آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

عالم تديره الغرائز

منصور يحيى *

لم يمر عام 2020 كغيره من الأعوام فقد كان متفرداً من حيث أزماته والتمظهرات التي أبدتها الجماهير البشرية في تفاعلاتها الملفتة مع ما يحدث، حيث لا تظهر الغرائز البشرية ولا قدرة الأفراد على توجيهها إلا في ظروف خاصة كان عام 2020 مسرحاً لعرضها للعيان وفرصة لدراستها وتأملها.

ويبقى الحدث الأكثر حضوراً وتأثيراً حتى بعد نهاية العام هو جائحة كورونا وما ابدته من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتعود هذه التغيرات على المستويات الثلاثة لأصل واحد هو السلوك الإنساني الغريزي وقت الأزمات أو سلوك «الإنسان المذعور»

لقد اتضح بما لا يدع مجال للشك أن تطور العلوم والتقنية مهما بلغت تبقى أسيرةً للغرائز الإنسانية وتقلباتها، سيطرة الإنسان على الطبيعة لا تعينه بالضرورة في السيطرة على نفسه، فالعقل الذي تميز به الإنسان والحكمة والتصرف بمنطق سليم وكل هذه الصفات التي أوهمت الإنسان في هذا العصر بِذات بأنها ذاتيه حتى ليخيل إليه استحالة انفكاكها عنه إذا بها تتبخر في لحظات ليطفو ما تحتها من خوف وهلع وغرائز كانت مستترة خلف غشاء رقيق من الرزانة المصطنعة.

لم يكن هذا قدحاً ولا مدحاّ بقدر ما هو توصيف حالةٍ كدنا ننساها تحت وطئة الانبهار بما حققته البشرية من إنجازات، فلازال العالم يدار بما تمليه الغرائز الإنسانية من خوف وطمع وحب استئثار ومصالح على يد من أهلته قوته على ضعف غيره، فلازلنا بشراً كما كنا ولم يختلف شيء وإن تطورت العلوم والأدوات، فبالنهاية هي بيد الإنسان الذي سيستخدمها، بحسب ما ينتج عنه وعيه الذي هو إفرازات معقدة من المشاعر والغرائز المتأثرة بعوامل يصعب حصرها، والتي في النهاية قد تصيب وقد تخطأ في اتخاذ القرار.

إن مجرد التفكير في احتمال تَوَلُّد هذا الفايروس مخبرياً يرسخ في الاذهان إمكانيةِ دمار كل هذه الإنجازات البشرية بعملٍ أخرقٍ واحدٍ من هذا النوع، كما لو كنا نسير فوق حائط يضيق بنا، كلما تقدمنا أكثر زاد احتمال السقوط، أو كأنا نعيش على شفا حفرة الهمجية التي قد تدفعنا إليها يوماً ما غرائزنا المتأصلة فينا، إن الانحدار أسهل من الصعود دائماً، كما أن خطورة سرعة التقدم العلمي قياساً إلى التقدم الإنساني الأخلاقي البطيء يؤدي إلى نتيجةٍ تشبه ترك سلاحٍ ناريٍ في يد طفل ليلهو به.

على الجانب الآخر أظهرت الأزمة تباينات ملفتةٍ في الاستجابة لهذا الحدث التي هي تمثلات متعددة لظاهرة واحدة، فمنذ ظهور الفيروس وتعدد التنظيرات العلاجية المقاومة له حتى ظهور اللقاح وتعدد ردود الفعل حول جدواه والتشكيك بغاياته، ما يجمع بين كل هؤلاء هو خوف الضرر والموت وحب السلامة والبقاء وتفرق بينهم القناعات حول أفضل الطرق لذلك.

فمن يرى العلم ومن يرى غيره، المشكلة هنا هي في توجيه الغرائز وما يترتب عليها من آثار كارثيه، ومن المضحك هنا أن الإنسان الذي تجاوز جميع منافسيه لازال يتعثر في نفسه، فتلك القوة الدافعة لبناء الحضارة تكمن فيها بذرة اندثارها أيضا، نحن مجبرون على العيش بجانب غرائزنا ومجبرون على توجيهها الدائم توجيهاً صحيحاً لأنها جزء من ذاتنا التي بدونها لن نبقى بشراً.

فمن الحدود الدولية والأوراق المالية والبورصة العالمية إلى الآراء والمعتقدات وحتى الفن والحكايات والاساطير وكذلك الحروب هي كلها تَمَثُّلٌ حَي لما يحتويه ذلك الكائن من تعقيدات شكلت الواقع كما نعرفه اليوم، فما العقلانية سوى توجيه مناسب للغرائز البشرية التي يُبنَى العالمُ من خلالها، هذا هو الإنسان وهذِهِ حُدودُه بميزاته وعيوبه وأما الطوباوية المغرقة في المُثُل المُتَعاليةِ على الواقع والتي تفترض إنساناً أشبه بالآلة مجرداً من هذه الغرائز فَلَم يوجد بعد، حتى الآن على الأقل.

ان الجميع لديه نفس المخاوف والغرائز الدافعة لخيارات معينة متاحة أدت إليها مدخلات سابقة ولا يكون الفارق والاختلاف إلا في التوجيه الذي على حسبه تكون النتيجة.

فلنبحث خياراتنا ولنهتم بأجوبتنا فبحسبها سيكون مصيرنا.