آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 6:12 م

ماركسيّ على سنة الله ورسوله

نضال البيابي

لكل حقبة أوهامها، ولكل مؤدلج هلوساته وهذياناته وأحلامه، والواقع ليس معطى أزلياً ولكنه نتاج ”بنى الهيمنة“، والواقعي ليس عقلياً بالضرورة كما أن ”الحياة الواقعية“ قد تكون نقيضاً للعقل، لكن هذا لا ينفي صحتها سيكولوجياً، وإذا استدعينا مقولة هيجل الشهيرة عن أنّ ما هو معقول هو واقعي حقيقة، وما هو واقعي حقيقي هو معقول، فإننا سنميز بين الواقع الحقيقي والواقع الحادث أو الفعلي، إذ يمثل الأول واقعاً تغلب على التعارض بين الممكن والموجود في حين أن الآخر يمثل الواقع المتعارض مع العقلي، والعقل هنا ليس عقل الأصولي أو الأيديولوجي أو حتى ”المثالي“ وإنما كما عبر عنه كانط بمبدأ الحكم الذاتي أو العقلانية النقدية لبوبر، وبهذا سوف نخضع الواقع المعطى إلى معايير العقل وليس تكييفه وتدجينه حسب ما يقتضيه النظام القائم والقيم السائدة أو التفكير الرغبوي.

مثلاً فكرة أفلاطون عن أن لدى كل إنسان مصدراً إلهياً للمعرفة يكمن في روحه التي كانت تعرف كل شيء قبل أن يولد ولكنه بعد الولادة ينسى كل شيء إلا أنه يمكن أن يتذكر تلك المعرفة القبلية إذا رأى الحقيقة وتأكد منها، لأن الحقيقة تعلن عن نفسها، وهذا ليس معياراً للحقيقة كما أنه ليس هناك معيار ثابت للحقيقة، وطالما أن المعرفة شيء إنساني فإنها رهينة بكل مظاهر النسبية التي تشكل الوجود الإنساني، لأن منتج النظرية قد يكون عرضة للتأثر ولو بشكل لا شعوري بآماله ومعتقداته الشخصية ومهما تكن عبقريته فهو محدود بتراثه الثقافي وأفقه المعرفي، لذلك أفلاطون بعد أن استحوذ عليه اليأس تراجع عن هذه الفكرة وحَصَر المعرفة في عدد قليل من الصفوة المختارة في كهفه الشهير، فلو غادر أحدهم الكهف لوجد صعوبة بالغة في فهم ذلك العالم الجديد.

إن كثيراً من المفاهيم الأخلاقية ليست ذات طابع كوني وأبدي بل تخضع للبعد الزمني، إذ المراحل اللاحقة للفكرة الأخلاقية الأولى تحوي ضمناً المراحل السابقة كتقدم ديالكتيكي وأن الفكرة الأولى مهدت الظهور للمرحلة الثانية وهكذا دواليك، وعلى سبيل المثال، لاحظ الفيلسوف ألسدير ماكنتاير أن كلمة أخلاقي ”moral“ كما نفهما اليوم، لم تكن هناك أي كلمة في اللغة اللاتينية، وهي لغة التواصل في أوروبا قبل عصر التنوير، ولا في اللغة اليونانية القديمة، يمكن ترجمتها بصورة صحيحة إلى كلمة أخلاقي بالمفهوم الحديث، بل لم يكن ثمة كلمة مثل هذه إلى أن ترجمت كلمة ”moral“ بالمعنى الحديث إلى اللاتينية. ويتسق هذا مع أطروحة وائل حلاق عن ”الدولة المستحيلة“ الذي ينفي أيضاً وجود مرادف دقيق في اللغة العربية قبل القرن التاسع عشر لكلمة ”أخلاق“ بكل ما تحمل من دلالات اليوم في الفلسفة الأخلاقية والقانونية. ويمكن أن نجادل أن مفردة ”أخلاق“ عند مسكويه، في تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، أو مكارم الأخلاق للطبرسي، التي اتسعت دلالاتها مع القراءات الحديثة، لا تعدو عن كونها إسقاطاَ للحاضر على الماضي واستعادة الماضي مُحَدَّثاً في الحاضر. وإذا كان هذا الاستقراء فيه فيه نظر؛ فماذا يمكن أن نقول عن مفهوم لا خلاف على حداثته كمفهوم ”حقوق الإنسان“ مثلاً وإن كان له إرهاصات في الفلسفة اليونانية وكذلك الفلسفة العربية وحتى عند كبار المتصوفة ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا؟ ولكن هل يمكن اعتباره مكافئاً أو مرادفاً للمفهوم الحديث؟

