آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

قصة قصيرة

صائد القلوب

عبد الباري الدخيل *

اعتادت أسرتنا منذ بدء الجائحة، وفرض الحضر، أن تجتمع لتناول العشاء، واستمرت هذه العادة حتى بعد انخفاض الإصابات بفيروس كوفيد 19، وكأن اجتماعها ذلك لم يكن اجتماع وجبة فقط، إنما كان اجتماعًا ننفض فيه حكايا ونستقبل أخرى.

في هذا المساء ونحن نستعد لاجتماعنا الذي احببنا اعتياده، رنّ هاتف أخي محمد لكنه كان في دورة المياه، ثم رنّ هاتفي فانقبض قلبي عندما قرأتُ اسم ابن خالي جواد يتصل، فخرجت إلى الحديقة بعيدًا عن عين أمي، وعندما رجعتُ أخبرتُ أبي أن رجلًا يريده في الخارج، فسألني عنه، قلت لا أعرفه.

عند الباب أمسكت يده واحتضنته وقلت: خالي مات، فاحتضنني وبكينا معًا حرقةً وألمًا لفراقه، ثم كفكفنا دموعنا مرجعين الأمر لله، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف سنخبر أمي بهذه الفاجعة؟

بعد صمت عبرَ كسكين، قرر أبي أن يخبرها بنفسه، ناداها وأجلسها بجنبه وقال: أم محمد.. ثم أدار عينه كأنه يصارع دمعة كادت تهرب من سجن عينيه.. وأعاد عليها الكلام: أم محمد لو عندك أمانة وجا صاحبها بياخدها ويش تقولي؟

قالت: حقه.. ثم بصوت مخنوق: ويش صاير؟ والتفتت للجالسين وسألت: وين محمد؟

قال: محمد بخير.. ثم ودموعه تسابق كلماته: أخوش أبوجواد يسلم عليش ويسأل براءة الذمة.. فقد أخذ ربك أمانته.

فزّت أمي واقفة وهي تشير بيديها لأبي وتردد: يا علي.. يا علي.. ويش تقول؟

ولطمت صدرها وهي تقول: واحسيناه.. وامصيبتاه..

ثم قالت: ”أني اليوم مكلمة مريم بنته قالت زين، وبشرتني أنه طلع من غرفة العناية“.. مسحت دموعها وأكملت: أخويي مات؟ متى؟ ”ويلي يا أخوي رحمك الله يا خلف أبويي“، ودخلت في نوبة بكاء أفزع من كان في البيت، وتجمعنا نبكي معها.

خالي أبو جواد هو الأخ غير الشقيق لأمي، لكنهما يحبان بعضهما كتوأمين رغم فارق السن، كان يزورها كثيرًا، وهي كذلك، وورثنا حبها له، وحبه لها، فصار الخال الأثير في قلوبنا.

يقال إن أبي ترك له اختيار أسمائنا، فكان يقترح أكثر من اسم كي يجعل لأبي حرية الاختيار، لكن أمي بفطنتها تسأل أبي: أي الأسماء ذكرها أولًا وتختاره.

وعندما سألته عن اسمي أخبرني أن «رجائي» كان من عظماء رجالات الثورة الإسلامية في إيران.

كان كريمًا في مشاعره فنسمعه مرحّباً: ”هلا حبيبي“، ”هلا بالغالي ولد الغالية“.. وكريمًا في عطائه، حتى أنني في الأعياد كنت أحرص أيام طفولتي على مرافقة أمي لنعايده، إذ كانت عيديته مضاعفةً، وما يوضع من حلويات وفواكه على مائدتهم يغريني أن أتمنى أن يكون لكل شهر بل لكل أسبوع عيد.

أتذكر أنه أهداني أول كتاب امتلكته في حياتي، قال لي: إن في نهج البلاغة أسرارًا كثيرة، اقرأه، وحاول أن تحفظ بعض فقراته، فإنه سيزيد ثروتك اللغوية، ويقوّم لسانك.

في الأيام الأخيرة بدأ قلبه يضعف، فبعد أن استمر أكثر من 70 عامًا يحتضن أفراح وأحزان الحياة، وقسوة فقد الأحبة، قرر قلبه أن يرتاح، فدخل المستشفى للعلاج، لكنّ الله أراد لهذا الركض أن يتوقف، وأن يرتاح هذا القلب الذي نبض بالحب سنين عديدة، خان الجسد صاحبه واستسلم للموت، هذا القلب الذي ينافس برقته الورد، ضلت أبوابه مشرعة للقريب والبعيد، وللمختلف قبل المحب، هذا القلب الذي كان نبضه يزرع الورد على شرفات أيامنا.. ويكنس الأحزان من شوارع قلوبنا.. توقف فتوقفت الأرض عن الدوران، وأشرعنا للحزن نوافذًا وأبوابًا، وغرقنا في بحر غيابه.

لم أستطع تلك الليلة النوم، تقلبتُ على فراشي لساعات دون فائدة، حاولتُ إطفاء مصباح عينيّ فلم أستطع، فكلما أغمضتها شاهدتُ صورة خالي، وطفرت دموعي تبلل وسادتي، واستمرت هذه الحالة حتى سمعت صوت المؤذن لصلاة الفجر.

في المغتسل وقفت أمي أمام جنازة أخيها صامتة، عيناها غيمة حزن ممطرة، وانتفضت كبريءٍ وقف أمام جلاد ظالم، فاحتضنها أبي وقربها من الجسد الممدد على النعش، انحنت وقبلته، وقالت: هذا الوداع أبو جواد، هذا الوداع يا خويي، سلم على الوالد فقد تجدد اليتم بعدك يا أخي.

تزاحم المعزون في تشييعه وأيام العزاء الثلاثة يضرب به المثل، وحق له ذلك فقد ”أحب الناس فأحبه الناس“، ولقد برع في اصطياد القلوب فوفت لحبه بالدموع والدعاء.