المقدس والحرية
بين الفينة والأخرى تثار في فضائنا العربي والإسلامي، مجموعة من القضايا والممارسات، التي تستفز الناس وتقسمهم إلى قسمين: الأول مع هذه القضايا باسم الحرية، والقسم الآخر ضد هذه القضية باسم الدفاع والذود عن المقدس والثوابت.. ولعل آخر هذه القضايا المثارة، والتي أخذت أبعادا اجتماعية وسياسية وحقوقية عديدة في تونس هو بث أحد التلفزيونات الخاصة فيلم كرتوني باسم «برسي بوليس» يتعرض إلى الذات الإلهية.. مما أجج النفوس، وأنزل الآلاف إلى الشوارع منديين بالتلفزيون وأصحابه الذين سمحوا ببث فيلم مهين إلى المقدسات والثوابت الإسلامية.. وفي مقابل هذا الموقف عبر العديد من الشخصيات والمؤسسات الفكرية والمدنية والحقوقية عن رفضها لعملية استخدام الشارع، وأبدت وقوفها وتضامنها مع التلفزيون الذي مارس حريته.. وإن رفض هؤلاء إلى ممارسات الشارع، هي تعبيرهم المباشر عن حقهم في الحرية وممارساتها..
ويبدو من هذه القضية وغيرها من القضايا المشابهة، أن هذه المسألة تعود إلى طبيعة العلاقة المتصورة بين المقدس والحرية.. فهناك أطرافا تتصور أن الحرية بكل آفاقها وأشكال ممارساتها الخاصة والعامة، هي القيمة الكبرى التي ينبغي الدفاع عنها، ورفض أي شكل من أشكال تقييدها أو تحييدها..
لهذا فإن هذه الأطراف تقف موقفا إيجابيا ومؤيدا لكل فرد أو جهة مارست حريتها وعبرت عن قناعتها بحرية تامة.. وفي مقابل هذه الأطراف، هناك أطرافا أخرى ترى أن الحرية هي قيمة من مجموعة قيم ومثل عليا، ولا يمكن على الصعيد العملي من التعامل مع هذه القيمة بمعزل عن المنظومة القيمية الكاملة، التي تحدد بعض الحدود والضوابط على مستوى الممارسة..
وإن هذه الحدود والضوابط ليست تقييدا لقيمة الحرية، وإنما في هذا الموضوع أو القضية الأولوية لقيمة أخرى مختلفة عن قيمة الحرية.. وهكذا تتباين وجهات النظر، وستبقى العلاقة بين المقدس والحرية علاقة شائكة وقلقة، وتتطلب المزيد من أعمال العقل والفكر لبناء تصور متكامل لطبيعة العلاقة بين المقدس والحرية..
وفي سياق بلورة الرأي أو خلق مقاربة نظرية جديدة للعلاقة بينهما نود إبراز النقاط التالية:
1 - مع الحرية وضد الإساءة:
الحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما، وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة.. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها.. وكما يقول الدكتور «علي حرب» أن الحرية ليست هواما ليبراليا كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس أرضية أو بديمقراطيات مثالية.. هذه أكبر عملية خداع مارسها وما يزال المثقفون العرب والغربيون فيما يخص تحديث المجتمعات العربي وتطورها.. ذلك إن الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه..
ومن لا سلطة له لا حرية له.. ولذا فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتجاوز أو الصرف والتحول، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء..
من هنا ووفق هذا المنظور مع الحرية كقيمة مركزية في منظومتنا القيمية والفكرية، وضد الإساءة التي قد تمارس باسم الحرية وهي ليست من الحرية في شيء من الحرية أن تمارس قناعتك في أي موضوع، ولكن ليس من الحرية أن تسيء إلى الآخرين ومقدساتهم..
وعليه فإن فك الارتباط بين ممارسة الحرية والتصرف بإساءة إلى ثوابت الآخرين ومقدساتهم تتجلى العلاقة على نحو إيجابي بين المقدس والحرية.. بمعنى أن المقدس لا يقيد حرية الإنسان، لأن هذه الحرية من لوازم إنسانية الإنسان، ولكنه «أي المقدس» يرفض الإساءة المعنوية والمادية لأي إنسان آخر أو منظومة عقدية أخرى..
