آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

الترامبية المتوحشة وتسييس الأوبئة

الدكتور أحمد فتح الله *

في مقال سابق «”الترامبية“ في جهينة بتاريخ 2020/11/8» [1]  عرَّفنا الترامبية واحتمالية بقاءها بعد من تحمل اسمه، وهي حركة فاشية بامتياز، تدعي التحرر من الدولة العميقة، لكنها تسعى لدكتاتورية أخطر من كل الدكتاتوريات لامتلاكها المال والقوة العسكرية والإعلام. [2] 

شهدت البشرية عام 2020م كذبة كبيرة روج لها الرئيس السابق دونالد ترامب؛ كذبة تتعلق بوباء فيروس كورونا قللت بشكل منهجي من خطورة Covid-19 وفائدة أقنعة الوجه «الكمامات»، مما أدى إلى وفاة الآلاف من الشعب الأمريكي، ولمئات الآلاف من الناس في دول أخرى في العالم بسبب الدور الريادي للولايات المتحدة الأمريكية في العالم، إيجابًا وسلبًا.

فيروس كورونا وصل إلى أمريكا في عام انتخابات. كذبة كورونا، أو التعامل غير المسؤول مع الحدث، أدخل السياسة في الوباء مما أثر على تعامل إدارة ترامب في أزمة كورونا طوال الفترة المتبقية من ولايته. وفي 22 كانون الثاني «يناير» 2020، وهو اليوم الذي صرحت فيه الولايات المتحدة عن أول حالة إصابة بفيروس Covid-19، قال الرئيس ترامب إنه لم يكن قلقًا من تحول تفشي المرض إلى جائحة. وقال ”نحن نسيطر عليه بالكامل“. لكن يذكر بوب وودوارد في كتابه ”الغضب“ «Rage» أنه بعد ستة أيام، أخبر مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين ترامب بشكل لا لبس فيه: ”سيكون هذا أكبر تهديد للأمن القومي تواجهه في رئاستك. سيكون هذا هو أصعب شيء بالنسبة لك.“ وفي 7 فبراير 2020م، أخبر ترامب وودوارد أن فيروس كورونا مميتة للغاية، مشيرًا إلى أنه كان ”أكثر فتكًا“ من أشد أنواع الأنفلونزا. لكنه في اليوم التالي، قال «الرئيس ترامب»: ”هذه إنفلونزا... إنها مثل الأنفلونزا. إنها تشبه إلى حد ما الأنفلونزا العادية... لدينا لقاحات الإنفلونزا. وسنحصل بشكل أساسي على لقاح الإنفلونزا لهذا بطريقة سريعة إلى حد ما.“

ورغم تزايد وفيات فيروس كورونا في الولايات المتحدة، شبّه ترامب مرة أخرى فيروس كورونا بالإنفلونزا، وغرد في 9 مارس: ”في العام الماضي مات 37000 أمريكي من الإنفلونزا «العادية». بمتوسط ما بين 27000 و70,000 سنويًًّا. لم يتم إيقاف أي شيء، الحياة والاقتصاد مستمران. في هذه اللحظة هناك 546 حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا، مع 22 حالة وفاة. فكروا في ذلك!“

هذا، وحين اتضح علميًّا وعمليًّا أن الفيروس كان ينتشر عن طريق الرذاذ التنفسي والهباء الجوي، كان مركز السيطرة على الأمراض بطيئًا في التوصية بالأقنعة «الكمامات». بل الأعظم من هذا، في 29 فبراير، وجه الجراح العام جيروم آدامز أشبه بالتوبيخ للأمريكان في تغريدة: ”بجد أيها الناس - توقفوا عن شراء الأقنعة! إنها ليست فعالة في منع عامة الناس من التقاط فيروس كورونا، ولكن إذا لم يتمكن مقدمو الرعاية الصحية من جعلهم يعتنون بالمرضى، فهذا يعرضهم ومجتمعاتنا للخطر!“ تغريدة جدًا خطيرة؛ الطاقم الطبي هم المشكلة، عند المسؤول الأول في الإدارة الطبية في البلاد.