من هنا كان مأخذنا على الراحل عبد الوهاب المسيري في محاولته ابتكار نموذج إدراكي تحليلي جديد لدراسة دور الدين وقضية الجنس والنزعة الاستهلاكية أو ”الإمبريالية النفسية“ في المجتمع الأمريكي، المسيري الذي كان مفتوناً بهيجل وماركسياً على سنة الله ورسوله، أراد أن يروض ”الذئب الهيجلي“ في داخله فوقع من حيث لا يدري فريسة له، لأن هوسه بالمابعديات وتجاوز ما سمّاه بالقوالب الإدراكية الجاهزة، دفع به إلى أن يجمع أشتاتاً من حقول مختلفة، كالجمع بين التجريد والتنظير والشمول الهيجلي ونقد مدرسة فرانكفورت، وبأن يكون تحليله مركباً متعدد الأبعاد وبأن لا يسقط في هوة ”النسبية العدمية“ وأن يستنير كبديل عن ذلك ب ”النسبية الإسلامية“ التي تعني بأن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقاً واحداً هو كلام الله وما عداه اجتهادات بشرية، وأن يدمجها مع مقولاته التحليلية مثل نهاية التاريخ والفردوس الأرضي والثالوث الحلولي، بعبارة أن لا يكون اختزالياً تبسيطياً في قراءته لعوالم شديدة التعقيد والتركيب، عوالم الإنسان وأسراره. فماذا كانت النتيجة بعد كل هذه الهرطقة والتوليفات غير المتجانسة في الجمع بين الشيء ونقيضه؟

يجادل المسيري أن الإنسان لا يمكن أن يشعر بحريته ومسؤوليته الأخلاقية إلا إذا جمع بين الثنائية الأساسية، ثنائية الخالق والمخلوق، لا الثنائية الفضفاضة، ثنائية الإنسان والطبيعة، لأنه يستحيل حسب تصور المسيري تفسير الإنسان ضمن إطار الطبيعة بسبب أسبقيته عليها، كما أنه لا أحد يعلم حقيقة الإنسان في كليته إلا الله، فهو، أي الإنسان، ليس جزءاً لا يتجزأ من العالم الطبيعي كما يقول المسيري، إنما جزء يتجزأ منه.

هذا مدخل ضروري لفهم النموذج الإدراكي التحليلي للمسيري، الذي يغلب عليه الغرق كثيراً في التعميمات والانطباعات الشخصية وتحويل الجزيئات إلى كليات والعكس وإطلاق الأحكام المتسرعة والتفسيرات الاختزالية ذات البعد الواحد، فتجده مرة يتحدث بلغة الباحث البارع والحاذق عن صور التنميط والضبط الفوكوي والتحكم في السلوك والاغتراب التي تسم أشكال الحياة في المجتمع الرأسمالي مستعيناً بأجود أدوات هيجل التجريدية ودمجها مع خلاصة من نظريات فرويد والماركسية المطورة وبشيء من أصالة فيبر وحرفية مدرسة فرانكفورت النقدية وأطروحة ماركوز عن الإنسان ذي البعد الواحد فتهتز طرباً لموسوعيته وهضمه لتلك المقولات والنظريات كما أنه أجاد في مجمل تحليلاته للخطاب العقدي المناصر لإسرائيل في أمريكا وتأكيده على أن الخطاب الرسمي وجانباً كبيراً من الخطاب الديني سيما أغلبية المتشددين من البروتستانت هو خطاب برجماتي وأحياناً عدائي عنصري حينما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين والعرب وكذلك عقدة الإثم التي تسم الخطاب الأمريكي في تعامله مع اليهود ورغبته في تعويضهم عما نالهم من أذى في الغرب المسيحي، فإسرائيل أصبحت ملاذاً ووريثة لملايين من ضحايا المحرقة وحارسة دين ”لم يعامله التاريخ بلطف“، لكن سرعان ما تشعر بخيبة أمل كبيرة وصفعة تعود بك من سكرات الافتتان إلى الواقع حينما يتعثر بقضية الجنس أو الدين فيغفو ”الذئب الهيجلي“ ويستيقظ الشيخ أو الدرويش المتربص في داخله، فيعزو مثلاً ”السعار الجنسي“ في بعض جوانبه إلى رغبة إنسانية في الوصول إلى نقطة ثبات يقينية كردة فعل على عالم ”النسبية السائل“ أو سيولة القيم، ويسوق في هذا السياق حكماً غريباً وهو أن النسبية ”المعرفية والأخلاقية“ تنزع القداسة عن العالم وتجعل كل الأمور متساوية، فيصبح الظلم مثل العدل، والنزعات الثورية والراديكالية لا تختلف عن بواعث المحافظة، وهذا على عكس المقولة الهيجلية عن صراع الأضداد وأن كل سلب تعيّن وأن كل تصور يحمل في داخله ضده، فالنقيض كامن في ذات الشيء وقد يجتمع النقيضان على الصعيد النفسي لا العقلي وحسب، وهذا الضد في صيرورته يشكل حركة تصاعدية بلا نهاية، وبصراع الأضداد تولد الحركة ويبعث التطور في الواقع الاجتماعي، بل لا توجد حالة قط إلا وهي ”تنطوي على ما يناقضها، فلا تبلغ تمامها إلا ظهر منها النقيض الذي تنطوي عليه“، فالحرب تكون ضماناً للسلم واللاحرية شرطاً للحرية، كما يكمن الإلحاد في الدين، والوثنية أو الكثرة في الوحدة، والثورة في المحافظة، والشيطان أيضا لم يكن سوى ذلك ”الملاك المخلوع“، وكما يقول المثل العربي: ”العنب إن صح فسد وإن فسد صح“، ومن هوية الضدين يمكن أن يتشكّل مركّب جديد أو هوية جديدة تحتفظ بشيء من الضدين معاً في ذاتها، وهذا الطابع الدينامكي للمعرفة يؤكد على طبيعة التغير والحركة المستمرة حتى في صميم المجتمع الذي يبدو ظاهرياً متماثلاً وخاملاً وثابتاً، بل هو سيرورة الحرية التي تهتدي إلى نفسها أو قل هو ”المقاومات العشوائية“ ضد تفاقم قوى القمع، غير أن المسيري يؤكد في حديثه عن ”المغترب“ على أنه من ”المستحيل على الإنسان الفرد أن يتخذ أي قرارات بشأن أي شيء“ وبالتالي من السهل الهيمنة عليه، وهذا التحليل الذي توخى التركيب والشمول لا يصح حتى على الخراف المدجنة وفئران التجارب في المختبرات العلمية فما بالك بالإنسان، كما أنه لا يصح حتى مع توخي أقصى درجات التجريد في ديالكتيك السيد والعبد عند هيجل.

