في طبيعة مفهوم الدولة
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: أن قيم الإسلام السياسية، لا تؤسس لنظام حكم ثيوقراطي، وإنما هي تدعو وتحث على تأسيس حكم منبثق من جسم الأمة، ويكون تعبيرا عن حاجاتها وتطلعاتها، ويمارس دوره ووظائفه بوصفها جهازا مدنيا، لا يمتلك إلا السلطة المخولة لهم من الأمة، وهي التي تراقب أداءهم، وهي التي تقرر استمرارهم أو إعفاءهم من هذه المسؤولية الكبرى.. فالحكم وممارسته ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لإنفاذ تشريعات السماء، وتوفير حاجت ومتطلبات الناس.. إذ يقول تبارك وتعالى ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون﴾..
وقال عز من قائل ﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون﴾. لهذا نجد أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، لم يخرج عن نطاق البلاغ والتعليم والتزكية.. وإن نظام السياسة والتدبير، لا يدار بالقهر والاستئثار والاستفراد والإكراه، بل بالحرية والشورى ومشاركة الجميع في صناعة حاضرهم وصياغة مستقبلهم..
فشرعية الحكم الحقيقية في أنه يحكم بالعدل والقسط بين الناس، وحين يخرج الحكم عن مقتضيات العدل والقسط في ممارسة الإدارة والحكم، تنتهي شرعيته، ويتحول إلى حكم مستبد وظالم.. يقول تبارك وتعالى ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين﴾..
”فمن هدي الإسلام أن يؤسس الحكم على عقد مواطنة ونظام سلطان، وأن تسود للأفراد حرمات وحريات ومساواة أساسية كيفما اختلفوا أفذاذا وجماعات، وألا يتولى أحد السلطة العليا عنوة بل بخيار الرعية انتخابا حرا عدلا، وأن تكون قرارات الأمر العام الكبرى عن شورى بإجماع أو رأي غالب، وأن تتفاصل تناظيم السلطة وتتكامل وتتوازن وتتضابط تقاسما للسلطة لا احتكارا، وأن يكون الأصل في العلاقات الدولية السلام أو الدفاع عن العدوان.. تلك أحكام إسلامية، كلها معروف مقبول في ميزان الإنسانية كافة مبادئ عليا لازمة لا سبيل في دولة للشذوذ عن بعضها من بعض الرعية، لاسيما أنها تؤسس على الحرية والشورى والعدالة وفيها بوح رأي للملل والطوائف، فإن تجمع أهل ملة في إقليم تباح لهم قسمة من السلطات كلها في سلطان الدولة“[1]
وإن التأمل في طبيعة الوظائف تقوم بها الدولة في الرؤية الإسلامية، يجعلنا نعتقد بشكل لا لبس فيه، أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية وليست ثيوقراطية.. وأن المهام والوظائف الملقاة عليها وظائف مدنية.. ولعل من الأخطاء الشائعة في الكثير من الدراسات والأبحاث السياسية التي تتعلق بفقه الدولة في المنظور الإسلامي، هو عملية الخلط التاريخي بين وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإمام ووظائف الدولة كمؤسسة جامعة وحاضنة لكل التعبيرات والمكونات..
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو على رأس الدولة في التجربة التاريخية، كان يقوم بوظائف وأدوار بوصفه رسولا ونبيا، وليس بوصفه رئيس الدولة.. عملية الخلط على هذين الصعيدين، هو الذي أربك الرؤية تجاه مفهوم الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية.. وحتى تتضح رؤيتنا في هذا السياق، من الضروري أن نحدد وظائف الدولة كمؤسسة وهياكل إدارية بعيدا عن المهام والوظائف الدعوية والدينية والأخلاقية التي كان يقوم بها الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه رسولا ونبيا.. ”والقرآن لا يصف دولة، بل وصف مجتمعا وإذا ما كان القرآن أفقه الفقه والفقيه، فلا يجوز للأخير أن يتخطاه، أي أنه ليس من شأنه أن يصف شكل الدولة ولا طريقة تشكلها، بل يصف عدلها وجورها فيحث على العدل ويحرض ضد الجور، حتى إذا ما بلغ الجور مستوى نوعيا، إندك الفقيه في الاجتماع وفي الطبقة السياسية المعترضة، ليعملوا معا على التغيير، على موجب العدل والعدالة والتقدم، والحرية شرط الشروط.. وهنا يمارس الفقيه دوره في الصف الأول كفرد مواطن مدني.. وفي الأساس الفلسفي للمسألة أن الاجتماع، بما هو متحدات ثقافية يدخل الدين في أساسها ثابت، بينما الدولة متغير، والمتغير محفوظ في الثابت منهجيا، كما أن الثابت محفوظ في المتغير، ولكن من دون مشروع محدد سلفا، لأن الدولة كضرورة اجتماع مفهوم متحرك تقدر بظروفها“..
