آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 8:07 ص

حكايتي مع الكورونا ”1 -2“

سلمان محمد العيد

لقد أصبحت اليوم ضمن مجموعة الذين تعرّضوا للإصابة، لكن إصابتي متأخرة، ويختلف موعدها عن بداية الجائحة ففي البداية كان يؤخذ المصاب أو المشكوك في إصابته ويتم الحجر عليه في أحد الفنادق، وتتم متابعة حالته الصحية، إلى أن يقضي المدة فيعود إلى أهله.

لكن هذه الطريقة لم تعد قائمة لأن العدد بات كبيرا ولم تعد الفنادق تتسع لها، فضلا عن أن العاملين في الشأن الصحي باتوا على مستوى عال في التعاطي مع المرض، فلم يعد أمرا مفاجئا، والإجراءات متسرعة، إذ باتوا يعرفون آلية التعامل مع الحالات، إذ توجد حالات تستدعي أن يدخل صاحبها المستشفى وبعض الحالات لا تستدعي ولا تتطلب شيئا من ذلك، إذ يمكن أن يتم الحجر في المنزل، خاصة إذا كانت الحالة بسيطة وأعراضها سهلة، وفي حال أراد المصاب مثلي لأي استشارة طبية لا يحتاج الأمر لأن يذهب إلى المستشفى أو المركز الصحي بل يمكنه الاتصال برقم خاصة أو الدخول على أحد التطبيقات المعدّة لهذا الغرض فيتم إرشاده إلى ما ينبغي أن يعمل، إذا اقتضى الأمر يطلب منه التوجه إلى المركز الصحي ويختار أقرب مركز لمنزله، حينها يحظى بالعانية والاهتمام ويوصف له بعض الأدوية المساعدة لمواجهة الداء.

فالتطوّر الحاصل أن الداء حلّ بصورة مفاجئة، وانتقل إلى بلادنا، وصرنا في الفوهة مثل غيرنا، لكن التعاطي مع الداء كما رأيته خلال إصابتي أو حتى قبل أن أصاب هو أن الدولة بكافة أجهزتها الحكومية خصوصا القطاع الصحي كانوا عند مستوى الحدي، وهذا ما يبعث على المزيد من التفاؤل بمستقبل أفضل للقطاع الصحي.

وحينما أصبت تداعت أمامي قصص الذين دخلوا المستشفيات والذين وافوا أجلهم، أو الذين شافاهم الله وكتب لهم عمرا جديدا، لكنّي كنت واثقا كل الثقة أن الداء لن يكون عليّ شديدا، لوجود ثقتي بالله أولا، ثم لأن الخبرة تأصلت لدى العاملين في القطاع الصحي، خصوصا لدينا في القطيف، فالكادر أغلبه وطني تم تأهيله بشكل رائع، والخبرة والتجربة خلال الأشهر الماضية كانت كفيلة بجعله قادرا على التعاطي مع أي حالة، فضلا عن أن الداء بات شائعا فلست الوحيد الذي أصابه الداء.

ورغم حالة التشاؤم السائدة، والأخبار المؤلمة التي نسمعها عن حالات الوفاة التي تتم يوميا، إلّا أن ثمة أخبارا كانت تبعث على التفاؤل، إذ كل يوم نسمع عن حالات تعافت، وقد كانت مستعصية، ورغم الألم الذي كنت أشعره أو أعيشه حينما أسمع أو سمعت عن عوائل بأكملها انتقلت الواحد تلو الآخر بسبب الكورونا إلّا إنني كنت على ثقة بأن الداء لن يصل لي مثل ما وصلهم لأن الأعراض التي طالتني خصوصا في البدايات تبعث على هذا التوجه، أو تشير إلى هذا المعنى.