في 3 أبريل، غير مركز السيطرة على الأمراض موقفه، ونصح جميع الأمريكيين بارتداء غطاء للوجه في الأماكن العامة، لكن الرئيس صرح: ”يمكنك فعل ذلك. لستُ مضطرًا للقيام بذلك. أنا أختار عدم القيام بذلك، ولكن قد يرغب بعض الأشخاص للقيام بذلك، ولا بأس بذلك“. كانت الرسالة إلى أتباعه واضحة: ”الأقنعة اختيارية“.

عدم مبالاة ترامب العلنية هذه، كانت رغم معرفته منذ شهور عن مدى سهولة انتشار الفيروس، والأسباب المنطقية لارتداء الأقنعة؛ فلقد قال لبوب وودوارد في 7 فبراير: ”إنه يمر عبر الهواء، بوب. هذا دائمًا أقوى من اللمس. كما تعلم، اللمسة - ليس عليك أن تلمس الأشياء، أليس كذلك؟ لكن الهواء، أنت فقط تتنفس الهواء. هذه هي الطريقة التي يتم تمريرها. وهذا أمر صعب للغاية. هذا أمر حساس للغاية.“ وأكد هذه المعرفة مرة أخرى في 13 أبريل، عندما أخبر ترامب وودوارد أن فيروس كورونا ”قابل للانتقال بسهولة“.

لكن بالنسبة للرئيس الطامع في ولاية ثانية «لأربع سنوات أخرى»، لم يكن هناك عودة، واستمرت الكذبة ثلاثة أشهر أخرى قبل أن يوافق على ارتداء قناع في الأماكن العامة. خلال زيارة قام بها في 12 يوليو إلى مركز والتر ريد الطبي العسكري الوطني، قال ترامب للصحفيين ”لم أعارض الأقنعة قط، لكنني أعتقد أن لديهم وقتًا ومكانًا“، «بمعنى يمكن لبسها في أوقات معينة وأماكن معينة.» لكن الضرر قد حدث، تم ”تسييس الأقنعة“؛ لقد أصبح رفض ارتداء القناع في الأماكن العامة علامة على الولاء للرئيس، مثله مثل ارتداء القبعة الحمراء ذات الشعار MAGA، مختصر Make America Great Again ”فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى!“. [3] 

هذا التسييس وضح في انقسام الشعب الأمريكي حزبيًّا في قضية صحية مميتة، ففي يوليو، وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أن 94٪ من المشاركين مسجلين كديمقراطيين دائمًا، أو في كثير من الأحيان، يرتدون قناعًا مقابل 46٪ فقط من الجمهوريين «حزب الرئيس». وبالمثل، فإن العديد من الحكام الجمهوريين، الخائفين من المخاطرة بتوبيخ من الرئيس أو رد فعل عنيف من أنصاره، رفضوا إصدار قوانين لهذا الأمر. على سبيل المثال، قال حاكم ولاية ساوث داكوتا كريستي نويم: ”هناك العديد من الأشخاص الذين يشككون في فعالية الأقنعة... كما قلت من قبل، إذا كان الناس يريدون ارتداء قناع، فيجب أن يكونوا أحرارًا في فعل ذلك. وبالمثل، أولئك الذين لا يريدون أن يرتدوا أقنعة لا يجب يخجلوا من لبسه. وعلى الحكومة ألا تفرض ذلك“، بينما قال تاكر كارلسون في قناة فوكس نيوز «الداعمة للترامب» في مارس: ”بالطبع، الأقنعة تعمل. الجميع يعرف ذلك. وقد أثبتت العشرات من الأوراق البحثية ذلك“. ظل ترامب يسخر علانية من فائدة الكمامات والدعم العلمي لها قائلًا: ”ما يقولونه لك حقًا هو أن الأقنعة سحرية... ما يبدو أنه غطاء مزعج للوجه، هو في الواقع، تميمة مقدسة تحمينا من الأمراض!“