لا يوجد علاقة شرطية ضرورية صارمة بين الهوس الجنسي أو إدمان الجنس الذي هو مرض كمرض الإدمان على القمار مثلاً وعدم إيمان المرء بشيء مفارق، فالنشاط الجنسي وإمكانات المتعة في أي مجتمع سواء تعلق الأمر بمحرضات التحليل والتحريم النبذ والتثبيت لا يمكن أن تفهم دوافعه من خلال الاستعانة بالبعد الإيماني للباحث أو بالدين كمقولة تحليلية لتفسيره هذا إذا أردنا أن نفهمه، كما أن خضوع المرء لأنظمة الدولة والمؤسسات الثقافية حد العبودية ليس مرتبطاً بسيولة القيم وغياب ”قاعدة أخلاقية صلبة“، وكذلك فإن ”اختفاء المعايير وفقدان المقدرة على الحكم“ لدى ”المغترب“ لا يعزى إلى كونه كائناً نسبياً وحسب وكأن هذا الافتراض بل هذا الكلام المُرسل يضمر مثلاً أن المتدين أو المؤمن سيكون أكثر قدرة على الحكم على الأشياء فقط لكونه متديناً ولديه مرجعية متجاوزة للطبيعة. بيد أن المسيري يصر على الربط بين مفهومه المشوه عن ”النسبية المعرفية“ و”الانحلال الأخلاقي“، وهذا طبعاً تبسيط مخل ولا يليق إلا بقارئ مبتدئ في الفلسفة، فيقول إن أستاذاً للفلسفة وهو أحد دعاة الحرية الأخلاقية والنسبية المعرفية، رغم أنه كان ”إنساناً فاضلاً“ وكأن ذلك أثار غيظ المسيري لأنه يشي بأن ثمة تناقضاً بين الفكر والممارسة بحسب تصوره، ولذلك قال له المسيري ساخراً: ”إذن ستذهب أنت إلى الجنة أما أفكارك فستذهب للجحيم“. كما أن المسيري يبالغ في الربط المتعسف بين ضمور النزعة الطوباوية وتفاقم السعار الجنسي وكأن عالم الجنس هو التعويض المادي للمدينة الفاضلة، وكلما توارى المطلق في حياة الفرد زاد هوسه بالجنس، وربما لو تصفح بعض كتب الفقه لكان له رأي مغاير، إن الجنس كما يقول المسيري ”ميتافيزيقا من لا ميتافيزيقا له“ ثم يفسر ”المثلية الجنسية“ أو ”الشذوذ الجنسي“ بتعبيره، بأنها بسبب البحث عن ”اللذة الجنسية الخالصة الفردوسية“، ولست أدري ما الذي يعنيه باللذة الجنسية الفردوسية، ولا أظن أن أحداً قد وصل لهذه اللذة الفردوسية ولا يزال حياً. ويرى المسيري أن هذه الممارسة الجنسية هي النتيجة المنطقية والترجمة الأمينة لمبدأ اللذة النفعي، فالمثلي يحاول أن يتغلب على اغترابه وضياعه في هذا الكون الذي ترك فيه بلا رعاية مفارقة بشكل مؤقت فيرتبط في علاقة عابرة مع شخص من جنسه دون التورط في متطلبات ”العلاقة الحقيقية“، وكذلك يربط بين ”حركة تحرير المرأة“ وازدياد عدد ”الشذاذ من النساء“ على حد قوله. فهل كان أبو نواس مثلاً يستعيض بعلاقاته المثلية كبديل عن شعوره بالضياع في عالم هجره ربه؟ وهل يا ترى أن أبا نواس ورفيقه والبة بن الحباب شعرا بهذه اللذة الجنسية الخالصة الفردوسية؟