فإحدى الحالات أن شخصا أصيب بالكورونا وهو للتو قد أجرى عملية القلب المفتوح، وكان كل من سمع عن هذه الإصابة وضع يده على قلبه، وطلب من الله الفرج لهذا الرجل، والكل توقع أن تكون النهاية له، لكن توقعات البشر شيء وتقديرات المولى جل شأنه شيء آخر، إذ بعد أن أدخل العناية المركزة وبقي بضعة أيّام منّ الله عليه بالشفاء، ومثله كثير، وحالات التعافي من الداء أكثر من حالات الوفاة، لكننا نألم للحالة الأليمة ونأسف لحدوث الوفاة، ولا نفرح لحالات التعافي رغم أن الواحد منّا لا يتمنّى لغيره إلّا الخير.

لقد كانت الأجواء ملبدة بغيوم الكورونا، ورغم الإجراءات العديدة، والمتابعة الدقيقة، إلّا أن القصص والأرقام تبعث على الألم والخوف، لوجود حالات من عدم الالتزام، خصوصا في التجمعات التي تتم بعيدا عن الرقابة الرسمية، فضلا عن الرقابة الذاتية، خصوصا لدى بعض الفئات التي لم يكن لديها الوعي الكافي بأهمية الوقاية والاهتمام منعا من حدوث الداء، اتكالا عن مفهوم خاطيء يتمثل في أن المرض إذا قصدك فلا أحد يستطيع منعه.

لقد صادفت مثل هذا الموقف، أن أحدهم يعرفني منذ زمن بعيد، رآني وأراد معانقتي فامتنعت، وحينما سألني عن سبب ذلك قلت له بصريح العبارة: ”أخشى أن أنقل إليك الكورونا دون أن أعلم“، لكن استدرك قائلا: ”لماذا لم تقل إني أنا الذي أنقل إليك المرض؟“، فلم يكن منّي إلا أن قلت له بأن النتيجة واحدة، هنا أدخلني في نقاش عقائدي بأن الأقدار بيد الله، فأغلقت الحديث معه لأقول له بأن صاحب الأقدار جل شأنه هو الذي أمرنا أن نحترز كما أكد لنا بأن نتداوى إذا مرضنا، وسوف يحاسبنا حسابا شديدا إذا قصّرنا في أمور صحتنا، ولا أعلم حقا ما إذا كان قد اقتنع بكلامي أم لم يقتنع.

لقد جاءت إصابتي بعد أن قرّرت الجهات المعنية إعادة الحياة لكن بحذر، وأن التوقف كان لفترة معينة اقتضت الضرورة أن يتم ذلك، لأن الحدث مفاجيء ولم يكن من المناسب إقحام الناس في الوباء، حسب مبنى البعض من دول العالم ”مناعة القطيع“ أي اجعل الداء ينتشر، وكل من يتعرّض للإصابة سوف يحصل على المناعة، هذا المبدأ ظهرت نتيجته السلبية لدى بعض البلدان فأعادوا النظر فيه، خاصة حينما رأوا مساحة وعدد الضحايا الناجمة عن الوباء التي بلغت حد الكارثة.

من هنا، فحينما اصبت كانت الحياة قد عادت وعدت إلى عملي، وقد كنت في إجازة سنوية، وقصدت المدينة المنورة، ولا أجزم حقا ما إذا كانت إصابتي قد تمت هنا ام تمت هناك، فالفايروس ينتقل سريعا إلى جسد الإنسان، فقد يأتي مرة بعد مرة، وقد يكون ضعيفا ويتمكن من جهاز المناعة، ولكن قد يكون في أوج نشاطه فيتمكن من صاحبه.

لقد أصبحت مصابا بالكورونا لأنني أجريت عملية الفحص عبر المسحة الطبية التي يتم إجراؤها في العديد من المواقع منها بعض المراكز الصحية المعنية بذلك، فلم أذهب إلى العمل ودخلت الجحر الصحي تبعا للنظام المتبع في مثل هذه الحالات.