مع اقتراب موعد الانتخابات، استأنف ترامب مسيراته الانتخابية الكبيرة. من بين الحاضرين في التجمع الأول الذي عقد في 20 يونيو في مدينة تلسا «أوكلاهوما» كان المرشح الرئاسي السابق هيرمان كاين جالسًا دون كمامة في حشد مزدحم من 6200 شخص بلا كمامات. بعد أسبوع واحد من المسيرة، ثبتت إصابة هيرمان كاين بفيروس كورونا. بعد يومين، غرد بدعمه لقرار كريستي نويم «حاكم ولاية ساوث داكوتا» بعدم طلب أقنعة في زيارة ترامب المزمعة لجبل رشمور[4] . ”لن تكون الأقنعة إلزامية لهذا الحدث الذي سيحضره الرئيس ترامب؛ لقد ملَّ الناس!“ وتوفي كين بعد شهر من إصابته بفيروس كورونا.

خلال فصل الصيف، ومع تزايد الوفيات، قام ترامب بتهميش مستشاريه الرئيسيين في مجال فيروس كورونا وجلب سكوت أطلس من معهد هوفر، الذي كانت نظرياته التحررية أكثر انسجامًا مع تصريحات ترامب العلنية من نظريات فريقه الحالي بما في ذلك أنتوني فوشي وديبورا بيركس. شكك أطلس علنًا في فعالية الأقنعة، وغرد في أكتوبر: ”الأقنعة تعمل؟ لا: لوس أنجلوس، ميامي، هاواي، ألاباما، فرنسا، الفلبين، المملكة المتحدة، إسبانيا، إسرائيل، منظمة الصحة العالمية: الاستخدام الواسع غير مدعوم، إضافة إلى العديد من الأضرار.“

مع اقتراب موعد الانتخابات، زادت وتيرة تجمعات الرئيس، والتي كانت مزدحمة والكمامات الاختيارية كانت قليلة على وجوه المشاركين. وقدرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أن 18 من فعاليات هذه الحملة من المحتمل أن تؤدي إلى أكثر من 30000 حالة إصابة بفيروس كورونا و700 حالة وفاة. في 26 سبتمبر، أقام البيت الأبيض تجمعًا في حديقة الورود للإعلان عن ترشيح إيمي كوني باريت للمحكمة العليا. مرة أخرى، لم تكن الأقنعة مطلوبة، وكان يرتديها عدد قليل جدًا من الحضور. بعد خمسة أيام، ثبتت إصابة الرئيس وزوجته بفيروس كورونا. أتاح له دخول المستشفى لمدة ثلاثة أيام فرصة لإعادة صياغة رسالته المتعلقة بفيروس كورونا. لكنه لم يفعل. بل تمادى وقال في بيان مسجل من المستشفى: ”لا تدعوا الأمر يسيطر عليكم. لا تخافوا منه“.

بعد ثلاثة أسابيع، أصدر معهد المقاييس الصحية والتقييم «IHME» التابع لجامعة واشنطن ما يمكن أن يكون تنبؤًا دقيقًا بشكل مذهل. قدّر المعهد أنه قد يكون هناك 500,000 حالة وفاة في الولايات المتحدة بحلول نهاية فبراير «2020م». اقترح تحليلهم أيضًا أنه يمكن منع 130,000 من هذه الوفيات إذا تبنت الدولة عامة ارتداء الأقنعة، خاصة في الأماكن العامة.

قال الدكتور كريستوفر موراي، مدير المعهد، ”نعتقد أن النقطة الأساسية هنا هي أن هناك زيادة كبيرة في الشتاء قادمة.“ كان موراي وزملاؤه على أهبة الاستعداد، لكن لم يكن هناك أي ضغط من إدارة ترامب لتعميم الكمامات. وبالفعل، كما توقع الخبراء، تجاوزت الولايات المتحدة هذا الأسبوع «22 فبراير 2020م» نصف مليون حالة وفاة، أضاء لهم الرئيس بايدن مع عقيلته ونائبته كاملا هاريس وزوجها في البيت الأبيض ”شمعة يقظة“ «Vigil Candle» [5] .

