قصة قصيرة
انتصار
رغم جفاف لغة الأرقام إلا أنها استطاعت بلطفها أن تطوّع حدّتها، وتليّن زواياها، كانت أرق من نسمة الفجر، وأهدأ من همس الأخرس، لكنّ التدريس غيّر شيئًا من أسلوب تعاملها مع الناس، ورغم قسوتها أحيانًا إلا أنها محبوبة الطالبات.
كانت تمتلك أسلوبًا ساحرًا في سرد القصص والأحداث، وخيالها الجامح أهّلها لتأليف القصص لتقرب لطالباتها المعلومات، وكانت تتقمص أدوار الأرقام لتحببها للأطفال.
علمية في شرح مادتها، خفيفة ظل أو كما يقول المصريون: «دمّها شربات» خارج الدرس، لهذا استطاعت أن تكسب قلوب زميلاتها وطالباتها وأمهاتهن، بل وبعض آبائهن، لقد أخبرها أحدهم أنه أحبها لأن ابنته دائمة الحديث عنها، وعن لطفها وجمالها، وهذه الحادثة لم تكن الأولى فقد عملت بعد تخرجها في روضة أطفال، وأحبها طفلٌ، وخطبها آخر، وبكى ثالث لأنه سينتقل لمدرسة ليس فيها «أبلة انتصار».
تغتنم انتصار أوقات استراحتها بقراءة الشعر أو كتابته، حيث ترى أن الأدب هو النافذة المطلة على الحياة بعيدًا عن جمود الفصول الإسمنتية، وقد سبب لها نشر القصائد والخواطر بعض الإحراجات في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد ظنّ بعض المرضى بها ظن السوء.
ورغم تكدس الأحزان في رفوف قلبها إلا أنها تأمل في كرم الله، لهذا فهي لا تشعر بالوحدة، فما أن يقف الليل ببابها، حتى تطفئ قناديل الأرض، لترسل للسماء قوافل المناجاة، وتدخل من باب الدعاء لجنة الرضا.
وعندما تتأمل في جمال نظرات عيون طالباتها، فإنها تقرأ فيها رسائل الله لقلبها الفارغ إلا من حلم الأمومة.
ليلة ميلاد السيدة الزهراء تلقت اتصالًا يحمل صوت الأستاذة رقية مديرة الروضة التي كانت تعمل فيها، قبل أن تلتحق بوظيفة التدريس، وطلبت منها الحضور صباح اليوم التالي لتحتفل مع الأطفال، ولتسرد بأسلوبها قصة ميلاد فاطمة الزهراء، فحضرت وأدت دورها بنجاح وسط البهجة والفرح والصلوات، كانت تبكي من الفرح، وتضحك رغم الحزن، وتردد الأناشيد مع الأطفال والمربيات.
في نهاية الحفل وقفت الأستاذة رقية وخاطبت الأطفال: ماذا نقول للأبلة انتصار؟
قال الأطفال بصوت واحد: شكرًا يا أبلة.
ثم دعت الأستاذة والأطفال لانتصار بطول العمر، والصحة، والتقدم العلمي والثقافي، وأن يحقق الله لها أمانيها.
بكت وهي تردد في قلبها: يا إلهي.. لا أريد الآن إلا هذه الأمنية الوحيدة، فحققها لي يا رب.
يوم النصف من شهر شعبان في العام التالي، صرحت المديرة عن سبب دعوتها لانتصار في تلك المناسبة، وقالت إنه مرتبط بهذه الأمنية التي جاءت انتصار تبشرهم بتحققها، فقد استجاب الله تعالى للقلوب الطاهرة، وأنال قلبها حديقة ياسمين تعطر أيامها، لقد جاءت تحمل زهرتها لتحتفل مع الأطفال أحباب الزهراء .