في الأيّام الثلاثة الأولى لم تكن الإصابة أو أعراض الإصابة قوية أو مؤثرة، أو حتى واضحة، فالثابت أني مصاب، ولكن بدون أعراض، وهذا يحدث للعديد من الناس فيتخالطون مع بعضهم ومن تكن مناعته ضعيفة تظهر الأعراض ويصبح مريضا بكل وضوح، ولكن ليست بالضرورة أن تكون البقية من الناس ليسوا مصابين، وربما كانوا كذلك، ولكن بدون أية أعراض.

ثلاثة أيّام كانت طبيعية، جلست في المجلس لوحدي، اتسكع على صفحات الانترنت، انتقل من المواقع الإخبارية إلى مشاهدة بعض المقاطع من المسلسلات والأفلام، وكل من يتصل بي يجدني سليما معافى، ولا شر عليّ ولا ضر، ولا ألم ولا معاناة، ولا حرارة، ولا.. ولا..

لكن الذي حدث بعد الثلاثة أيّام، إذ يبدو ان الفايروس ينتظر شيئا ما، أو أمرا ما فيتخذ قرارا، إمّا الرحيل وإما البقاء، فاختار البقاء، فكانت أولى الأعراض هي ارتفاع درجة الحرارة، ولم يكن هذا الأمر بحاجة إلى جهاز لقياس الحرارة، لأن مجرد أن ألمس جزءا من بدني أشعر كأنها في مرجل ماء، فالجسم بدأ يشعر بأن وضعا جديدا مختلفا، وحرارة البدن غير طبيعية، لم يكن في البداية لدي جهاز لكنها مرتفعة ومرهقة، لم تترك مكانا في الجسد إلّا قامت بزيارته، ولشدة الحرارة بدأت غشاوة تظهر على بصرين حتى أستطع النظر بشكل سليم.

والحرارة في الجسد يرافقها عادة أعراض أخرى، مثل الهبوط والعجز عن الحركة، وأنا منذ أن ارتفعت الحرارة الجسدية بدأت تستجيب لها باقي الأعضاء، وكان الجسم بشكل كلّي مرهقا متعبا، اشبه بشخص للتو قد جاء من عمل بدني مرقه مثل العمل في الزراعة أو البحر أو في البناء وما شابه ذلك، وعلى ضوء اطلاعنا على الشؤون الطبية وحسب استماعنا للأطباء والمختصين، فإنهم يقولون بأجمعهم أن ارتفاع درجة الحرارة هو ”عرض لمرض“، منها ان مناعة الجسم وجدت شيئا غريبا دخل البدن فبدأت بعملية المقاومة والحرب، والحرارة هي نتيحة للحرب الداخلية بين المناعة وجنودها مثل كريات الدم البيضاء وبين الشيء الغريب الذي اقتحم الجسم على حين غرّة، فالمناعة تملك أدق وأعمق الأجهزة التي تكتشف مثل هذا الفايروس الذي لا يرى بالعين المجرّدة.

ولقد قالوا لنا منذ زمن ليس بالقليل أن درجة حرارة الإنسان أو جسد الإنسان تبدأ من 37 إلى 42 وفي حال انخفضت عن 37 فإن الوضع ينذر بشيء غير حسن، وفي حال ارتفعت اكثر من 42 فإن خطر الموت يداهم من ترتفع درجة حرارته إلى هذا الحد، وبالنسبة لي كنت أشعر بالارتفاع ولم يكن هذا الأمر بحاجة إلى فحص أو قياس، لكن لم أكن أعلم إلى أي درجة بلغت أو وصلت، عدا إنني بت على قناعة بأني مصاب بالعلة، وأول أعراضها حسب المعلومات هي ارتفاع درجة الحرارة، فلم تعد المسألة سهلة أو هيّنة، فالمرض قد أخذ وضعه وظهرت أعراضه، أو أبرز وأهم أعراضه وهي ارتفاع درجة الحرارة.