في الختام، ”في الحرب، أول ضحية هي الحقيقة“، كما قال إسيخيلوس، «الكاتب الروائي والمسرحي التراجيدي اليوناني»، فعندما يُكتب تاريخ ”الحرب العالمية“ ضد فيروس كورونا، ستكون كذبة دونالد ترامب الكبرى بشأن حقيقة الجائحة والكمامات هي الخطيئة العظمى بحق الإنسانية، وليس فقط الأمريكان، فقد أظهر إحصاء لوكالة ”رويترز“ «25/2/2020م» أن ما يزيد على 112,61 مليون شخص أُصيبوا بفيروس كورونا المستجد على مستوى العالم، في حين وصل إجمالي عدد الوفيات الناتجة عن الفيروس إلى مليونين و602241. وتم تسجيل إصابات بالفيروس في أكثر من 210 دولة ومنطقة منذ اكتشاف أولى حالات الإصابة في الصين في ديسمبر 2019م. كان من المحتمل أن تكون الخسائر والآلام أقل بكثير لو كان في ”البيت الأبيض“ رجل عاقل يحمل إنسانية بين جنبيه. ورغم تركته لجوزيف بايدن ثقيلة جدًا وملغمة، بدأت سياسة الأخير وإدارته لهذه الأزمة بالذات تؤتي نتائجها، لكن هل يخربها في قضايا أخرى وأماكن أخرى؟ وهل التنين الصيني ”سيترك أمريكا لحالها“؟

المصدر: مقال جوناثن راينر «Jonathan Reiner»: Donald Trump`s other، tragic big lie «الكذبة الخطيرة الأخرى لدونالد ترامب»، على موقع CNN بتاريخ 2020/2/22م، على الرابط التالي: https://amp.cnn.com/cnn/2021/02/22/opinions/trump-covid-big-lie-reiner/index.html

الهوامش

[1]  انظر المقال على الرابط التالي: https://juhaina.in/?act=artc&id=72109
[2]  ”كان هجوم 6 يناير 2020م على مبنى الكابيتول بالولايات المتحدة عرضًا حيًّا للخراب الذي يمكن أن ينتج عندما يتم حقن كذبة كبيرة بشكل متكرر في الجسم السياسي [لأي أمة].“ «جوناثن راينر»
[3]  الحقيقة بدأ التسييس منذ اليوم الأول لإعلان انتشار فيروس كورونا، حيث سماه ترامب ب ”فيروس الصين“. انظر مقال الكاتب: ”كورونا: البعد اللغوي“، جهينة الإخبارية في 22/3/2020م، على الرابط التالي: https://juhaina.in/?act=artc&id=64427
وقد ظل ترامب يسميه بهذا الاسم إلى آخر أيام ولايته، وحرب التسمية وأصل الفيروس لا زال قائمًا بسببه حتى بعد رحيله من السلطة، إذ أن الصين اتهمت في الأسبوع الماضي مختبر عسكري في ولاية ميرلاند في أمريكا هو مصدر الوباء.
[4]  جبل راشمور «Mount Rushmore» ‏ هو نصب تذكاري لأوجه أربعة رؤساء أمريكيين «جورج واشنطن، توماس جيفرسون، ثيدور روزفلت، أبراهام لينكون» منحوتة بارتفاع 60 قدما. يقع الجبل بالقرب من مدينة كيستون «Keystone» ‏ بولاية داكوتا الجنوبية.
[5]  ”شمعة اليقظة“، هو تجمع بشري تضاء فيه الشموع للتذكير بضحايا، أو ضحية ما، أو تعبيرًا عن احتجاج أو رفض لحدث ما أو ممارسة ما.
تاروت - القطيف