليوم في عالم متطور تستطيع التواصل مع كل العالم من خلال الأجهزة لتكن هناك مجموعات مساندة ودعم بين عوائل أطفال التوحد يتواصلون ويتحدون لتعلم كل جديد يفيد أبناءهم. وحدهم الآباء الصالحين المحاربين يدركون أن وجود هذا الطفل بينهم هو لصنع أب وأم مختلفين يسعيان للأفضل لذلك هم سعداء وممتنتين لنعمة وجوده بينهم

فالذي نراه نحن عبئاً يرونه هم رحمة.