استمرت حالة الارتفاع في درجة الحرارة، لتأتي الأعراض الأخرى المصاحبة، ولا أعلم حقا هل هي من ذلك الارتفاع أم من الفايروس، أم منهما معا، أولى الأعراض أو ثاني الأعراض هي ”الصداع“ الذي جاء خفيفا ثم بدأ يتدرج في الضراوة والحدة، بدأ يأخذ اشكالا مختلفة، تارة يشمل الرأس بأكمله، وتارة يأخذ وسط الرأس، وتارة ثالثة يكون نصفيا، أي أن الألم يقع على النص الأيمن أو الأيسر من الرأس، ومن المعروف أن ثمة أنواعا من الصداع، وكل صداع له سبب فقد يأتي من ألم الأسنان، أو التهاب العين أو الجيوب الأنفية، أو من القلق والتعب النفسي، أو من الإرهاق البدني، أو السهر أو من نقص الحديد أو زيادة أو نقص السكر في الدم، فضلا عن انخفاض أو ارتفاع ضغط الدم، كلها أسباب لحدوث الألم في الرأس الذي هو الدليل الأول على حدوث خلل معين في الجسد يحتاج إلى معالجة ولا يحدد السبب إلا الطبيب المعالج الذي له طرقه ووسائله في كشف المرض وتحديد طريقة العلاج، وبعد ارتفاع درجة الحرارة جاء رفيقها الدائم ”الصداع“ وكلاهما تعاونا وتعاضدا وأحدثا إرهاقا عاما في الجسد الذي لم يعد يقوى على الحراك، ولم يعد يتحمّل القيام بأي جهد، فكل أعضاء الجسد باتت تتألم وكأن صاحبها للتو قد خرج من وجبة تعذيب أو تعرّض لضرب مبرح أو للتو قد قام بجهد بدني مضاعف.

بناء على ذلك، صرت أعاني من أعراض ثلاثة ”ارتفاع درجة الحرارة، صداع، إرهاق“، هل بقي الجسدى النحيل المرهق أسيرا لهذه الأعراض التي جاءت بشدة وبقوة وبعنف، لم أعهدها من قبل ولم أشهدها في حياتي، التي تجاوزت الخمسين عاما؟

بالطبع لا

جاءت أعراض إضافية، لا أعلم حقا هي أعراض أصلية أم فرعية ناجمة عن الأعراض الثلاثة السابقة، ورغم بقاء وضراوة تلك الأعراض جاء عرض مؤلم ومزعج وهو الضيق في الصدر من الجهة اليسرى، أي من جهة القلب مما أحدث قلقا كبيرا لدي بأن ثمة حدثا طارئا وصل إلى النقطة أو المركز الأهم في الجسد وهو القلب، الذي هو مصدر ضخ الدم وتنظيم العملية برمتها في الجسد، هنا بدأ مسلسل الهواجس النفسية التي هي متعبة من أي نوع من التعب الجسدي إن لم يكن أكثر.

لقد كنت أشعر بأن ثمة شيئا داخل صدري يكتم على نفسي، لم يكن شديدا كالذي ناب العديد من الذين قد أصيبوا بالوباء، ولكن كان عرضا باعثا على القلق، محدثا حالة من الخوف من شيء قد يكون أكبر من الذي نراه، فنحن كبشر نشعر بالألم ولا نعلم مصدره، والأطباء هم الذين يعلموننا بطبيعة ذلك الألم، ألم في الرأس وألم في الصدر مع حرارة عالية وإرهاق تلك هي الحالة التي بلغتها بعد أيام قليلة من الإصابة، لكن هل توقفت عند هذا الحد؟ بمعنى أن اقتصرت الأعراض على هذا العدد المؤلم أم جاءت أعراض أخرى؟

في الحقيقة، المسلسل حلقات متتالية، لكنّها ليست مثل حلقات الدراما ما أن تنتهي حلقة حتى تأتي الحلقة الأخرى، وإنما تأتي حلقات أخرى مع بقاء التي قبلها، بهي أشبه بعمارة لا يقوم الدور الأول قبل أن يقام الدور الأرضي، وإذا قام الدور الثاني فلا يلغي أو ينهي ما تم من قبل، فحينما جاء الصداع لم يوقف موج الارتفاع في درجة الحرارة، وحينما حلّت حالة ”الضيق في الصدر“ لم تأخذ الدور من الصداع وارتفاع درجة الحرارة، بل كل صار كل يقوم بدور ما، وكله هجوم عنيف في آن واحد على هذا الجسد الذي يظل يقاوم ويقاوم مادام حيا.