لهذا فإن فك الارتباط بين الالتزام بقيمة الحرية وأشكال الإساءات التي تمارس يساهم في تعميق مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي، ويزيل العديد من الهواجس والالتباسات التي يعيشها بعض الناس تجاه قيمة الحرية..
فالحرية ليست تفلتا من الأخلاق، وليس تشريعا للإساءة، وليست وسيلة لهدم الثوابت والمقدسات، وإنما هي ممارسة عقلية ونقدية، تستهدف تظهير الحقائق باستمرار ومنع قمع السؤال مهما كان موضوعه وإبراز مستديم لإنسانية الإنسان التي لا يمكن أن تتجلى بدون الحرية قولا وفعلا..
2 - المقدس لا يشرع للتطرف وهتك الحرمات:
وفي مقابل الحرية التي ترفض الإساءة المعنوية والمادية لأي طرف من الأطراف، المقدس لا يشرع في سياق الدفاع والذود عنه ممارسة التطرف والتشدد والغلو أو هتك الحرمات والأملاك العامة والخاصة.. لأن كل هذه الأشكال ليست دفاعا عن المقدس وثوابته، وإنما هي افتئات بحق المقدس..
لهذا فإننا في الوقت الذي نمارس النقد تجاه أولئك النفر الذي يمارس الإساءة المعنوية والمادية بحق الآخرين باسم الحرية، في ذات الوقت نرفض ممارسة التطرف وقتل الأبرياء وهتك الحرمات والأضرار بالأملاك الخاصة والعامة باسم الدفاع عن المقدس وثوابت الأمة.. فإذا كان التلفزيون المغاربي، ارتكب خطئا في عرض الفيلم الكرتوني المسيء للذات الإلهية، فإن الرافضين لهذا العرض، ارتكبوا بدورهم خطئا شنيعا تجسد في ممارسة التطرف وقذف الناس بدون وجه حق وتدمير بعض الممتلكات الخاصة والعامة..
فالمقدس لا يتم الدفاع عنه، بوسائل وآليات يرفضها ولا تنسجم ونظام قيمه التشريعي والأخلاقي.. فالمقدس لا يتم الدفاع عنه بهدم قيم الحرية وهتك الكرامة الإنسانية، وإنما يتم الدفاع عنه، بالالتزام بهذه القيم ومقتضياتها المتنوعة.. كما أن الحرية كقيمة وممارسة، لا يتم الدفاع عنها، عبر ارتكاب الموبقات والمحرمات، ومصادمة الناس في مقدساتهم، وإنما من حقك الأصيل أن تعبر عن قناعاتك وأفكارك، دون أن تتعدى على حقوق الآخرين المعنوية والمادية.. فكما أن من حقك أن تؤمن بفكرة وتعبر عنها، من حق الآخرين أيضا الإيمان بفكرة والتعبير عنها.. وإيمانك بفكرة، لا يجعلك أنت الوحيد القابض على الحق والحقيقة، كما أن إيمان الآخرين بذلك، لا يحولهم وحدهم هم القابضون على الحقيقة..
فنحن مع الحرية وهي حق مصان للجميع، وهذا الحق لا يعني بأي حال من الأحوال، أنه يشرع لأحد حق الافتئات على مقدسات الناس وكراماتهم..
فالحرية هي بوابة الدفاع عن المقدس وثوابت الأمة.. والمقدس ليس نقيضا للحرية، بل هو أحد المدافعين عنها، والمانحين لها مضامين إنسانية وحضارية..
فالتعصب لا يحمي المقدسات، بل يشوهها، ويخيف الناس منها.. كما أن العنف لا يوقف الإساءات التي قد تمارس تجاه مقدسات الأمة وثوابتها..
لهذا فإننا نعتقد أن الإساءات المعنوية والمادية تبعد العلاقة على المستوى الإنساني بين الحرية والمقدس، كما أن التعصب والتطرف وانتهاك الكرامات والحرمات، يعمق الفجوة بين المقدس والحرية..
والصورة المثلى التي تنشدها المجتمعات العربية والإسلامية، هي أن تعيش حريتها كاملة على قاعدة احترام مقدساتها..