إننا نعتقد أن وظائف الدولة «أية دولة» بعيدا عن مضمونها الأيدلوجي ورسالتها العقدية هي :
1 - حفظ الثغور والحدود ومنع أية محاولة للتعدي والعدوان.. وإن أي خلل على هذا الصعيد يعد تهاونا من مؤسسة الدولة..
فالأهداف الحقيقية والمطلوبة من مؤسسة الدولة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها ومتبنياتها العقدية والفكرية، هي حفظ الأمن وتوفير الاستقرار والسلام وإقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم وضمان التقدم الاقتصادي، وتوفير الفرص للجميع بلا تمييز ومحاباة وحماية المستقبل للأجيال المقبلة..
فصد العدوان بكل أشكاله، هو من المهام والوظائف الأساسية للدولة، وأي تقصير لها في هذا السياق تحاسب عليه..
2 - حفظ المصالح العامة: فمؤسسة الدولة لا يمكنها تعميق شرعيتها في الفضاء الاجتماعي، بدون سعيها المتواصل لحفظ مصالح شعبها العامة.. والدولة التي تفرط بمصالح شعبها تفقد شرعيتها الاجتماعية ولا تلتزم بوظائفها الرئيسية.. فكل التصرفات والممارسات الداخلية والخارجية، التي تقوم بها الدولة ينبغي أن تكون في نطاق حفظ مصالح المجتمع المتعددة..
3 - تحقيق العدالة: في المجتمع الإنساني حيث تتضارب الإرادات وتتعدد الميولات وتتراكم نزعات السيطرة والهيمنة، تكون من وظائف الدولة الكبرى تحقيق العدالة في المجتمع، سواء في الفرص التي تتيحها لشعبها، أو في توزيع الثروات والإمكانات، أو في مشروعات البناء والتنمية.. فالدولة كمؤسسة معنية بانجاز مفهوم العدالة في حياة مجتمعها.. " فبيان الأحكام الشرعية من شؤون الإفتاء وهي وظيفة الفقهاء، وليس للحكومة أن تمنع من توفرت فيه شرائط الإفتاء من بيان الأحكام الشرعية وتعليمها، وليس لها - أيضا - المنع من أن يرجع المواطنون إلى الفقهاء لأخذ الفتيا، وإن اختلفت الآراء الفقهية، ما لم تكن ثمة مصلحة تقتضي أن يكون الاجتهاد موحدا.. كما في مجالات السياسة والاقتصاد والجهاد، فيكون الاجتهاد المتبع إما اجتهاد الحاكم إن كان مجتهدا، أو يختار اجتهاد من بين الاجتهادات، فيكون هو الملزم.. ولكن مع ذلك لا يمنع ذلك الفقهاء الآخرين من إبداء رأيهم المخالف، لأن توحيد الاجتهاد يقتصر على مجال العمل والتنفيذ..
وربما يختزن هذا الرأي - ضمنا - قدرا كبيرا من إعطاء حرية التعليم في الدولة الإسلامية، إذ في الوقت الذي لم يكن فيه الحق للدولة الإسلامية أن تحتكر التعليم الديني، فربما من الأولى عدم إعطاء الحق لها في احتكار التعليم غير الديني، ما لم يكن يتعارض مع النظام العام في الدولة الإسلامية.
ويتضح من خلال الوظائف المذكورة أعلاه، أن وظيفة الدولة الأساسية وظيفة مدنية، تستهدف المساهمة في تأمين حاجات المجتمع الضرورية، والعمل على خلق فرص التقدم وأسباب التطور في المجتمع..