بعد كل تلك الأعراض جاء ما هو أخطر وربما اشد وهو ”الأرق“ وعدم النوم، فالآلام مبرحة، والجسد مرهق، وكل شيء غير طبيعي، والمريض إذا تمكّن من النوم فإن شيئا من الراحة تنتابه وتعينه على المقاومة والتعايش مع المرض، ولكن إذا لم يتحقق ذلك فإن الوضع يزداد صعوبة، وينذر بعواقب وخيمة أخرى، إرهاق وتعب وألم مع أرق.

وتستمر العملية، ليأتي العرض التي العرض الذي لا يقل خطورة وأثرا عن كل ذلك، ألا وهو انعدام الشهية عن الأكل والشرب، وقديما قالوا: ”ما تأكل وتشرب إلّا الصحة“، بمعنى أن المريض لا يهنأ بأكل أو شرب، فكلم يتحمّل هذا الجسد، وكم تتحمل النفس الضعيفة، فلا ”أكل، ولا شرب، ولا نوم“، بل ”صداع، وأرهاق، وارتفاع درجة الحرارة“، وهذا كلّه يعني الاقتراب من الخطر العظيم، وهو الهلاك، الذي قد يأتي من هذه العوامل بعد قضاء الله فإذا كان النوم يعيد حركة الجسد لتعاود مرّة أخرى لمواصلة مسيرة الحياة، الطعام والشراب يمنحان الجسد الطاقة للحركة ومقاومة الأمراض، وكل ذلك بابت مفقودا فأي قدرة لهذا الجسد لأن يقاوم أو يصمد أمام أي هجوم، وكيف تكون مناعة الجسد سليمة وهي لا تجدى ما يدعمها، بل كل الداعمين لها في وضع غير سليم وغير مؤهل لدعمها.

لم تتوقف العملية، وهجوم المرض لم يتغير ولم يتأخر، والمسلسل لم تتوقف حلقاته، وجاءت أعراض أخرى لا تقل سوءا وعبثا بالجسد، وهي فقدان حاستي الشم والذوق، ففي بعض اللحظات دخلت في مقاومة المرض وأجبرت نفسي على الطعام والشراب، لكي أتقوى على المقاومة، فماذا حدث؟

في البداية أكلت وشربت، ولكن بصعوبة بالغة، وبدون نفس، والكمية قليل لا تسمن ولا تغني من جوع، بعدها وفي بعض الحالات كان ذلك الأكل مع قلّته لا يستقر في المعدة والأمعاء، بل بقدرة قادر يخرج كما هو على هيئة غثيان مؤلم ومزعج، وما يبعث على الأسى أن مذاق الطعام والشراب بات متحوّلا أو منقلبا أي أن الطع بات غير طبيعي وليس كما هو المتعارف عليه، فالماء الذي لا طعم له بات اشبه بماء البحر، والعسل الذي هو مثال الطعم الشهي عالي الحلاوة بات مرّا مثل العلقم، لا يحفّز على الإقبال عليه الا بصعوبة بالغة، وكذلك الحال مع التمر.

لقد تظافرت تلك الحالات بمعنى بعضها، والتقت هذه الأعراض لتعمل معا في وقت واحد، وعلى جسد واحد، لا يملك من المقاومة إلا ما يتيسر له، ولا بد لهذا الجسد من الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع، وقد حاولت أن اخرج من هذا المأزق فلم أستطع، فقد أردت أن أمشى لبعض الوقت، لم يكن البدن ليتحمل حتى المشي خطوات، فالشعور بالإرهاق يزيد مع أبسط جهد.

