آخر تحديث: 2 / 12 / 2024م - 6:50 ص

خواطر حول مشروع النهضة العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

تشكل مغادرة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للبيت الأبيض، وتسلّم جو بايدن سدة الرئاسة، مرحلة جديدة في العلاقات الدولية. فالرئيس الجديد اعتمد برنامجه الانتخابي على العودة مجدداً لمفهوم الشراكة، مع القارة الأوروبية، وإنهاء مرحلة العزلة التي عاشتها بلاده أثناء رئاسة ترامب. هذه السياسة تحمل معنى متضمناً، هو عودة مفهوم العولمة، وتنشيط منظمة التجارة الدولية التي بهت دورها في السنوات الأربع المنصرمة.

الوطن العربي، كان باستمرار، في القلب من مشاريع الرؤساء الأمريكيين، وبشكل خاص منذ تكشف ما تختزنه الأراضي العربية، من ثروات نفطية هائلة. وقد برز التدخل الأمريكي بوضوح، في شؤون المنطقة، منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، حتى يومنا هذا. وقد كان هذا الدور، في الأغلب للأسف، بالضد من التطلعات والأماني المشروعة للأمة العربية.

ومنذ نهاية الحرب الباردة، تضاعف الاستهداف الأمريكي للمنطقة العربية، وأعلن عن مشاريع تفتيت، لعدد من الأقطار العربية. وقد بلغت ذروة هذه السياسة أثناء فترة باراك أوباما، حين أشعل خريف الغضب العربي، في مصر، وتونس وليبيا، وسوريا، واليمن.

وفي سياسة التفتيت هذه يتفق الحزبان الرئيسيان، الجمهوري، والديمقراطي. والذاكرة لا تزال تحتفظ بمشروع بايدن لتقسيم العراق الذي صوت عليه الكونجرس الأمريكي، باعتباره قراراً غير ملزم.

لا يزعم هذا الحديث أن السياسة الأمريكية في عهد الرئيس الجديد، ستكون استنساخاً للسياسة التي سادت أثناء رئاسة باراك أوباما، حيث شغل بايدن وظيفة نائب الرئيس الأمريكي. فمثل هذا الزعم غير علمي، لأنه يغيّب التغيرات الكبرى التي حدثت في المشهد السياسي الدولي، منذ مغادرة أوباما، قبل أربع سنوات لسدة الرئاسة، ويوقف حركة التاريخ. ولكن ذلك لا يمنع من تقديم قراءة استشرافية تستند إلى مقاربات سابقة، قادها رؤساء يتبنون النهج السياسي نفسه.

والأقطار العربية، في راهنها، تشكل حالة رخوة تجعلها منطقة غير مستعصية على الاختراق من قبل قوى الهيمنة، أياً كان مصدرها. وذلك ما يفرض على المفكرين والقادرة العرب استعادة روح مشاريع النهضة، التي ارتبطت بعصر اليقظة، وعمادها مواجهة التدخلات الخارجية، وبناء القدرات الذاتية والتنمية المستقلة، وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، والحد الأدنى من التنسيق من أجل حماية الأمن القومي العربي.

ومما لا شك فيه، أن أي نهضة حقيقية، بحاجة إلى مشروع فكري وحاضن اجتماعي يضطلع بتنفيذه. فالفكر كما أكدت التجربة التاريخية، هو قاطرة الحضارة، حيث المنجزات العلمية، والفنون، والإبداع.

والنهضة التي ننشدها، ليست ابتداعاً عربياً، بل هي نتاج تراكم الفعل الإنساني. لكن ذلك لا يقلل من شأنها، فقد كانت الأفكار دائماً طلائع التحولات السياسية الدراماتيكية، التي ارتبطت بالثورات الاجتماعية. وقد أسهمت في تقديم رؤى ومناهج جديدة للحياة، وهيأت لانبثاق دولة الحق والقانون التي عرفت لاحقاً بالدولة المدنية، وعمادها العقد الاجتماعي.

وفي وطننا العربي، برزت طلائع النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ضد الاستبداد العثماني، وحمل قادتها على عاتقهم إنجاز مهمتين رئيسيتين، الأولى إحياء اللغة العربية، وبعث التراث والانفتاح على الفكر الإنساني العالمي، والثانية مقارعة الاستبداد العثماني، والعمل على تحقيق الاستقلال عنه.

لكن مشروع النهضة العربي الراهن ينبغي أن يكون بقياسات مختلفة، من حيث ارتباطه بالفكر، وبعالم الاقتصاد وموارده، وقواه المحركة. فليس يكفي الاعتداد بما نملكه من مواد طبيعة، ومواد خام، من دون تحويلها إلى منتج صناعي.

المشروع النهضوي الراهن، ينبغي أن يعتمد التراكم، والقدرة على الاستمرارية، شأنه شأن خطط التنمية الاقتصادية، لا يمكن إعادة استنساخها، لأنها بحاجة إلى تمثل دائم يستلهم احتياجات اللحظة. وموضوع التطور النهضوي في مجتمعنا، رهن بقدرتنا على استمرار القفزات التنموية التي أسهمت في نقل مجتمعاتنا من حال إلى حال. لكن المعضلة أن هذا النمو ترافق مع اقتصاد ريعي خلق سلبيات كثيرة.

لقد مرت أمتنا بكوارث كبرى خلال العقدين المنصرمين، توجت بوباء“كورونا”، الذي عطل حركة الاقتصاد والبناء والتنمية، بشكل يكاد يكون شاملاً. ولا سبيل للخروج من الأزمة الراهنة، إلا بتوافر الوعي والقدرة والإرادة، وتوفير الشروط للتحول إلى المجتمع المنتج. ولن يكون ذلك ممكناً إلا بتفاعل وتلاقح الأفكار العربية، والتحريض على وجود استراتيجية عربية، لمقابلة التحديات الخارجية، استراتيجية تبنى على المصالح القومية، واحترام الذات، وإعادة الاعتبار، للانتماء والتكامل وللهوية العربية، في عالم تكتلات كبرى، وصناعات ذات أبعاد كبيرة، ليس فيه مكان للضعفاء، ولكون ذلك مدخلاً لنهوض الأمة.