آخر تحديث: 25 / 11 / 2024م - 8:46 ص

وجوه لا تنسى.. الحجي ”عبد النبي المسباح“ المؤمن المحنك

حسن محمد آل ناصر *

وجه من الوجوه التي تملك احساس صادق بصعوبة تسمع صوته في قمة المتواضعين المحنكين الزاهدين، وجه قريب من عالمنا هو الجد هو الأب هو الأخ هو العم هو الخال هو الصديق هو الوجه القطيفي المألوف ”الأصلي“ العفوي امامك بكل تفاصيله الطاهرة.

يسعدني كثيرا انني قد فتحت عيني ووعيت على ذاك الزمن الجميل ورونقه ومشاهدة تلك الشخصيات التقية النقية وعمق طيبها الاجتماعي حيث انغرس في وجداننا نحن صبيان تلك الفترة مشهد دكان «الحجي» كما تسميه الاكثرية، ومن يرتاده من شخصيات طيبة ومتدينة يسومها الاخلاق الحميدة.

القديح وتحديدا في حي السدرة أحد الأحياء التي اشتهرت بالمسجد المسمى بالسدرة وعين جوفيه تعرف بالسدرة ومجموعة من المحلات الصغيرة نسبيا، يحد هذا الحي شرقا الوادي وجنوبا حسينية الناصر وغربا دالية الشويكي وشمالا حسينية الجنبي، ومن بين تلك المحلات التي لم تمحى من ذاكرتي محل لشخصية الرجل الصالح المؤمن الحاج عبد النبي علي المسباح، عندما كنت صبيا اذهب إليه في دكانه المتواضع الذي لم يقتصر على البيع فقط فقد كان له دور كبير في تربية الاجيال، فالشخصيات التي تلازمه ذات هيبة ورجال مؤمنين بمثابة المدرسين، والدكاكين رغم صغرها قديما إلا انها تعتبر بمثابة المدارس.

دكانه مساحته ضيقة وصغيرة بالكاد يستطيع الفرد الدخول إلا انه يفي بحاجة الجالس قبل المشتري، فالجالسين لديهم كراسي خشبية مبطنة بالإسفنج ومخاطة بالجلد، محايدة لبعضها البعض تقريبا خمسه، مازال هذا المنظر يلازمني رغم تقلبات الزمن، لأنه يذكرني بأجمل ايام وهي طفولتي التي اشتري من «الحجي» شعير لحمامي الذي اعشق، والذكر بالذكر يقال: كان يملئ الكيس «كرما منه» بعكس غيره من الباعة لا يكفي ليومين.

كان دكانه مجلسا بمثابة الدار الاجتماعية الدينية والثقافية الادبية فقد كان يستضيف ثلة من خيرة الأهالي حيث تكمن المجالسة بفنجان قهوة وكوب شاي واكثر ما يدور الحديث بالحوارات والنقاشات المفيدة بدلا من ”البذخ“ كان هناك غذاء روح ”العلم“.

ولأن القديح لها وجه واحد منذ تكوينها الجغرافي بأنها تمتاز بكثرة المزارع وتحيطها النخيل من كل الجهات كالعقد على جيد الفتاة، وأن لها تاريخ حضاري بالفطرة يسومه التعايش والتفاهم ويفوقه المودة بين الناس «طيبة اهلها» وعندما نريد الدخول لرجالات القديح فلابد من الوقوف امام هذا العبد الصالح ”الحجي“، الذي ذكره الوالد حفظه الله الخطيب محمد علي بن الملا حسن آل ناصر في كتاب ”وهج الايمان“ هو الرجل الصالح التقي الحاج عبد النبي بن الحاج علي بن الحاج محمد بن الحاج مسباح القديحي القطيفي، فهذا الانسان التي حملت هذه الذكرى الحديث عنه عاش في بلدته «القديح» معروفا بصلاحه نفسه وإصلاحه لمجتمعه مشهورا بالتقى وجليل الأفعال، حتى عرف بين «القديح» باسم الحجي «الحاج».

ولد رحمه الله بمدينة «القديح» سنة 1328 هـ وتوفي بها ليلة الأحد الموافق الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1414 هـ . قرأ القرآن الكريم وأتقن الخط والقراءة وشطرا من النحو على:

1 - الأديب الشاعر السيد علي الخضراوي المتوفي سنة 1352 هـ .

2 - الخطيب الفاضل الحاج ملا حسن بن ربيع المتوفي 1362 هـ .

كان رحمه الله وقورا مهابا ومؤمنا يقضي أكثر أوقاته في طاعة الله تعالى وقد حدثني من أثق به من أنه لم يترك صلاة الليل حتى أيامه الأخيرة التي غادر فيها الدنيا، له من الآثار «كشكول لايزال مخطوطا» وديوان شعر بالفصحى والدارجة كلها في مدح ورثاء أهل البيت ، وأن أردت الاطلاع والزيادة فراجع كتاب «وهج الايمان» للوالد الخطيب محمد علي بن الملا حسن آل ناصر.

شخصية ”الحجي“ منعكسة بشكل أو بآخر على من عاصره أو على البيئة الدينية والثقافية والاجتماعية حيث عرف بمراحل النصح والارشاد والاصلاح ودائما وابدا يمثل كل الابعاد لخدمة الناس، يشهد له التاريخ بأنه شديد الاعتزاز بطاعة ربه ولا يلوم في الله لومه لائم وهذا الشيء الذي ليس عليه غبار بأن النسك العبادية هي من أولوياته وأسس حياته.

يعتبر أول من اضاف للحركة الثقافية الأدبية بالقطيف وخاصة القديح، ومساهماته وما قدم لخدمة الثقافة والأدب وذلك من خلال دوره البناء والمشهود في العلم والتعليم والسؤال والاجابة عن المسائل الشرعية وكما كانت له صله كبيرة مع علماء عصره وقد ولي على وكالة لبعضهم، وكما ذكرت لكم سابقا بأن دكانه وأن كان بسيط ومساحته متواضعة إلا أنه كان يرتاده المؤمنون والمتعلمون والمثقفون في تلك الفترة التي تتعطش لروح ووهج التعليم.

ومن شعره قوله: في رثاء الحسين

بنفسيَ أطفال الرسالة أصبحت *** إلى السبط تشكو من لهيب ظماها

فثارت لنصر الدين أكرم عصبة *** براها إله العرش ثم حباها

تراهم كأمثال البدور زواهراً *** أزال ظلام الشرك نور ضياها

وأورت بحرب نار حرب وصيرت *** لها حطباً جزلاً جسوم عداها

رووا منهُمُ يوماً عبوساً أهالهم *** وضاق بهم يوماً وسيع فضاها

فلمّا أراداللّه إنفاذ أمره *** هوت سجّداً صرعى بحرّ رباها

مضوا لجنان الخلد والسبط بعدهم *** بقي بين أعداء تشبّ لظاها

وتجد القصيدة كاملة في ديوانة، ”الحجي“ رحمه الله رحمه الابرار كان شعله من الإيمان كان رمز لجيل تلك الحقبة فقد ترك أثر على افكار جيله وجيل ما بعده ومازال محفورا في ذاكرة القطيف، واحمد الله انني من الشباب الذين رأيته وعاصرته في سنوات عمري، أن مثل هذه الشخصيات المؤمنة رغم تعب ومصائب وشقاء معيشتهم إلا أنهم باقون بنجاحاتهم وتحدياتهم وذكرياتهم العامرة بإعلاء ذكر الله وأهل بيته صلوات الله عليهم اجمعين.