لعل من غرائب الآثار التي أحدثها داء الكورونا هي انني في غمرة الغرق في المعاناة وارتفاع درجات الحرارة كان هذا الارتفاع يغرقني بالعرق بصورة لا تختلف عن الوضع الذي ينتابنا في أشهر الصيف الجميلة «يونيو، يوليو، آغسطس»، ما يلبث هذا الوضع أن يتحوّل إلى حالة من البرد شبيهة بالوضع في أشهر «ديسمبر، يناير، فبراير»، من كل سنة، فالحر والبرد والعرق تتفاوت وتتسابق وتتلاحق مع بعضها في يوم واحد، فالغطاء الذي ألجأ إليه للتدفئة يتحوّل إلى اشبه بخرقة مبللة بالماء بسبب ما يفرزه الجسد من التعرّق، وماا أسوأ العرق إذا لم يصاحبه شرب الماء لتعويض السوائل التي خرجت من الجسد، فوجدتني مضطرا لشرب الماء تحت ضغط الحاجة الناجمة من حالة العطش، والماء إذا شربته أشعر كأني أشرب شيئا غريبا مالحا تارة ومرّا تارة أخرى، ولكن صرت أضغط على نفسي كي أستمر في الحياة.

كل ذلك، ولم أشعر بأن واحدة من الأعراض قد توقفت وتركت الدور لواحدة أخرى، بل كلّها مستمرة مع بعضها، تدعمها حالة نفسية صعبة، فأنا أعيش لوحدي، يمنع عليّ الاختلاط بأي من أفراد عائلتي، ولايسمح لي باستقبال أي أحد، كما أني لا أستطيع الذهاب إلى أي مكان رغبة منّي لعدم نقل المرض، وإذا كنت أنا من أعاني فليس سليما أن أنقل المرض لغيري.

وبهذه الأعراض تتعدد المواقف ذات الدلالة، ففي أحد الأيّام وعند صلاة المغرب، وبعد أن رفع الإذان وقمت بالوضوء استعدادا لأداء الواجب، توجهت صوب القبلة وقمت بتكبيرة الإجرام وما أن بدأت سورة الفاتحة لم أستطع إكمالها فسقطت أرضا، وجرى معي هذا الأمر مرتين، وكنت أنتظر قليلا إلى أن أشعر بشيء من الراحة والقوة والاستعداد لأعود، يكفي أنني ولأكثر من مرّة قرّرت أن اصلّي من جلوس بسبب عدم القدرة على الوقوف، ولكن بقدرة الله تمكّنت من أداء كافة الفرائض خلال فترة المرض، ولكن كل تلك الفرائض كانت تؤدى من قبلي خفيفة، بدون المستحبات الكثيرة في الصلاة من قبيل الاقتصار في الركوع على الذكر فقط مرة واحدة بدون إضافة الصلاة على النبي وعلى آله، لأنني لمجرد أن أقوم بأداء الصلاة التي لا تستغرق أكثر من ثلاث إلى خمس دقائق أشعر بالتعب وكأني بذلت جهدا كبيرا، فألجأ إلى الفراش مرهقا، وقد أكون مصابا بحالة من البرد أو من التعرّق.

وذات يوم انتابني النعاس فلجأت إلى النوم، وقلت بأن الفرج قد جاء، وإن التعافي بدأ يأخذ طريقه نحوي، وما أن غفوت للحظات إذا بشيء جاثم على صدري يوقظني ويزيل النوم والوسن عن عين، وتكرّرت هذه الحالة مرة أخرى، ولكن ثمة كوابيس رافقتني طوال الفترة المرضية التي استمرت 28 يوما.

