آخر تحديث: 6 / 10 / 2024م - 9:39 م

عالم متغير وملامح حرب باردة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

لن نتمكن من أخذ مكاننا في موازين القوة العالمية، إلا بمعالجة أزماتنا المستعصية

بالكاد مر شهر منذ تسلم جوزيف بايدن سدة الرئاسة الأمريكية، وخلالها حدث انقلاب كبير في سياسة بلاده، نقلها من العزلة التي فرضها سلفه الرئيس ترامب. وكانت البداية هي العودة بقوة للساحة الدولية، وتجديد الثقة في الاتفاقيات والمواثيق والتحالفات التي وقعتها بلاده، مع الدول الأخرى، وبشكل خاص مع القارة الأوروبية. وبنفس الحماس، تعمل إدارة الرئيس الجديد، على التخلص من مجمل سياسات الرئيس السابق، في مختلف القضايا الأخرى.

والأهم أن هذه العودة، تأتي وسط أنشطة متزايدة لغرماء الولايات المتحدة، في موازين القوة الاقتصادية والعسكرية، عبّر عنهما خطاباً، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني، شي جين بنج، خلال منتدى دافوس الافتراضي، في نهاية الشهر الماضي؛ حيث تناولا الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم، من وجهة نظريهما، وسبل الخلاص منها.

في خطاب الرئيس بوتين، نشهد لغة جديدة، تجاه المعضلات الاقتصادية التي تشهدها بلاده والعالم بأسره، تنأى عن التوجه الرأسمالي، وتقترب كثيراً من اللغة الروسية في حقبة الاتحاد السوفييتي. فهذه الأزمة من وجهة نطره، تعود في جوهرها، وإلى حد كبير، إلى مشاكل اجتماعية واقتصادية متراكمة؛ نتيجة غياب التوازن بين الثراء ومستوى الفقر. وأن التحذير واجب، من تزايد التناقضات، التي يمكن أن تبرز في جميع المجالات. وأن العالم يعيش في مرحلة مقاربة لما حدث في الثلاثينات من القرن الماضي.

وفي سياق وباء «كورونا» أشار بوتين، إلى أن هناك تحولات أساسية في الاقتصاد العالمي، والحياة الاجتماعية والتكنولوجيا. لقد شكل الوباء تحدياً خطراً للبشرية جمعاء، وأدى إلى إحداث تغيرات هيكلية. وإن من نتائج هذه التحولات مضاعفة أزمات النماذج والأدوات السابقة، للتنمية الاقتصادية، وزيادة في التقسيم الطبقي، على المستوى العالمي.

إن هذا الواقع قد أدى إلى استقطاب حاد في وجهات النظر العامة، وحفز نمو الشعبوية واليمين واليسار الراديكالي ومنظمات التطرف الأخرى. وحذر من اللجوء إلى إشعال الأزمات الداخلية والخارجية كمخرج للهروب من معالجة الأزمات المستعصية. وفي هذا السياق، أشار إلى خلافات في السياسات بين بلاده وواشنطن.

في ذات الاتجاه، جاء خطاب الرئيس الصيني، مطالباً بشراكة عالمية؛ من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية في العالم، ومعلناً انتصار بلاده، على الجائحة، وقدرتها على مواصلة نموها الاقتصادي؛ حيث حققت بلاده زيادة في النمو تجاوزت 2,3 في المئة، خلال العام الماضي، وأثناء احتدام وباء كورونا.

التصريحات الأخيرة، للرئيس الأمريكي بايدن، بشأن فرض عقوبات على روسيا، وتناغم الاتحاد الأوروبي مع هذه التصريحات، والتلويح الصيني، باستخدام مختلف الوسائل؛ للمحافظة على وحدة أراضي البلاد، بما في ذلك جزيرة فرموزا، والاستخدامات المتكررة لحق الفيتو، من قبل روسيا والصين، في مختلف القضايا الدولية، جميعها تشير إلى أن العالم على أعتاب العودة لسياسة الأحلاف والمحاور؛ بل إن بعض المحللين والمتابعين للعلاقات بين الدول الكبرى، لا يستبعدون احتمال أن يشهد العالم مجدداً حرباً باردة، تقف أمريكا والقارة الأوروبية إلى جانب حلفائها في الناتو، في جهة وروسيا والصين وحلفائهما في الجهة الأخرى.

تجري هذه التحولات الكونية، والعرب لا يزالون في سباتهم الطويل، وفي ظل غياب تام للحد الأدنى من التنسيق في السياسة بين الحكومات العربية. والأنكى أن ذلك يأتي في ظل قطيعة شبه تامة بين النخب الفكرية العربية، وبين هذه الحكومات، وشلل تام لمؤسسات المجتمع المدني، وتراجع واضح لمؤسسات ومشاريع الحداثة والتنوير العربية.

لقد انتهت حقبة من التاريخ، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وهيمنة اليانكي على العرش الأممي وكان دورنا هامشياً. انسقنا لمهرجان ‘’نهاية التاريخ’’ ونشط الحديث عن الليبرالية والديمقراطية باعتبارها مثلاً وقيماً جديدة، على الرغم من أن هذه القيم سادت في الغرب لما يقرب من قرنين ونصف القرن، منذ اندلاع الثورة الفرنسية.

لن نتمكن من أخذ مكاننا في موازين القوة العالمية، إلا بمعالجة الأزمات المستعصية في البنيان السياسي والاجتماعي العربيين، والتصدي لأسباب الخلل التي تعانيها معظم البلدان العربية، في مختلف الصعد. فتلك هي المقدمة لأن نأخذ مكاننا بجدارة في الحراك العالمي الذي يجري من حولنا.

وأولى خطوات المعالجة في هذه الأزمات، هي معالجة العلاقة الملتبسة بين الحاكم والمحكوم، وبناء شرعية جديدة، مستمدة من العلاقة المتكافئة بين البنائين الفوقي والتحتي، وتصليب هياكلنا الاجتماعية، بتنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية متينة، وإعادة الاعتبار، لعنصري النهضة: الحرية والعدالة؛ حيث الحق في تكافؤ الفرص، ونبذ سياسة الإقصاء، وإسهام الأمة في تقرير مقاديرها؛ من أجل صناعة المستقبل الأفضل.