لكن الأغرب من هذا وذاك هو حديثه عن رواج أفلام ”snuff movies“ وبأنها كانت تعرض في دور السينما الأمريكية، وهي أفلام إباحية عنيفة وغالباً ما تنتهي بحسب رواية المسيري بمشهد قتل بطلة الفيلم وهي في حالة نشوة جنسية، ويتم ”قتلها في اللحظة التي تقذف فيها“. والقتل هنا حقيقي على حد زعمه، أي أن البطلة تذبح كرمى للمشاهدين، لأن هذه الأفلام صورت في أمريكا اللاتينية، وإن كانت تعرض في دور السينما الأمريكية تحت دعاوى ”حرية الإبداع والثورة الفنية“ كما يقول المسيري ساخراً. وطبعا هذا نتيجة للموقف النسبي وإنكار الحدود الأخلاقية باسم الحرية المطلقة! ولست أدري في أي دور عرض شاهد المسيري هذه النوعية من الأفلام! ولتعزيز هذا الوهم يستمر في ذكر أمثلة غرائبية فيقول مثلاً: هناك أستاذة علم اجتماع في جامعة كاليفورنيا دربت طالباتها في الصف الدراسي على ”الاستمناء“ كي ”يمكنهن الاستغناء تماماً عن الرجال“ في مادة ”سوسيولوجيا الحياة الأمريكية“. ثم يقارن بين المجتمع الأمريكي والمجتمع المصري في أواخر الستينيات فيصف عالم الإنسان المصري بأنه أكثر امتلاء وأكثر صلابة، لأنه قادر على الحب والكره، التعاون والتآمر، حب الذات وحب الوطن، ولذلك ليس من السهولة أن يصدق كل ما يقال له، وكاد يقول إنه ديكارتي بالفطرة، بينما الأمريكي فهو على عكس المواطن المصري، يُسهل خداعه، ويؤمن تماماً بكل ما يُقال له، وعلى الرغم من أنه يدعي الاستقلالية والاعتماد على النفس فإنه يقذف بأطفاله إلى سوق العمالة في مرحلة مبكرة. وهكذا تفرغ من قراءة كتابيه وإذا بك لا تعرف شيئاً ذا بال عن المجتمع الأمريكي اللهم إلا جزءاً من الجانب ”الإمبريالي“ للإمبراطورية وبعض الشذرات عن ”عالم السلع الفردوسي“، أما الجانب الاجتماعي والديني والثقافي فإنك ستعرف عن طبيعة القوالب الإدراكية الجاهزة للمسيري أكثر من الحقول والمواضيع التي خضعت لمقولاته التحليلية. رحم الله المسيري ووقانا لوثة الأصولية!


المصادر
عبد الوهاب المسيري، الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1979 الطبعة الأولى
عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 2000 الطبعة الأولى
هيجل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة بيروت 2006 الطبعة الأولى
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
نادر
[ القطيف ]: 17 / 1 / 2021م - 10:51 ص
قراءة نقدية ممتعة، ولكن أعتقد أنك مدعو لاستكمالها، لتشمل الأبعاد والموضوعات الأخرى التي تناولها المرحوم المسيري، وتختبر فيها اتساق المركب التفسيري الذي اعتمده، خلاف الموضوع الجنسي ودوائره.