لقد تطوّر الوباء في جسدي، وتمكّن بصورة غريبة، لم يترك جزءا من جسدي لم يفعل فعلته به، حتى أن الأثر النفسي كان قويّا وشديدا، فمن شدة الألم الذي كان في كل زاوية من الجسد شعرت بقرب الموت والأجل المحتوم، وانتابني شعور بأن الذي يحصل لي هي خطوات الانتقال إلى العالم الآخر، حتى تساءلت بيني وبين نفسي: "إذا كانت هذه هي النهاية فلماذا هذه المعاناة؟ فكان الجواب بأن المولى جلّ شأنه ربما يطل المرض لتزكية جسد المؤمن، وتعذيب العاصي الكافر في الدنيا، فابتهلت إلى الله جل شأنه بأن يأخذ أمانته، فالبلاء لا يطاق والألم شديد، ولم أكن أعلم ما إذا كان الله سبحانه وتعالى أراد بي خيرا أم سوءا. ولا أملك سوى الثقة به جلّت عظمته.

ولأن المرض شديد والإرهاق لا يطاق بت أشعر بالتعب تجاه أي مجهود بسيط مثل أداء الصلاة كما سبق القول والذهاب إلى بيت الراحة، أو حتى الرد على الهاتف، وفي إحدى الليالي أردت أن أجلس في الهواء الطلق فربما شعرت بشيء من الراحة، وخرجت من العزلة الإجبارية لم أستطع البقاء أكثر من عشر دقائق، وانتابتني حالة من التعب أعادتني إلى مخدعي وسريري والغطاء الرطب الذي ظل يعانقني طوال الفترة الماضية.

ولأني كنت بمفردي، ولا برنامج لدي، وفي لحظات أشعر فيها بشيء من الصحوة من المرض، ألجأ لمشاهدة بعض الأفلام والمسلسلات العربية التي لم يتسن لي في الظروف العادية مشاهدتها مثل فيلم ”الأرض“ الشهير، وفيلم ”سلام يا صاحبي“ ن وفيلم ”الظالم والمظلوم“، ومسلسلي ”الدبور“، و”يوميات مديرعام“.. وقد حاولت أن أقرأ بعض الكتب والروايات فلم أتمكن لأن المرض يؤثر على القدرات العقلية، وحتى القدرة على الاستيعاب، وكنت اشعر بالتعب من قراءة صفحة من كتاب، فكيف بقراءة كتاب كامل من مائة أو مائتي صفحة.

وتسنى لي خلال فترة المرض أن أتابع عبر ”اليوتيوب“ بعض دروس المنطق، وحاولت أن ألقي نظرة على علم الكلام عبر التقنية نفسها لكن لم أتمكن ولم يساعدني الوضع الصحي.

وخلال فترة المرض كان لا بد وأن أقصد المراكز الصحية لأطمئن على نفسي، وأرى ما يقدمه الأطباء لعلاج أو التعامل مع هذه الحالات، فقصدت خلال الأيّام الأولى وبعد اشتداد الحالة مستشفى المانع بالدمام فدخلت على الطوارئ فبعد تشخيص الحالة قاموا بإجراء اشعة على الصدر وتخطيط القلب والفحص على الضغط والسكر والحرارة وصرفوا لي بعض الأدوية عن الكحة التي كانت خفيفة، وحبوب الباراسيتامول المسكنة «البنادول والفيفادول، والآدول... الخ»، بعد أن تأكد لهم بأن حرارتي مرتفعة وصلت إلى 38 و39 فكانت النتائج إيجابية، خاصة بالنسبة للتنفس الذي يعد أخطر أعراض الكورونا.

وبعد أن أخذت الأدوية، وبعد أيّام لم أشعر بتحسن على أي صعيد، خصوصا في مسألتي النوم والأكل، قصدت مستشفى القطيف المركزي، فقاموا بوضعي في مكان مخصص، ووضعوا كيسا ”مغذيا“ وضعوا فيه حقنة خافضة للحرارة، وتكررت الزيارة إلى مستشفى المواساة بالقطيف وكان الإجراء نفسه، فالكيس السائل المغذي يغطي نقص الغذاء لبعض الشيء.

