آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:08 م

عن الإنهاك الالكتروني

أثير السادة *

لا أعرف الركض في فضاءات التواصل الالكترونية، بتطبيقاتها المتكاثرة كالأرانب، لذلك لا أسفر بعيدا في التطبيقات المختلفة، تأخذني رغبة الراحة والاستراحة إلى تخير واحد أو اثنين، والاكتفاء بالتلصص من بعيد على العابرين من دروب التطبيقات الأخرى، للعمر أحكام، أقول لنفسي، وأنا أعلم بأن هنالك من الكهول من لم يترك للسيف مضرب في كل المواقع والفضاءات المتاحة، فاستدرك بأن للمزاج أحكام أيضا، حتى استريح من تأينب الضمير لأن العالم كله يمضي مع الموجه هذه وتلك بينما أنا اسند ظهري للكرسي وأتأمل في ذبابة تحوم حولي في أطراف المكان.

لا أملك الكثير من النوافذ التي ألوح فيها للناس، وكخائف من التيه في الطرقات، أستعذبت المقام هنا، في صومعة الفيس بوك، لاختبار مهارات الكتابة، ولمصافحة العابرين بصورة، مثل ما طال بي المقام في التطبيق الآخر انتسغرام، كمنصة لرواية اليوميات عبر الصورة.. مازلت أذكرالأصدقاء وهم يرسلون الدعوة للاشتراك في هذه المواقع ككمين جميل، لنسقط معها كل الأقنعة التي ورثناها من يوميات المنتديات الالكترونية، وندخل في مرايا واسعة تكشف كل نواقض الروح وتشوفاتها على حد سواء.. كلما استدرت للخلف شهقت لهذا الوقت الطويل الذي انصرف بين زوايا هذه المواقع، ما بين لحظات مد وجزر، كانت فيها الكتابة مغامرة مفتوحة على كل العناوين وكل المعارك.

بعد هذه السنوات التي تقاسمنا فيها كل الأشياء في هذا المكان، أشعر بثقل الانتقال إلى خرائط أخرى، بينما يشعر الآخرون بأنها محطة للتثاؤب لا أكثر، هي دار عجزة، يقولها شاب متحمس وهو يذكرك بالتطبيقات الأخرى التي مضى لها الناس، وأصبحت سيدة الوقت، تشعر بأن وجودك هنا كما هو غيابك هناك هو مجرد خطيئة، لأنك لم تمتثل لشريعة القمصان المفتوحة على كل التطبيقات، كمن يهرب من مستقبله لماضيه، أو كمن يمجد ركونه للظل!.

أجرب الدخول في متاهة أخرى من متاهات التواصل الالكتروني، أصنع فيه كما يصنع الآخرون، أكتب حروفا معدودة أزينها بألعاب اللغة، ثم انتظر جحيم العابرين ممن سيفتحون عيونهم ويتركون آثار خطوهم في هذا الموج المتلاطم من الكلام، تنام وتصحو ولا تنام شهوة الكلام هناك، ما يجعل الواحد منا يحلم بفسحة من صمت عوضا عن الثرثرة الطويلة.. أمضي عنه بعد أعوام قليلة باتجاه مساحة أخرى تتلاطم فيها الصور، وأنا المفتون بها، لأجد الرفاق وهم في نسخ مكرورة، وأجد نفسي أؤثث شرفة مكرورة هي الأخرى، حديقة من صور تنهك العابرين بتدوير النظرات، وهم يمضون اليوم في الحملقة في أصغر أفعالنا إلى أكبرها!.

وجدت الغياب والحضور منهكا في ذات الوقت، أن تحضر في هذه التطبيقات المتكاثرة يعني أن تقسم وقتك وروحك ومزاجك على حبل غسيل طويل، أن تنثر مشاعرك وأفكارك، وتراقب شهيق وزفير الآخرين، وأن تغيب عنها يعني أن تفقد الصلة والحظوة وتصبح في دائرة الغياب والنسيان.. تتذكر عندها محرضك الأول للدخول فيها جميعا وهو التواصل، ثم تتأرجح من التعب لأن الوقت المهدور بات يدعوك للانقطاع، لتعيد التواصل مع ذاتك وترتيب شكل حضورها في هذا العالم.