والمؤسف أنني وقبل أن اقصد مستشفى القطيف المركزي، ومستشفى المواساة مرتين، كنت قد قصدت احد المراكز الصحية بعد أن لاحظت ارتفاع الحرارة التي وصلت إلى الأربعين، فكان الموقف سلبيا أن تم ”طردي“ بشكل مؤدب، واعتذرت الدكتورة عن استقبالي، رغم أن المركز أهلي وكل شي بالمال، ولما تواصلت مع ا لمسؤولين في المركز قالوا بأنهم لا يتعاملون مع مرض الكورونا، مع أن المعلومات التي لدي هي أن أي مركز صحي تأتيه أي حالة مرضية يتعامل معها بشكل موضوعي، وإذا لم يستطع يقوم بنقلها بسيارة إسعافه إلى أقرب مستشفى يتعامل مع الحالة.

بعد عشرين يوما من المعاناة والتعب، قصدت أحد المراكز الصحية الحكومية، وبعد إجراء الفحص العادي، أقرّوا علي الاستمرار في الحجر لأن الحرارة لم تنخفض بعد، ولا بد من تناول حبوب الباراسيتامول «البنادول واخوانه» بواقع حبتين كل ست ساعات، ومع ذلك لم تنخفض الحرارة، التي صرت أتابعها من جهاز جلبته لي إحدى أخواتي لأبقى ثمانية أيام إضافية مع الكورونا والحرارة على حالها، فاستخدمت الكمادات الباردة فانتهى الصداع ولم يتراجع مستوى الحرارة.

بعد ذلك بدأ المسلسل يتراجع، ولم أتوقع أن تلك المعاناة سوف تغادر بدني، فاستقرت درجة الحرارة، وتوقف الصداع، وعادت حاستا الشم والذو3، ولكن الإرهاق البدني استمر لعشرة ايّام بعد ال 28 يوما، وبدأت بالإقبال على الطعام والشراب بعد ان انخفض وزني بصورة غير طبيعية وتغيّرت ملامح وجهي وعادت حياتي الاجتماعية.

تلك هي قصتي مع الكورونا أختمها بعدد من النقاط:

أولا: ضرورة الإيمان بقضاء الله وقدره، فالمرض وقبله الموت دليل على ضعف الإنسان أمام خالقه، فلا ينبغي لأي كان أن يتمادى في غيّه وضلاله، فالمرض رسالة لنا نحن البشر، فالله هو الحاكم على كل شيء

ثانيا: الالتزام بالاحترازات، وأظن أن من يطلع على تفاصيل هذا المرض، مثلي ويوجد من هو أشد حالا منّي لابد وأن يلتزم بكل احتراز وبكل قرار أصدرته وزارة الصحة ونفذته الجهات الحكومية المعنية، التي كانت عند مستوى الحدث.

ثالثا: تقديم الشكر والعون لكل العاملين في المراكز الصحية، فهم في فوهة البركان، هؤلاء اثبتوا أنهم حماة الوطن، وقد أثبتوا كفاءتهم، وأظن أننا سوف نخلص من هذه التجربة بمجموعة كفاءات وطنية في المجال الصحي تستطيع أن تنهض بهذا القطاع الذي يشهد أزهى فتراته..

رابعا: زيادة الكوادر العاملة في هذا المجال الصحي من خلال التحفيز المستمر وتسهيل عملية الالتحاق بالمعاهد والكليات الصحية لتخريج المزيد من الكوادر من الأطباء والممرضين وكافة التخصصات الصحية

وأخيرا، يجدر بي حقا بأن أشيد بكل الجهود المبذولة من قبل الجهات الحكومية المعنية، أو من الفعاليات الاجتماعية، الرامية لتحسين جودة الحياة، ورفع ثقافة الاحتراز والنظافة وما إلى ذلك.

والله الموفق